نص كلمة سماحته :في محفل سفرة أم البنين بالمطيرفي

نص كلمة سماحته :في محفل سفرة أم البنين بالمطيرفي

عدد الزوار: 3021

2012-01-03

عام بعد عام والذكرى تتجدد وتتقدم، رغم العقبات التي تطرح أمامها، رغبة في إيقافها أو التحجيم من دورها، أو إسقاطها بالمطلق، لكن إرادة الناس تبقى محدودة ضمن حدود دائرتهم، فمتى ما أراد الله سبحانه وتعالى أمراً هيأ أسبابه. لذا نجد من اللازم علينا أن نهيئ أنفسنا لكل قضية نرغب في الدخول في جنباتها، ولكل مسألة نطمح أن نصل بها إلى حيث الهدف المرجو.

لقد تحدث الكثيرون عن شخصية أم البنين، لكنها تبقى واحدة من الشخصيات التي تحمل بين جنباتها القدرة على التجدد والعطاء، لذا من الصعب جداً أن يلم الباحث أو الكاتب أو المتحدث بجميع أطراف المكون الذي يُعنوَن في النهاية بعنوان أم البنين.

أما عن اسمها فهي فاطمة، وفي هذا الاسم من الدلالة الكثير، ولو لم يكن شُرِّفَ إلا بكونه بات عنواناً مشيراً لذات أفضل مخلوقة على وجه الأرض وهي الزهراء (ع) بنت النبي محمد (ص) لكفى.

وأما أمها فهي ثُمامة، وهي من نفس القبيلة التي تنحدر منها فاطمة أم البنين، وهي امرأة جليلة أيضاً، تحمل من خصائص الكمال ما يدلل عليه ما زرعته في نفس ابنتها من أمارات السمو والرفعة والجلالة.

وأما أبوها فهو حزام بن خالد الكلابي، وهو من الرجالات المعدودين في صفوف قبيلته، والمقدمين في مجال الرأي.

تنحدر من عشيرة كلاب العربية الأصيلة، ذات مجد وعزة وشرف ومنعة. وأهم ما كانت تتمتع به هذه القبيلة هو الشرف الأصيل، والشجاعة المنقطعة النظير، والتوأمة بين هذين العنصرين استوجبت مصداقية ينطبق عليها ما جرى من سيد الأوصياء علي (ع) من كلام لأخيه عقيل حيث قال: انظر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وكلنا يعلم أن عقيلاً هو الخبير الأول ببيوتات العرب وأنسابها عراقةً، وبصفاتها شرفاً وكرماً وشجاعة. وعندما يضع عقيل يده على هذه المرأة بالذات، ومن هذه القبيلة بالذات، فإنما يعطي مؤشراً على أنها ذات تميز وتفرد يليق بالإضافة إلى بيت الإمامة الحقة من جهة، وبالمصاهرة بين القبيلتين، قبيلة الكلابية بما تحمل من رصيد وثقل، والقبيلة الهاشمية بما تمتلك من رصيد ضخم ضارب في التاريخ، متفرع ومتشعب من جهة أخرى.

أما زوج أم البنين فهو أمير المؤمنين علي (ع)، خليفة الرسول (ص) وكفى، فحيثُ أتيت علياً (ع) فإنك ترِد، في شجاعته وعلمه وأدبه وبلاغته وصبره وتضحيته، ولو جمّعت صفات الكمال بأجمعها فإن علياً (ع) يبقى باحثاً عن عناوين، أو يضعنا في دائرة من خلالها لا نجد بداً من البحث عن العناوين المستحدثة لما فيه من صفات الكمال، فما في ذات علي (ع) من صفات الكمال لم يُستقصَ بعدُ، ولم تتم الإشارة إليه بالعنوان الكافي.

كنيتها أم البنين، وكلنا يعلم أن للكناية أيضاً قيمة ترجع للإنسان نفسه بما هو إنسان حامل للكنية، وكذلك للمجتمع من حوله عندما يرغب في قراءة الشخصية، فكما أنه يضع يده على الاسم الدال على الذات خارجاً، فإنه يضع يده على الكنية التي لها دلالتها على ما يترتب عليه.

