نص كلمة: مسؤولية العلماء في زمن الغيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على اشرف المرسلين حبيب اله العالمين ابي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
جاء في الحديث الشريف المروي عن الخلف الباقي من آل محمد (ع) انه قال: «كذب الوقاتون»[2]، في نص آخر يروى ان الامام علي (ع) كان يخطب في مسجد الكوفة فقام رجلٌ وقال له يا امير المؤمنين متى يخرج المهدي منكم اهل البيت؟ قال (ع): «إذا ثقلت الظهور وحجب المنشور»[3].
دور العلماء في زمن الغيبة
قبل ايام مر علينا ذكرى بدء الغيبة الكبرى من خلف الباقي من آل محمد (ص) وهي القضية التي شكلت منعطفا في مسار اتباع مدرسة اهل البيت عليهم الصلاة والسلام، في بداية تلك الفترة كان الله سبحانه وتعالى قد قيض علماء من الطراز الاول وعلى درجة عالية من التقوى والورع والعفة والسداد والاخلاص، الى جانب ذلك علمٌ جم له اصوله، له قواعده وله روافده الحديثية وهي عبارة عن تلكم الروايات الواصلة عن اهل البيت عليهم السلام وقتها الوسائط كانت قريبة، بعضها بالمباشرة كما عن الامام العسكري (ع) وبعضها بالواسطة القريبة كأن يكون شخص واحد من اعالي الاسانيد، هذه الكوكبة من العلماء حملت على عاتقها ايجاد حالة الربط بين مرحلتين؛ مرحلة حضور الامام المعصوم في اوساط الامة حيث كانوا يقتربون منه، يجالسونه ويسمعون منه، يسألون بالمباشرة ويجيب بالمباشرة دون وسائط في الكثير من الاحايين، ومرحلة اخرى مستهلة جديدة المعصوم ليس بين ظهرانيهم لا يتحرك في اوساطهم لا يعيشهم في حالات المعاش اليومي، هنالك حواجب وعوامل دعت لفرض مثل هذا الواقع على الامة وعلى اتباع مدرسة اهل البيت بشكل خاص والا معتقدنا الاصيل ان الامام المهدي (ع) وجوده لطف ليس فقط من اجل اتباع مدرسة آبائه واجداده والذين يقرون له بالولاية وانما وجوده لطفٌ للبشرية عامة، لذلك الكل ينتظر ذلك اليوم الموعود الذي يأذن الله سبحانه وتعالى للخلف من آل محمد في ان يبسط العدل على جميع مكونات ما هو الموجود فوق هذا الكوكب، هؤلاء العلماء المسيرة استمرت بعدهم يعني الذين اوجدوا حالة الربط وثبتوا القواعد والاصول واحكموا الفروع وارجعوها الى اصولها في المسارين العقدي والتكليفي طالت المرحلة بعدهم وخلّف العلماء علماء.
فتح باب البحث والاجتهاد في زمن الغيبة
الذين خلفوهم لم يقلوا شأنا عنهم، بل جمع ما لديهم وابدعوا فيما انتجوا، كالشيخ الطوسي مثلا أو السيد المرتضى رضوان الله تعالى عليه أو ... والقائمة تطول، كوكبة العلماء اكابر عن اكابر، الاصول تدرس تعلم على بساط البحث لا توجد هنالك خطوط حمراء كما يحاول البعض ان يصطنعها، لان العلم وطلب العلم والمعرفة اذا وضعت خطوط حمراء امامه لا تصل الى منتج متكامل متماسك، بل اكثر من ذلك نذهب ونقول واحدة من المسائل الاصيلة هي وحدة الخالق جلت قدرته: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ﴾[4] آيات كثيرة في هذا المسار، بالنتيجة حتى في مسألة وحدة الخالق سبحانه وتعالى وجلت قدرته علماء السلمين فتحوا الابواب على مصراعيه ولم يضعوا خطوط حمراء في ان يدلف العالم ويبحث مكون هذه القضية، لذلك افترضوا شريك الباري! وان كان في عالم مفاهيم ودخلوا في دائرة النقض والابرام، طبعا الادلة على وحدة الرب وعلى وحدة الله سبحانه وتعالى وانه لا شريك له هي من الكثرة بمكان وهي من البديهيات، لكن في دائرة البحث المجال مفتوح، لا خطوط حمراء، لكن هل من حق كل انسان ان يخوض في هذا الميدان؟ طبعاً لا.
