نص كلمة وقفة مع ذكرى الأربعين
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على اشرف أنبيائه ورسله حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
جاء في الحديث الشريف عن الحبيب المصطفى محمد (ص) انه قال: «حسين مني وانا من حسين، أحب الله من أحب حسينا»[2]
ذكرى الاربعين وما تحمله من دلالات
بعد اربعين يوما من شهادة السبط الثاني، فان للأمة وقفة مع الذكرى تمظهرت فيها من خلال قوالب شتى رسم كلٌ بريشته ما طاب له وبدموعه ما استحسنه، يقول احد المسيحيين وهو انطوان بارا: «لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين»، هذه قراءة لرجل لا يرتبط مع الإمام الحسين (ع) برابطة دين، وإنما يرتبط معه من خلال الإنسانية التي تجمع أبناء ديانات على تفرقهم وأصحاب الطرق والآراء على تشتتهم، الحسين بن علي (ع) كان الانسان ومثّل الانسان في اكمل صوره ولا غرابة في ان يكون كذلك، لان الإمام الحسين (ع) تولد من صلب طاهر وأودع في رحم طاهر وتقلب في ارجاء بيت واجواء بيت لم يتقلب في أجوائه الا من اختص به، ولو كان ذلك ملك فما كان يتسنى له الدخول لذلك البيت إلا بعد ان يستأذن، فكان جبرائيل يهبط من السماء قاصدا لأداء رسالة وحي الا انه وفي هذه الفرضية لم يكن من حقه ان يدخل إلى الدار الا بعد سلام واستيذان، الإمام الحسين (ع) أبوه علي وكفى، وأمه الزهراء وكفى، وأخوه المجتبى وكفى، ويجمع الكل في الكل الحبيب المصطفى محمد (ص)، كلنا دعانا الإمام الحسين (ع) واجبناه، كلنا ملأنا الفضاءات من حولنا لنقول للحسين بن علي (ع) ان تنكّر لك من كاتبك، وان حاربك من دعاك، فإننا رغم القرون التي تفصل بيننا وبين الذكرى وبين حدود المأساة والثورة الخالدة والنحر المتدفق بالدماء لا زلنا كما أردت نستجيب إذا ما دعوت، ولنا موعد اكبر مع خلف على الأرض اكبر هو الخلف الحجة من آل محمد (ص).
العناصر المطلوبة للمرحلة الراهنة
إذا كان هذا المسيحي يقرأ الإمام الحسين (ع) بهذه القراءة فما عسى ان تكون قراءتنا أيها الأحبة، أيها الحسينيون ونحن الذين يفترض ان قد تشبعنا من ثقافة الطف، من ثقافة عاشوراء، من ثقافة الحسين وزينب، من ثقافة العباس والأنصار والنخبة من آل هاشم، أيها الأحبة عقودٌ مرت علينا نتنقل من خلالها من مجلس إلى مجلس ونستمع إلى أكثر من صوت وصوت، تنوعت بضاعاتهم، استعرضوا حيث شاؤوا لكن السؤال المستحق بحقنا ما الذي استفدناه طوال هذه العقود؟ أليس من حقنا ان نقف مع أنفسنا وقفة مراجعة؟ هل نحن اليوم أحسن مما كنا عليه قبل عقود ولا اقل قبل عقد واحد؟ أم أننا نسير إلى الوراء، أيها الأحبة علينا ان لا نخطف بالأرقام الكبيرة وان لا نضيع بالاعداد المتوفرة، لان الكم لم يكن في يوم من الأيام يعني شيئا حتى في القرآن الكريم كان التأكيد واضح وصريح وبين على هذه القضية: ﴿اِذ اَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم ...﴾[3] اذن الملاك أيها الأحبة هو ملاك الكيف لا الكم.
القراءة الواعية والدقيقة للثورة الحسينية
السيد المغيب موسى الصدر حفظه الله تعالى ان كان حيا وجمعه الله مع اجداده ان كان تتوج بتاج الشهادة يقول بان البكاء على الحسين لا يكفي الحسين، لان الحسين لا يحتاج إلى ذلك، الحسين شهيد الاصلاح فاذا شاركنا في اصلاح امتنا، واذا شاركنا في اصلاح امة جده نصرناه، واذا سكتنا او منعنا الاصلاح خذلناه ونصرنا يزيد! هذه القراءة الكاملة الواعية الدقيقة لأهداف الامام الحسين (ع) الامام الحسين (ع) هو الذي يقول: «وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[4] ما قاله السيد المغيب موسى الصدر حفظه الله تعالى ما هو الا استرجاع لما قاله جده الشهيد الخالد الامام الحسين بن علي (ع) لذلك نحن نسال اليوم من انفسنا: اين نحن من هذه القراءة وهي التي لم تبنى على التولد او التلقي والمجارات وانما تولدت من خلال سبر عمق القضية، ومن خلال الروافد التي قرأها الانسان، ومن خلالها اعد نفسه ليستشرف العوالم من حوله، عوالم الطف وهو الركن الاول، عوالم عاشوراء وهو الركن الثاني وعوالم السبط الشهيد امام القضية والرمز الخالد الحسين بن علي الحسين بن فاطمة بنت النبي محمد (ص)، أيها الاحبة لا يكفي في هذه الفترة الزمنية ان نعيش أئمتنا عليهم السلام من خلال اننا ولدنا من أبوين علويين، من ابوين على ولاء علي ومساره وانما علينا ان نخطو خطوة للأمام علينا ان نقرأهم واحدا تلوى الآخر ما هي مدارسهم، ما هي معطيات تلك المدارس، ما الذي ينبغي ان نستجديه ونستجليه، ما الذي ينبغي ان نضيء طريقنا من خلاله.