لقد حملت هذه الكنية من خلال حظوتها بأربعة من الأبناء، كل واحد منهم يحمل في داخله صفة كمال، وإن بزغ العباس فيما بينهم كالبدر بين النجوم، فهو قمرهم كما أنه قمر بني هاشم، وله خصائص ومقامات ومراتب، كما أن الأئمة (ع) قد رتبوا في مراتب من قبل الله سبحانه وتعالى، فللعباس مرتبة خاصة لا يمكن أن يصل إليها إلا عبر الطريق الذي اختطه لنفسه، بعد أن غرس في ذاته عليٌّ (ع) ما يمكن من خلاله أن يصل إلى الهدف والغاية المرسومة، وقد تحقق ذلك فعلاً، فهو نافذ البصيرة، صُلب الإيمان، وهذه صفات صدرت من المعصوم (ع) في حق العباس، وعندما تكون هذه العناوين التي علقت على صدر أبي الفضل العباس صادرة عن المعصوم، فإن فيها من الدلالة الشيء الكثير.

كان العباس وعبد الله وعثمان وجعفر كوكبة نيّرة، وعندما تغادر مساحة المعصومين (ع) فلا تستطيع أن تضع يدك على كوكبة بهذه المثابة.

لقد كان من عادة العرب أن المرأة إذا رُزقت بأربعة من الأبناء على التوالي تكنى بأم البنين، ويتوسعون في ذلك عندما تنجب أربعة وإن تفرقوا، أما عن أم البنين فإن كنيتها هذه لم تأت من جهة الكمّ والعدد، بقدر ما هي مسألة الكيف والنوع، فالكم متيسر للكثيرات، وهو ما حدده العرب، مما تقوم به الكنية بأم البنين، وهو متوفر هنا في أم البنين الكلابية، إلا أنها تفردت عن غيرها بالكيف، فقد حصل مع الكثيرات من نساء العرب أن تكنين بأمهات البنين من جهة الكم والعدد، أما من حيث الكيف فلا يرشدنا التاريخ، ولا يسعفنا أن نضع يدنا على رقم من الأرقام يحمل هذه الحيثية إلا عند أم البنين حصراً، فهؤلاء أربعة من الأبناء أنجبتهم على التوالي، ولهم الكثير من صفات الكمال، ثم يضرَّجون بدمائهم في يوم واحد، على صعيد واحد، بسيف ظالم واحد.

وما عسى أن يقول المتحدث في امرأة عنتها وقصدتها السيدة الحوراء (ع) وهي السيدة الثانية بعد الزهراء (ع) بعد رجوعها من الطف إلى المدينة، فزينب (ع) هي التي قصدت أم البنين (ع) في المدينة، ولم يكن ذلك راجعاً إلى الفرق في السن، فهي نسبية جداً لا تتجاوز الثلاث سنوات، لكن ما قدمته أم البنين (رضوان الله عليها) من فلذات كبدها على مذبح التاريخ الخالد بين يدي سبط الرسول، وريحانة البتول، في كربلاء، يستدعي أن تقوم السيدة الحوراء (ع) بوضع اللمسة الأخيرة لتبقى بصمة تذكِّر الأجيال فيما يأتي من الزمان. وهذا ما حصل وتحقق، فزينب تمثل الرسالة والإمامة والزهراء (ع) في هديها وصبرها وتحملها وتضحيتها، ويكفي أنها رسمت النصف الآخر من الثورة الحسينية، وهذه القامة الرفيعة تعطينا إشارة أن المقصودة (وهي أم البنين) لها من المكانة الشيء الكثير. وتصور لنا بعض النصوص كيف قصدت الحوراء زينب أم البنين في بيتها.