آلية الخوض في العلوم المختلفة والتعاطي معها
بل حتى في العلوم الطبيعية التي يتساوى فيها الكثير من الناس ايضا تبقى مجالات التخصص سيدة الموقف، صحيح بمقدورك ان تتكلم حول موارد الهندسة وموارد الطب وما الى ولكن في حدود دائرة ضيقة لا تتجاوز الثقافة العامة، قد تكون قرأت في مجلة أو في صحيفة أو سمعت من واسطة من وسائط النقل المباشر وغير المباشر تتكلم في هذه الحدود، لكن خصوصيات ذلك العلم، ذلك الفن، ذلك المجال يبقى بينك وبينه خرط القتاد حتى تنصرف الى هذا الجانب، تؤسس قواعده، ثم بعد ذلك تأتي للبحث فيه والمناقشة والنقض والرد وعدم القبول، لكن ليس من حق كل انسان ان يخوض في هذا المسار، مما يؤسف له اليوم ان كل انسان استطاع ان يحرك القلم ليرسم به بعض الحروف وجد في داخل نفسه أنه أصبح «ابن سينا» واختلق من وجوده صدر المتألهين وتربع في مخيلته الشيخ الاوحد قدس سره، هنا تكمن الخطوط الحمراء، اما في مسألة ما هو وراء ذلك ايضا فحدث ولا حرج، العلماء الاساطين كالسيد الطباطبائي صاحب الميزان رضوان الله تعالى عليه أو الشيخ حسن زاده آملي وغير هؤلاء من الاقطاب والاركان الذين ذهبوا بالبحوث الحكمية الى ابعد مساراتها هذه لم يشتروها من دكان بقالة ـ مع احترامنا ـ ولا من دراسات حوزوية سهلة بسيطة ـ مقدمات وسطح اول وما شابه ذلك ـ هؤلاء انصرفوا من اجل تحصيل التخصص على انهم بذلوا كل غال ونفيس ولا انفس من هذه المحصلة ـ عمر الانسان ـ، عمر الانسان هو الثروة الكبيرة التي انعم الله بها على هذا الانسان، دورة كاملة في اسفار صدر المتألهين تحتاج الى خمسة عشر سنة من الانسان لاستيعابها، ربما بعدها يشهد له استاذه انه من اهل التخصص، ربما المقدمات تحتاج الى عشر سنوات.
احترام العلم والعلماء
لكن اليوم صار الحديث عبر وسائط التواصل الاجتماعية مثل الواتساب وغيره وما هو الا تخديش الاعمى واظنكم تعرفون تخديش الاعمى كيف يكون، يعني كفيف البصر ـ متع الله كل انسان ببصره ـ عندما يسير وبيده عصاه حينما يضربها يمين يسار هو يتصور انه حاله كحال المبصر يعني هذه العصى تقوم له بنفس الدور في حين هو عندما يسير ويضرب بعصاه هكذا مرة يصيب ومرة يخطي، فبالنتيجة الانسان يجب ان يحترم نفسه، انا عندما اقف امام الطبيب المتخصص لابد ان احترم اختصاص ذلك الطبيب، كذلك عندما اقف امام المهندس أو امام الاستاذ ينبغي ان احترم هذه الحيثيات وهذه المقامات، نفس الشيء نقلب الطاولة بالاتجاه الآخر نقول: أليس من حق علماء الطائفة، علماء الاسلام، علماء البشرية ان يحترموا ايضا؟ بناءا على ما بذلوه ووصلوا اليه من قدرة وسلطنة على مداورة الاصول فيما بينها واستخلاص ما هو المطلوب؟
التسلح بسلاح العلم في زمن الغيبة
زمن الغيبة لا ينبغي ان نملأه فقط وفقط بالعبادة والمناجات هذا طريق هذه واحدة من الوسائل لكن الاهم من هذا وذاك ان يكون هذا الطريق على اساس من قواعد محكمة، أي عن علم، يعني عندما أصلي اعرف كيف اصلي ولماذا اصلي أو عندما أحج نفس الشيء، أو عندما أبر الوالدين نفس الشيء أو عندما انفتح على الآخر نفس الشيء أو عندما ادخل في دائرة الحوار والنقاش والبحث والرد والبدل ايضا نفس الشيء، في زمن الغيبة يجب على الانسان ان يملأ هذه الفسحة وهذا المجال بتقوية الجانب العلمي والمعرفي في داخله، حتى عندما يظهر الامام المهدي عجل الله فرجه واياكم ورزقنا الله واياكم النظر الى وجهه الاقدس يتمكن الانسان من أن يعرف المهدي من غير المهدي، قد يقول قائل: ان وجوده سوف يفرض نفسه، نعم لكن الحواجب تمنع، اذا انا لم يكن عندي اعتقاد في مقامات اهل البيت كيف اتعرف على الامام المهدي (ع)؟ اذا انا لم أومن بهم بالإيمان المطلق كيف اتعرف على الامام المهدي (ع)، اذا انا لم اسلم لهم تسليما كيف اتعرف على الامام المهدي (ع)؟ اذا انا اناقش في الصغيرة والكبيرة دون هديا ولا علما ومعرفة كيف اتعرف على الامام المهدي (ع)؟ ينبغي ان يكون الانسان خصيم نفسه، لا يبحث عن خصيم بعيد هو نفسه وفي داخله، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾[5] يعني ان هناك شيء في داخل هذه النفس اما ان تأخذك واما ان تأخذها واكثر من هذا نذهب ونقول ايضا ايها الاحبة حتى ذلك الانسان العالم لا ينبغي ان يفتتن في علمه مهما كان مقامه لان «زلة العالم تفسد عوالم»[6] كما تقول الرواية الشريفة، انا عندما اصبح عالما، او فلان من الناس عندما يصبح عالما ويصيبه الغرور عندما يخطأ، الناس يخطؤون من ورائه أيضا لمكان القدوة الذي تطلعوا فيه لفترة طويلة من الزمن، لانهم كانوا يعتقدون هذا الشيء فيه، عندما يقول كلمة يأخذون بها على نحو التشريع.
أهمية العقل في مقابل العلم
انا دائما مبنائي هو القول بان العلم شيء والعقل شيء، اقول من السهل ان تصبح عالماً وآية الله واقل واكثر، لكن من الصعب ان تصبح عاقلا! لذلك السيد الامام رضوان الله تعالى عليه له كلمة يقول فيها: من السهل ان يصبح الانسان مجتهدا ولكن ليس من السهل ان يكون الانسان انسانا! يعني يحمل القيم الانسانية ومحبة الناس واحترام الآخرين والتعاون معهم وبذل الجهد قدر الامكان، لذلك هذا الكلام واضح وبين في الرواية المختصرة المنقولة عن الامام عليه الصلاة والسلام الذي يسأل ويقال له: أفيكون العالم جاهلا؟ فيقول (ع): «عالم بما يعلم، وجاهل بما يجهل»[7].
أفيكون العالم جاهلا؟ يعني هل يمكن ان يكون عالم لكنه جاهل، آية الله لكن جاهل، حجة الاسلام والمسلمين لكن جاهل، استاد بحث خارج لكن جاهل، معلم فلسفة لكن جاهل، بروفسور لكن جاهل؟ فالإمام يقول: عالم بما يعلم، انتهي من الشق الاول بعدها يقول:
وجاهلٌ بما يجهل؛ وانا دائما اكرر وأقول لا يوجد احد سوى المعصوم ان يدعي ويقول «سلوني قبل ان تفقدوني» المعصوم فقط الذي لا يوجد بجانب علمه جهل ابدا، اما غير المعصوم كائناً من كان مهما عنون وطرز قبل اسمه بالكثير من الالقاب يبقى علم وجهل ولذلك الشاعر يقول[8]:
فقلْ لمن يدعي في العلم فلسفـةً *** حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
خصوصا في هذا العالم الوسيع من العلم، اقول لكم على سبيل المثال؛ علم الاصول عندنا كان عبارة عن وريقات كتبها هشام بن الحكم تلميذ الامام الصادق والامام الباقر عليهما السلام كانت تقريبا خمسة وعشرين صفحة! يعني هذا العلم في بدايته كان عبارة عن خمس وعشرين ورقة فقط! لكن اليوم فقط تقريرات ابحاث استاذنا آية الله العظمى المرحوم الشيخ اللنكراني هي ستة عشر مجلداً كل مجلد ما يقارب الف صفحة! يعني في علم واحد انظروا كيف كانت الطفرة وكيف ذهبنا بعيداً وعلى هذا فقس ما سواه، جعلنا الله واياكم من المنتظرين على هدي وبصيرة، نسال من الله سبحانه وتعالى ان يحفظ علماءنا، مراجعنا، ان يحفظ القادة، ان يحفظ الكتاب، الباحثين، الخطباء، الواعظين، المرشدين الذين نذروا انفسهم من اجل ايصال الحلقة الى وقت اشراقة الخلف الباقي من آل محمد.