الدقة في اختيار الخطيب
كذلك التلقي ينبغي علينا ايها الاحبة ان ننتقي المنابر التي نستفيد منها، علينا ايها الاحبة ان ننتقي وبكل عناية الخطباء الذين يرتقون على منابرنا، لان اليوم ليس كالامس وشبابنا اليوم ليس هم شباب الامس وانما هنالك مفارقات كبيرة وتقدم واضح وملحوظ يكتنفه شيء من التهديد ما لم نلتفت له ونضع الحلول والسدود دونه فان السفينة ستغرق وان المسار سيطول بنا بعيدا، وقتها ايها الاحبة سنندب حظا ولات حين مناص.
عدم مجارات الخطيب
كذلك المجارات ايها الاحبة بضاعة كاسدة لا ينبغي ان نجامل خطيبا على شيء يتسبب في اغراق سفينتنا ويذهب بآمالنا ويحطم كل الرغبات في داخلنا، ايها الاحبة في التاريخ غث كبير ما لم يكن الخطيب على مستوى بعثرة الأوراق ولملمتها من جديد واستنطاق النص بما يتماشى وروح العصرنة اليوم وهو ما لا يتنافي بل هو المطلب عند اهل البيت عليهم السلام لان كلامهم يسير مع الزمن لانهم لا ينطقون عن محدودية حين ينطقون، وانما ينطقون عن وحي بينهم وبين الله سبحانه وتعالى الواسطة بين النبي والسماء جبرائيل واما الواسطة بينهم وبين السماء فهو النبي الأعظم محمد (ص).
عدم الاكتفاء بالتمظهر والولوج في العمق
ثم سؤال آخر ايها الاحبه اين نحن من هذا الزحف المليوني الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا عبر مسيرته الطويلة، هل نكتفي بهذه المشاهد وبهذه المظاهر ثم تطوى الصفحة ونسأل بعدها ثم ماذا؟ ما الذي كتبناه عن الشهيد في هذه الأيام وما الذي قرأناه عن الشهيد في هذه الأيام؟ وما هو الوجه الذي اطردناه للعالم من حولنا من خلال هذا الزحف المليوني؟ هل استطعنا ان نرسم لوحةً نذهل العالم من شرقه إلى غربه من خلالها؟ ام اننا لا زلنا نعيش في حالة من الانبهار كأننا لم نرى شيئا؟ ايها الاحبة، تاريخنا فيه الكثير، غاية ما في الأمر عمّي علينا وصودر وحورب وقتل حملة التاريخ لذلك علينا ان نبكي انفسنا، وواقعنا والجفاف الذي نعيشه في ثقافتنا، الإمام الحسين (ع) دعانا وما زال: «اما من ناصر ينصرنا» طلبه للنصرة ليس فقط بالتضحية بالدم والنفس والنفيس في يوم كربلاء وإنما علينا ان نقدم النصرة له وان نرفع لواءه وان نجول البلدان بمصباحه المضيء الذي أصّله في الأرض وفروعه ممتدة إلى الآفاق العليا.