كانت أم البنين (ع) من النساء الفاضلات العارفات بفضل أهل البيت (ع)، وما أحوجنا في هذا الزمان للمرأة التي تحمل صفة الفضل، صحيح أنكنّ تجتمعن اليوم على (سفرة) أم البنين، إلا أن ذلك ليس الغاية والهدف، إنما هو وسيلة وآلية نصل من خلالها إلى الهدف، وما نرغب فيه من أمر تعلقت بها أنفسنا، على أن تكون أم البنين هي الواسطة المشفَّعة بما نحن فيه، وهو حق مستحق.

والجهة الأخرى المهمة أننا عندما نقدم (سفرة) أم البنين فإنما هي بمثابة إشارة إلى صاحبة (السفرة)، لا إلى (السفرة) ذاتها، فمن اجتمعن لأجل أم البنين، وأضفن السفرة لذاتها، تشرفاً بها، وتكريماً لجهودنا، إنما يبتغين من وراء ذلك أن ينتزعن الدرس، ويستخلصن الفائدة المعنوية، ونحن نرغب أن يكون هناك مثيلات ـ ولو في الحد الأدنى ـ لأم البنين في جميع المجالس التي تحمل مثل هذه القضية ذات القيمة الكبيرة.     

ومن تلك النصوص التي وردت في هذا الصدد أنها كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت (ع) كما كانت فصيحة بليغة لَسِنة، ورعة ذات تقىً وزهد وعبادة، من أجل ذلك زارتها السيدة الحوراء بعد انصرافها من واقعة الطف.

وفي هذا النص العديد من الصفات الكمالية لأم البنين (ع) ومنها:

1 ـ أنها فاضلة، وهذه الصفة تعني فيما تعنيه أن مكامن الفضل في ذاتها متعددة الصور، متكثرة المفردات، كثيرة المصاديق، فهي تعني فضلها في التضحية والصبر والموساة والتواضع وغير ذلك مما يعنيه الفضل في شخصيتها.

2 ـ أنها عارفة بحق أهل البيت (ع) وقد عرفتم من حياتها أنها بعد اقترانها بعلي (ع) لم ترضَ أن تُسمَّ بفاطمة، مراعاةً لمشاعر الحسن والحسين (ع)، والمرأة التي تصل بها درجة الالتفات لدقائق الأمور إلى هذا الحد، إنما تدلل أنها تمتلك حاسة من نوع خاص، روضتها الأيام، وصقلتها الطاعة لله سبحانه وتعالى، فأوصلتها إلى هذا المقام، وهو معرفة حق أهل البيت (ع).

ومن حقنا أن نسأل: هل نحن ممن يعرف حق أهل البيت (ع) علينا كما هو الحق؟ ولو تم لنا ذلك، فهل لهذا الحق فاعلية في وجداننا يبعثنا نحو تحصيل الأفضل والأكمل؟ أو أننا نتغنى به شعاراً، ونردده مفردة ثم نغادر مساحته وندير ظهورنا له؟

كانت أم البنين (ع) عارفة للحق، ومسقطة لمفهومه على مصداقه خارجاً، بدليل أنها هي التي دفعت بأبنائها لنصرة الإمام الحسين (ع) مع معرفة الأبناء بمقامه، وهذه معرفةٌ يستتبعها التسليم والطاعة والانقياد والامتثال والتضحية بكل غالٍ ونفيس.

فعندما تتصف أم البنين بهذه الصفات، فتكون صابرة مجاهدة محتسبة عابدة زاهدة، فإن ذلك وليد المعرفة الحقة بمقامات أهل البيت (ع).

3 ـ أنها فصيحة بليغة لسنة، وقد كان للفصاحة والبلاغة قبل الإسلام، وفي الصدر الأول منه، قيمة عالية في أوساطهم، فالعرب تقدم الأفصح والأكثر بلاغةً في خطابها، كما أنها تقدمه في الحرب، لأنه الأقدر على إيصال الرسالة، وقد كانت أم البنين (ع) بهذه المثابة، فهي قادرة على إيصال الخطاب.

