نص كلمة في الحوطة بعنوان: أقصر السبل لنيل السعادة
في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «أما والله لو أن رجلاً صفَّ قدميه بين الركن والمقام مصلياً، ولقي الله ببغضكم أهل البيت، لدخل النار»([3]).
نجتمع هنا كما يجتمع المؤمنون في كل مكان، من أجل أن نهنئ أنفسنا ونتصل بساداتنا، من أجل أن نتعرف على الحقيقة ناصعةً، ونلج في عمق جوهرها، ونقتبس من نورها، لنضيء الطريق أمامنا.
أيها الأحبة: إننا نحتاج إلى زورق لنعبر أمواجاً متلاطمة، ولا زورق إلا ما صنعته الحقيقة المحمدية والعلوية، هو زورق من المعنى لا من المادة، ألا وهو زورق المحبة بعد المعرفة. وبحمد الله تعالى فقد ولد الجميع وفطر على الإيمان، وبصريح النص عنهم عليهم الصلاة والسلام: «إن الله تبارك وتعالى، اطَّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منا وإلينا»([4]). فنحن منهم، وهذا مما لا خلاف ولا جدال عليه، لكنها تبقى في حدود النعمة التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا وعليكم. ولكي تستقر النعمة فإنها تحتاج إلى الشكر، وهذا لا يعبر عنه ميزان اللفظ ولسانه، إنما حقيقة المطابقة بين الأقوال والأفعال.
يقول الإمام أمير المؤمنين: «ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»([5]).
أيها الأحبة: إن العالم اليوم يموج في بعضه، وأمواجه تتراوح بين الهادئة والمتلاطمة والعاتية، تجرف معها ما خف حمله، وتتحطم على ما تماسك بناؤه، وأسأل الله تعالى أن نكون من الصنف الثاني، ولكن بالمقابل لا تُنال الأمور بالدعاء فحسب، إنما تحتاج إلى جهد كبير يتماشى مع حقيقة الدعاء حتى نصبح بعد ذلك محطاً للطف الإلهي.
أقصر السبل لنيل السعادة:
فالإمام يضع لنا قاعدة، وعلينا أن ننتهج طريقها، وهي قوله: أعينوني بورع واجتهاد. فعلينا أن نُؤمِّن هذه القاعدة،؛ لأن المسؤولية عنها قد ألقيت على عواتقنا جميعاً. فما هي أهم الطرق التي توصلنا إلى تحقيقها واستحكامها؟
الجواب نجده عند أهل البيت (ع) فهم الذين دلونا على ذلك، فأهم آفاق ذلك، الثقافة المطلوبة بين أبناء الأمة الراشدة من خلال منبعها الأصيل، المتمثل في ركيزتين:
الأولى: القرآن الكريم، الوحي المنزل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).
الثانية: السنة المطهرة، المتمثلة بمنظومة الأحاديث الواصلة إلينا، ولكن لا على إطلاقها، إنما ما وصل إلينا منها بالطرق المعتبرة التي أجهد علماء الطائفة أنفسهم في تنقيحها وتخليصها من الشوائب.
فالثقافة بشقيها، القديم المتجدد، والجديد المتأصل، إذا زاوجنا بينهما حققنا الهدف، لأننا بذلك نمسك بأسباب الطريق كما ينبغي، وإذا ما صحّت لنا هذه المقدمة فإن النتيجة سوف تتبعها. فلم يبق من الزمن ما يكفي أن نهدره فيما يعني أو لا يعني، إنما نحن في ضيق من الوقت، فالساعات التي تتصرَّم، والأيام التي تترتب على تصرمها من أعمالنا، تولِّد شهوراً وسنين لن نستطيع أن نستدركها أو نسترجعها.
الجيل الجديد...مناهج وآفاق عمل:
وأخاطب هنا النشء الرسالي المبارك أولاً وبالذات فأقول:
أيها الشباب الطيب المبارك: ما بأيديكم من رأسمال إنما هو هذا العمر، وأنتم تقطعون الخطوات الأولى منه، فالليل والنهار يعملان فيكم، فكيف ستعملون فيهما؟ إننا لو استطعنا أن نقلب المعادلة فسوف ننتج، أما إذا استسلمنا للمقلوب من المعادلة فهو الضياع الأكبر.
علينا أن نحافظ على رأس المال الذي بأيدينا، فما مضى من يومٍ لن يعود، وما قطعنا من أشهر أو سنين لن تعود كذلك، وعندها نكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَنَادَوْا وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصٍ﴾([6])، أو قول الشاعر:
الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولات حين مناص
أيها الأحبة، لا سيما الشباب الطيب المؤمن الرسالي.. يا من تقرأ هداك في محمد وآل محمد.. إنها وقفة قصيرة مع النفس، إن أردناها في دجى الليل فهي بين أيدينا متاحة لنا، ما لم نصرفها بثمن بخس دراهم معدودة، وإن أردناها في ضاحية من النهار، فالنهار بيننا.