اهمية عنصر الاخلاص
ايها الاحبة اذن اين نحن من مدرسة الإمام الحسين (ع) بكل تشعباتها الاخلاص في العبادة فهل اخلصنا لله في عبادتنا علينا ان نسال من أنفسنا وان نقف معها ولو دقائق الصلاة التي نصليها هل تحمل معنى الإخلاص لله سبحانه وتعالى؟ المباني التي ندعي أنها قربات الى الله سبحانه وتعالى ومظاهر لمحبة اهل البيت عليهم السلام هل هي تحمل في جوهرها روح الإخلاص؟ أم أننا ما زلنا نتصارع على وجبة صغيرة من الاكل كتب عليها بين قوسين بركة الامام الحسين (ع)، نتنافس لقمة واحدة ثم يقع بيننا ما يقع هل هذه هي النصرة التي كان يتوقاها الإمام الحسين (ع) منا! ثم بعد ذلك ايها الاحبة بات البعض من الأولياء القائمون على المساجد والحسينيات والتكايا ينتقون من يدخل إلى المساجد والحسينيات ومن لا يدخل! ليست المساجد لأحد ولا لأئمتها ولا الحسينيات لأحد ولا لأوليائها وإنما المساجد لله ومن رد في ذلك فهو راد على الله، والحسينيات للحسين (ع) نسميها ولكن لا نجمع بينها وبين الواقع الخارجي، من نشكوا وعلى من نشتكي الامر منا والينا أي تقصير ايها الاحبة في هذا الجانب نحن محاسبون عليه، الاخلاص امر جوهري لان الروايات تقول: كم من صائم وليس له من صومه الا الجوع والعطش، لانه لم يخلص في صومه، وكم من انسان يأتي يوم القيامة وهو مصلي في الدنيا الا ان صلاته ترمى في وجهه وعلى هذه فقس ما سواها من الشواهد التي تطرقت لها النصوص الشريفة عن آل محمد، لا يكفي ايها الاحبة ان نزحف بالملايين ونحن لا نؤدي صلاتنا وإذا ما أديناها لا نحافظ على وقتها وإذا ما حفظنا على وقتها لم نحافظ على شروطها والابتعاد عن منافياتها وعلى هذا فقس ما سواه
الصدق في الدعوى
إذا كنا نستجيب للإمام الحسين في ندائه: اما من ناصر ينصرنا، علينا ان نكون صادقين مع انفسنا اولا حتى بعد ذلك نستطيع ان نوصل حالة الصدق مع الآخرين، لكن ايها الاحبة! اذا كنا نكذب مع انفسنا آناء الليل وأطراف النهار فكيف نصدق مع الآخرين! هذا ونحن في دائرتنا الضيقة كيف والمرتجى منا أوسع واكبر من ذلك بكثير، العالم اليوم يتطلع الينا، العالم يتطلع إلى موروثنا، العالم يتطلع إلى عطائنا فما الذي اعددناه كي نقدمه واضحاً بيناً صريحا يكشف الحقائق ويلغي الزيف عن الكثير من جوانب المشهد.
القدرة على التضحية
ثم ايها الاحبة القدرة على التضحية مفهوم رفعه الإمام الحسين (ع) نجح فيه من نجح ورسب فيه من رسب كوكبةٌ حملت أرواحها على اكفها قدمتها على مذبح التاريخ ليشكل منها الإمام الحسين (ع) خميرة هذه الخميرة تولدت مع الايام لتبرز وجه كربلاء في اكثر من موطن كان لكربلاء بصمتها علينا ايها الاحبه ان نحضر قلوبنا لتحظى ببصمة من الحسين بن علي، من الحسين بن فاطمة، من الحسين بن محمد (ص).
الرؤيا الواضحة
كلنا اليوم يحتاج إلى اشراقة فكر ولا اشراقة فكر إلا من خلال القراءة صدقوني ايها الاحبة مع ان النبي (ص) خوطب بـ ﴿اقرأ﴾ والائمة حملوا هذا الشعار ودفعوا الأمة في هذا الاتجاه واكدوا وقالوا: قيدوا العلم بالكتابة[5] إلا اننا لو سألنا من أنفسنا ما الذي قرأناه عن الإمام الحسين (ع) في أيامه العشرة ولو أننا أدرجنا استبيانا على أكثر من خمسة وعشرين مليون (تم ذكر العدد في صددهم) كم منهم من قرأ للحسين (ع) في هذه الأيام العشرة؟ كم قرأوا فيما لو قرأوا، أليست هذه واحدة من مصائب الزمن! جميل ان تتحشد الملايين لكن الأجمل ان تكون منحدرة عن وعي ومنطلقة إلى عمق القضية، لأننا ايها الاحبة أبناء مدرسه تأبى لنا الا الاجمل وتأبى لنا الا الاكمل وتأبى لنا الا ان نكون منائر في اكثر من اتجاه واتجاه.
شموخ زينب عليها السلام وعظمتها
الإمام الحسين (ع) في مثل هذا اليوم كان له وقفة مع أخته الحوراء زينب سلام الله عليها، جاءت زينب سلام الله عليها من الشام ولم تأتي زينب تلك المرأة الذي استهلكها الدهر كما يحاول ان يسوق بعض ارباب المنابر لنا، كلا، جاءت إلى كربلاء وهي تحمل شعار الشموخ شعار الإباء لأنها أنجزت الفصل الثاني من قضية كربلاء ألا وهو الجانب الإعلامي لو لم تكن زينب في كربلاء، ولو لم تسافر زينب بالركب من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام ثم تعود وتضع رحلها في المدينة المنورة لما سمعنا نداء الإمام الحسين (ع) إلى يومنا يشغل الدنيا، لان ما صبه الأمويون من توجيه وتركيز لمصادرة الطف هو شيء كثير وكبير وخطير لكن زينب بوعيها، ولأنها بنت الوحي، لأنها بنت الإمامة، لأنها تربت في ذلك الحضن الذي أودع فيها الصبر والوعي والبلاغة والفصاحة استطاعت ان تجتاز بسفينة الإمام الحسين (ع) حتى هذه السفينة أخذت نصيب الدفع بحيث لن تتوقف إلا بين يدي الخلف الباقي من آل محمد (ص)، نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يجمعنا وإياكم في كربلاء وان يجعلنا في تلك الحشود المليونية في القادم من الايام وان يعيدهم سالمين غانمين إلى أوطانهم وقصباتهم ومدنهم وقراهم وان يشركنا في الصالح من أعمالهم إنه ولي ذلك، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين جميعا ورحمة الله وبركاته.