إنّ التاريخ لم يقدم لنا إلا الجانب المأساوي لحضور أم البنين (ع) في استقبالها للركب الحسيني، ولا يقدم لنا الوجه الآخر مما قامت به من دور وتوظيف للحدث، فقد ذكر لنا أنها كانت تجمع التراب لتصور به قبوراً أربعة لتبكي وتنتحب، ثم تنصرف من البقيع، لكن هذه لم تكن الرسالة الوحيدة لأم البنين، إنما كانت واحدة من الوسائل التي تحمل في داخلها الكثير من التشفير، ولكن كانت لها رسالة أهم وأكثر نفاذاً، وهي إذاعة ما لأهل البيت (ع) من المقامات المحجوبة جراء ما عملت عليه السلطات في تلك الفترة الزمنية. فكلنا يعلم أن السنة عطل تدوينها، وأن من يتحدث بفضائل أهل البيت (ع) ومقاماتهم ومراتبهم فجزاؤه إما النفي أو السجن أو الاستئصال بالقتل، فكانت المسؤولية ملقاة في كثير من جوانبها على العنصر النسوي، وكانت المرأة تحمل رسالة في هذا الصدد، ومن هؤلاء النسوة، وفي طليعة هذه الكوكبة أم البنين، التي كانت تقدم مقامات أهل البيت (ع) للعامة من الناس وتستشهد عليها بالنص، إما من الكتاب الكريم المنزل على قلب النبي الحبيب المصطفى (ع) أو من خلال الروايات التي سمعتها من الإمام علي (ع) وكانت أم البنين واحدة من بوابات الحديث عند أمير المؤمنين (ع) لكن عسر وصعوبة المرحلة من جهة، وتقصير من تولى أمر التدوين من جهة أخرى، ساهم في أن لا يصل إلينا الكثير مما قامت به هذه المرأة الجليلة، فكما أنها جاهدت من خلال حضور أبنائها في كربلاء، كان لها حضورها الفاعل على مستوى الكلمة في المدينة المنورة.

ومن هنا أشدد على أهمية أن يسلط القلم على موروث أهل البيت (ع) ولا عذر اليوم لأحد أن يتقاعس، لأن الإمكانيات موجودة، ومن السهل أن يصل الإنسان إليها، ولم تعد كما كانت بالأمس، فاليوم ـ بحمد الله ـ كل شيء مهيَّأ، من الإضاءة والتدفئة في الشتاء والتبريد في الصيف ووسائل الكتابة، على خلاف ما كان في السابق، فلا عذر اليوم أن يكون ثمة تقصير في القيام بهذه المسؤولية.

أما عن كونها لسنة، فإن اللسن هو السليط في الكلام، القادر على إثبات الأمر بالحجة والبرهان، وليس بالصراخ، بأن تكون النبرة عالية مسكتة للمقابل، مع الدليل والبرهان، والأهم من هذا أن يكون في دائرة الله سبحانه وتعالى.

4 ـ أنها ورعة أي أن الورع يكون هو القائد، وهو القيد الملزِم، ففي كونها لسنة يجب أن لا يتجاوز اللسان حدود الدائرة المباحة، وهذه صفة كمال، وإلا فإن اللسن بلا ورع، يكون بذيئاً، والبذاءة صفة ذم ونقص، لا صفة مدح وكمال.

ولنعد قليلاً إلى مشهد المرأة اليوم في هذه الصفة، فالمرأة هنا ـ والحمد لله ـ لسنة ورعة، ولكن على من حضرت (سفرة) أم البنين أن تراعي التحفظ في هذا القيد باستمرار، وأن تراجع الحسابات، لتنال على يديها كرامة من الكرامات، ومن أبرز تلك الكرامات أن تقوّم المرأة لسانها مع زوجها وأهل بيتها لتعطي أم البنين عهداً هذه الليلة على سفرتها أن لا تكون لسنةً إلا في خير، فإذا خرجت المرأة هذه الليلة بتلك الحصيلة فهذه هي الكرامة، وهذا هو المطلوب الذي نرغب أن نصل إليه.