علينا أن نقف مع النفس في كل يوم وقفة مختصرة، كما انتدبنا إليه الإمام الكاظم (ع) بقوله: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حَسَناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه»([7]).
أيها الشباب: لنسأل أنفسنا من خلال هذه الاستراحة التي نستنطق ونسترجع من خلالها ما تصرم من أعمالنا: كم وضعنا في ميزاننا من الحسنات؟ من بر الوالدين، والصدق في الحديث، وأداء الأمانة، والمحافظة على الصلوات وسائر الواجبات، والقيام بالالتزامات الفرعية والعامة فيما يرتبط مع الأسرة والمجتمع.
أيها الأحبة: الملهيات كثر، والمغريات أكثر، فكيف نتخطاها؟
ثم لنلتفت إلى جهة اليسار قليلاً، ونسأل أنفسنا: هل أن سلة السيئات فارغة؟ وهل ستبقى محافظة على فراغها؟ إنه أمر بأيدينا، فالبعض يتصور أن الشيطان أقوى منا، والصحيح أننا أقوى من الشيطان، لأن ما بيد الشيطان من الأجندة يمكن أن نقيدها، بل يمكن أن نلغيها من حساباتنا، وعلى العكس من ذلك تماماً إذا ما أحسنا التعامل مع العدو الأول والأخير، وهو الشيطان، فإننا نستطيع أن نتفلت من غائلته من خلال الأجندة التي وقعت في أيدينا، وهي أجندةٌ من آفاق كثيرة:
1 ـ الإيمان الغيب: فالبعض منا اليوم يتسامح في التعاطي مع الواجب، كما يتسامح في التعاطي مع المحذور، لا لشيء إلا لأننا بتنا نعيش في مساحةٍ هي من البعد بمكان عن مساحة المطلق، فما عدنا نستحضر الله في مفرداتنا، صغرت أو كبرت، حال أن إمام المتقين (ع) ما انفك يصدح بها ليلاً ونهاراً: «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وفيه وبعده» فهل أن أقوالنا وأفعالنا في هذا الميزان راجحة؟ أو أنها على العكس من ذلك تماماً؟ المرجو والمأمول أن نكون من القسم الأول، ممن ربحت تجارتهم، وأن لا نكون في القسم الثاني.
2 ـ التعرف على حقيقة محمد وآل محمد (ص): وهي الحقيقة الكبرى. ورب سائل يسأل عن كيفية التعرف عليها، فنقول: هم الأدلاء على أنفسهم، لأن الكمال يدل على ذاته، ولا أكمل في الوجود من كمال محمد وآل محمد (ص) فإن فتشت عن العلم فهم مناره، وإن بحثت عن العبادة فهم مظهرها، وإن يممت شطر الشجاعة فلا مكان لها إلا في أحضانهم، وإن اتجهت نحو البلاغة فلم تجر إلا على ألسنتهم، وإن نقَّبت عن مفردات الصبر والاستقامة، فإن لم تكن فيهم فلا تبحث عنها في أي مكان كان، لأنهم هم الكمال الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يتجسد فيهم، فكانوا أكمل من في الوجود منذ يومه الأول حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أولئك هم الكوكبة النيرة الأربعة عشر، أولهم محمد وأوسطهم محمد والخاتم لهم محمد.
3 ـ القرآن الكريم: في علومه، وهديه، وتعاطيه مع قضايا الناس، الصغرى منها والكبرى، فكم هي قوة العلاقة التي تشدنا بالقرآن الكريم، الدستور الخالد، وأمانة النبي (ص) التي ألقاها على عواتق الأمة؟ هل أننا نقرأ القرآن الكريم القراءة الصحيحة التي يرتضيها القرآن؟ وهل نتدبر تدبراً واعياً عندما نقرأ آياته؟ وهل نجد للرسالية والتجسيد الواقعي لمعطيات المفاهيم القرآنية مساحة في مجالسنا ومنتدياتنا وجلساتنا واستراحاتنا؟ وهل أن علاقتنا مع القرآن الكريم تجاوزت حدود المدرسة من أجل أن نتحصل على رقم معين في سلم الدرجات؟ وهل غادرنا مساحة الحصر في التبرك بالقرآن الكريم في فواتحنا؟ وهل تخطينا مساحة أن تحمل العروس القرآن الكريم في يدها اليمنى ليلة دخلتها؟ هل هناك ما وراء ذلك، أو أنها الأمور التي توارثناها في حدود البركة ليس إلا؟ فالبركة مطلوبة، ولا يمكن أن نقلل من قيمتها وحجمها، لكن الأدلة وإن دلت على أن هذا مطلوب ومندوب، إلا أنه لا يعني البداية والنهاية. لذا نرى أن القرآن الكريم في الكثير من الموارد التي نعت فيها كتاب الله بالبركة أردفها بدعوة الأمة لاستنطاق القرآن التدبر فيه.