5 ـ أنها ذات تقىً وزهد وعبادة، وهكذا ينبغي أن تكون المرأة، تقية في قولها، نقية في فعلها، زاهدة في الدنيا، لا بمعنى أنها تتصدق بكل ما تملك، فهذا ليس من الزهد، أو أن تترك جميع صور التجمل والتهيؤ لزوجها بحجة الابتعاد عن زخرف الدنيا، فليس الزهد أن لا تملك الدنيا، لكن الزهد أن لا تملكك الدنيا. فالزهد أن لا تترك الدنيا تسيطر عليك وتسيّرك، قال تعالى:﴿وابْتَغِ فِيْمَا آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا([2]). فللمرء نصيب من الدنيا له أن يملكه، بشرط أن يسيطر على الدنيا، لا أن يكون أسيراً ورهينة لها تتصرف به كيف تشاء، ويبيع من أجلها كل غالٍ ونفيس، فيبيع الأهل، ويتخلى عن الآباء وهم في مسيس الحاجة إليه، والبنات يتخلين عن أمهاتهن في الوقت الذي تكون الأم بمسيس الحاجة أن تمتد لها يد البنت.

إن أم البنين تقدم لنا على سفرتها الكثير من مواد الكمال، وأحدها الزهد في الدنيا.

وهكذا في عبادتها، وهذا لا يعني أنها تصوم كل يوم، فتنسى حقوق الزوج، أو أنها تذهب من مصلى إلى مصلى، ومن زيارة إلى زيارة، فيما يلف التقصير تكاليفها مع الزوج والأبناء والمجتمع من حولها، ويتجاذبه التخلي عن القيام بالمسؤولية، وهذا لا ينسجم مع مسيرة من اجتمعنا من أجلها.

هذه خلاصة لأبرز صفات السيدة الجليلة أم البنين، لذا نجد أن السيدة زينب بنت علي (ع) وبنت الزهراء (ع) والنبي (ص) وأخت الحسن والحسين (ع) التي تلتف من حولها العصمة بكل خصائصها، تمشي قاصدة لأم البنين، لتجسد الشكر العملي، ونحن اليوم بمسيس الحاجة إليه، فالشكر لمن أسدى جميلاً لا يكون باللسان، إنما بالفعل والمصداق.

وهنا يأتي السؤال المشروع: لقد ماتت أم البنين (ع) بعد أن عاشت حياتها كما أراد الإسلام للرجل والمرأة أن يعيشا، وخرجت من الدنيا وهي في أحسن حالات ما يمكن أن يخرج الإنسان عليه، من إقرار بالإمامة، والتزام بنهجها، والعبادة والزهد وغير ذلك مما تقدم، وخروجها من الدنيا ليس كخروج النبي (ص) والزهراء (ع) الذين بأيديهم ذرات الكون، فهل بمقدور تلك المرأة التي لا تصل إلى مقام الزهراء (ع) أن تنجز لنا عملاً بعد هذه المئات من السنين التي مرت على موتها؟ فأنتنّ اليوم تجتمعن من أكثر من مكان ومكان، ولكلٍّ منكن حاجة أو حاجات متعددة متكثرة، فتجعل من أم البنين وسيلة، فهل بمقدور أم البنين غير المعصومة أن تنجز ذلك؟

الجواب: إن بمقدورها أن تفعل ذلك على نحو الكرامة للمؤمن، وهي تجري حتى بعد الوفاة. والضابط في هذا الموضوع هو الحديث القدسي الذي لم يأت في حدود المعصومين، لأن مقاماتهم أكبر من هذا الحد وتلك الدائرة، والحديث هو: عبدي أطعني، تكن مثلي، تقول للشيء كن فيكون.

ولنعد إلى أم البنين، ونسأل أنفسنا: هل كانت مطيعة لله أو لا ؟ الجواب: أنها كانت عارفة بحق أهل البيت، ولازم المعرفة هو الطاعة والانقياد، وقد كانت مطيعة منقادة، بدليل أن دائرة الامتحان الصعب، وهي التضحية بأنفَس النفيس، وهي الروح وفلذات الكبد، أثبتت أنها قدمتها على طبق الطاعة دون تردد، بل إنها عندما استقبلت الركب الحسيني وأُخبرت أن أبناءها قتلوا سجدت لله شكراً، فأي إنسان يُخبر بقتل أربعة من ولده فلا يلطم وجهه وصدره؟! إلا أن أم البنين ضبطت عواطفها، وواجهت الواقع كما هو، وتعاملت معه من خلال دائرة المعرفة الحقة، فسجدت لله شكراً، أن تقدمها الأبناء إلى الجنة بين يدي سيد الشهداء (ع)، وهذا مقام صعب المرتقى لا يتيسر بلوغه للجميع رجلاً كان أم امرأة.

ومن هنا نعرف أن أم البنين (ع) من أجلى وأبرز المصاديق وأكثرها وضوحاً فيمن يتمثل في ذاتهم الطاعة والانقياد، فلا محذور أن نعتقد أن الكرامة تجري على يدها (ع).

والسؤال التالي هو: ما هي الوسائل التي نستطيع من خلالها أن نصل إلى تحريك هذه الذات في عالمها الخاص، وهو العالم العلوي في الآخرة؟ فهي ليست بيننا اليوم، ولا بد من إيجاد حالة من الربط بيننا وبينها لكي نستطيع أن نجعلها الوسيلة في إنجاز ما أردنا إنجازه. وهذه الحالة تتمثل فيما يلي:

1 ـ التوسل إلى الله تعالى بها، فنحن لا نعتقد أن الأئمة (ع) والأولياء يقومون بالفعل، إنما ذلك بإذن الله تعالى. ومن باب أولى أن يكون ذلك في حق أم البنين، وهي كرامة من الله لها أن تقوم بهذا للمؤمنين، ولا محذور في ذلك، لأنه ليس تقاطعاً مع إرادة الله تعالى، ولا في عرض ولايته، إنما هو في طولها. فالله تعالى اصطفى من الناس ثلة معينة، ومن هؤلاء الذين اصطفاهم وبوأهم مقاماً خاصاً فيما يتلو مقامات المعصومين، هذه المرأة الجليلة. فالتوسل بها لله تعالى شافع نافع.

2 ـ النذر: وهو كرامة لأمة البنين قربةً إلى الله تعالى، فكل أدلة النذر لا تخرج أم البنين من الدائرة، وإنما عمومها شامل لما نحن فيه. والبعض يشنع علينا في ذلك، فيقول: لماذا هذه النذور لأم البنين؟ ولماذا لا تكون لغيرها كالأئمة (ع)؟

الجواب: لا معارضة بين النذر لها أو للمعصومين (ع) أو للعباس (ع) أو للسيدة الحوراء، إلا أن الذي يحصل في الخارج هو أن نخبة من الأخوات نذرن أنفسهن أن يحيين هذه المناسبة، وبالتالي فإن من يعترض هذه السفرة أو يقف في طريقها لماذا لا يعمل جاهداً أن يصنع (سفرة) لزينب (ع) أو ليلى أم الأكبر، أو رملة أم القاسم؟ بل لم لا يصنع سفرة لأشرف النساء على وجه الأرض وهي الزهراء (ع)؟ فإن كانت النوايا حسنة، ينبغي أن يصنع المعترض مشروعاً جيداً بدل أن يعترض على المشروع القائم. أما إن كانت النوايا غير حسنة، فهي مردودة على أصحابها، وليتق الله تعالى أصحاب هذه النوايا، لأن معارضة أهل البيت (ع) أو من يحسب عليهم يترتب عليها من الأمور الخطيرة ما ليس في الحسابات.

3 ـ الصدقة عنها: بأن تتصدق عن أم البنين ثم تطلب الحاجة، وهي واحدة من الوسائل النافعة لفك المغلقات.

4 ـ قراءة القرآن والأدعية والزيارات وإهداء الثواب لها.

أما عن الحاجات التي نطلبها فهي كثيرة، وأم البنين ترقب الجميع من ذلك العالم العلوي، وتقدم الأهم على المهم، فصاحب الحاجة الماسة الذي انقطعت به السبل تنجز له طلبته، وقد لا ينجز الطلب، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبة الأمور. فإن نذرنا ولم يتحقق المطلوب، فلا بد أن نسلم أن المصلحة قد تكون في التأخير.