فعلينا أيها الأحبة أن نتدبر، ولو في حدود طاقاتنا وإمكانياتنا العلمية والثقافية والمعرفية، سواء كانت من المرئي أم المسموع أم المقروء، فعلينا أن نجمع بين هذه العناصر، لنشكل ثقافة على أساسها نقترب من مساحة القرآن الكريم.
4 ـ إحياء المراسم والمواسم الدينية والمذهبية المحسوبة على محمد وآل محمد: ومنها هذه المناسبة. فهنالكم صيحات من زوايا ضيقة تنطلق بين الفينة والأخرى تطالب أبناء الأمة والجيل الرسالي أن ينطلق في مسارب بعيدة عن واقع أهل البيت (ع) فيما يتجسد في منتدياتهم المحبوبة لله سبحانه وتعالى، وآله صلوات الله عليه وعليهم جميعاً، كالمساجد والحسينيات ومجالس الذكر، فهؤلاء يقولون: إن وقت القراءة انقضى، ولا موجب للحضور، أو أن مراسم الاحتفاء بالمناسبات لا موجب له مع وجود هذه النقلة النوعية في عالم الإعلام، فنحن نستطيع أن نستمع ونشاهد ونشكل ما يمكن أن يؤمِّن لنا جانباً من المعرفة، قد لا نستطيع أن نتحصل عليه في المنتديات التي تعودنا عليها موروثاً.
أيها الأحبة: بقدر ما لهذا الكلام من شيء من الاستلطاف لدى البعض، إلا أنه مع التدقيق فيه لا يعدو أن يكون سماً دُسَّ في عسل، فعلينا أن نلتفت لنكون يقظين حذرين، وأمناء نؤدي الأمانة كما ائتُمِنّا عليها. فلو تخلينا عن تلك المجالس، فأي المجالس سوف تجمعنا غير مجالس الباطل؟ والمجالس التي لا فائدة من ورائها في أحسن التقادير؟
إن هنالك مؤامرة على سرقة جيلنا الناشئ من بين أيدينا، ومن هنا فإننا نسأل ونطالب ونناشد الحوزة العلمية ورجالات العلم الذين نصبوا من أنفسهم منائر هدي في وسط الأمة أن يفعّلوا دورهم. فهنالكم غياب محسوس ملموس بات يلحظه أصغر شبابنا اليوم، لهذه الفئة التي يفترض أن تقوم بدورها. ونحن نطالبهم بالرجوع إلى الجمهور، فليس من الضرورة أن يأتينا الجمهور إلى منتدياتنا، بل علينا أن نذهب للجمهور في أنديتهم، وأن ننفتح عليهم لنستمع لهم، ونأخذ ونعطي معهم، ونترك المساحة لهم كي يعبروا عما في داخلهم. إن زمن المصادرة والإلغاء قد ولى ولا رجعة له، ومن كان نائماً فليستيقظ، فنحن أبناء فترة زمنية قدر لنا أن نعيش في ظرفها، فليحسن كل منا استغلالها، فمواسمهم ومراسمهم مدارس، منها نتعلم منهاج ديننا، ومن خلالها نتعرف من أوجدنا، وفيها نزرع غصون المحبة، ونمد جسور الألفة بين شرائح مجتمعات ربما غرز الشيطان مغرزاً له في واحد من مفاصلها. فإذا ما حصل شيء من ذلك فنحنُ جميعاً لدينا القدرة، وإذا ما فعلنا تلك القدرة في داخلنا، كان ذلك من أجل الصالح العام.
5 ـ قراءة الخطاب الديني عند الطرف الآخر: فعلينا أن لا نكتفي بالخطاب ضمن حدود مجموعتنا ومنظومتنا ومذهبنا وأتباع مدرستنا، إنما علينا أن نتعرف على الخطاب عند الطرف الآخر، وماذا يرصد، أو يقول أو يرد؟ فالمستقبل لن يكون على ما هو عليه اليوم، لأن الأجندة المتاحة في أيدينا، متاحة أيضاً عند الطرف الآخر، ومن يبحث عن الثغرات لن يبذل مزيد جهد، على العكس ممن يحاول أن يرمِّم ويسد الخلل.
أيها الشباب: إنني أعنيكم أولاً قبل غيركم، فمسؤوليتكم خطيرة، لأنكم في زمان حرج، فإن كانت الأجيال الماضية أسست، ولم يكن بمقدورها أن تتقدم لأكثر مما وصلت إليه، فجميع الإمكانيات اليوم بين أيديكم، وإن كان الآباء والأجداد يعذرون فيما كانوا عليه من ثقافة محدودة، فلا عذر لنا اليوم أن لا نتقدم في ثقافتنا إلى الأمام.
فالنبي (ص) يجمعنا، والإمام الصادق (ع) كذلك، ومواسمهم ومراسمهم تجمعنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم على هديهم، وأن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بعروتهم، وأن يأخذ بأيدينا إلى ساحل النجاة، وأن يعجل في فرج الخلف الباقي منهم.
أشكر اللجنة القائمة التي أتاحت لي هذه الفرصة في أن أمتثل بين أيديكم.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.