فمن حاجاتنا الكثيرة أن لدينا مرضى، فنسأل الله تعالى بشرف أم البنين أن يشافيهم جميعاً، وكذا دفع البلاء، فنحن في زمن العسرة والحرج، ونسأل الله تعالى بحق أم البنين أن يرفع البلاء عن الأمة، وأن يرفع الغمة عن الأمة المرحومة بمحمد وآل محمد (ع) وبشرف أم البنين. وليس منا أحد إلا ولديه أمور متعسرة وعالقة، فنسأل الله تعالى بحقها أن تُذلَّل الصعاب وتسهل الأمور وتنجز الحاجات. وهنالك مساجين من شيعة علي (ع) في أكثر من مكان ومكان، فنسأل الله تعالى في هذه الليلة بحق أم البنين (ع) أن يفرج عنهم عاجلاً، وأن يرجعهم إلى ذويهم سالمين غانمين.

وأهم حاجة يجب أن نلهج بها ليلاً ونهاراً، وهي مفتاح لكل حوائجنا، الدعاء بالفرج لفرج آل محمد (عج) فكل حاجة لنا لا بد أن يتقدمها طلب الفرج له.

وهنالك تنبيه بسيط جداً أود الإشارة إليه، وهو أنني أتمنى أن أجد في السنة أو السنوات القادمة مجالاً للفن التشكيلي أن يثبت حضوره بهذه المناسبة، يجسد حضور أم البنين وعطاءها وتضحياتها، فالفن التشكيلي لغة عالمية هذه الأيام، ويفترض أن نحركه في هذا الجانب.

كما يفترض أن يكون للمسرح فاعلية، فالمسرح اليوم يأسر، لأن الخطاب المباشر وإن كانت له فاعليته في أجواء معينة، إلا أن المسرح أثبت أنه أكثر فاعلية، وقد أثبتت الاحتفالات التي تقام، ويكون المسرح بعض فقراتها أنها الأقدر في استقطاب الشباب، بل استقطاب الجميع.

كما يفترض في مثل هذا المقام أن نجد حضوراً للشعر، وأن نجد شاعرات يوظفن المناسبة للهدف العام. ثم الكتاب النافع، وهكذا.

فلو أننا في كل سنة نخرج بمشهد تمثيلي مختصر يحمل رسالة هادفة، بعدة لوحات، ولو بعدد الأسماء الخمسة لأهل البيت (ع) تحمل رسالة أم البنين وسفرتها لنقدمها للناس، فسيكون لها خلود. وكذا الحال مع الشعر والكتاب وغيره.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الأخوات القائمات على هذه السفرة المباركة ببركات أم البنين، وأن يقضي حوائجهنّ، وأن يأخذ بأيديهن إلى ما يصبون إليه، وأن يحفظ هذه السفرة ومن يعمل في سبيل الحفاظ عليها، وأن يقطع يد كل من يحاول أن يمتد إليها بسوء أو يقلل من قيمتها وأهميتها في الوسط العام. وأن يأخذ بأيدي القائمات عليها أن يذهبن بها إلى مساحات فيها من التأثير الكبير.

نفعنا الله وإياكم بأم البنين في الدنيا، بقضاء الحوائج التي توسلنا بها لقضائها، وفي الآخرة أن تكون لنا شفيعة، وأن تأخذ بأيدينا إلى الجنة.

وختاماً أتقدم بالشكر لمن أتاح الفرصة لي أن أتحدث معكم بهذه العجالة، وبما أمكن أن أتحدث به، وأسأله تعالى أن يجمعنا وإياكم في القادم، وأن يحفظ هذه السفرة لكم، وأن يقضي حوائجكم ويحقق مطالبكم ويشافي مرضاكم ويدفع البلاء والسوء عنا وعنكم وعن شيعة أمير المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها وأن يعجل للخلف الباقي من آل محمد (عج).

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.

اللهم اجعلنا من أنصاره وأعوانه والمصلين خلفه والمستشهدين بين يديه، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.