نص كلمة سماحته في حفل تأبين المرحوم الحاج محمد طاهر البخيتان
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على اشرف أنبيائه ورسله حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد، صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
﴿يـٰاَيُّهَا النّاسُ اِنّا خَلَقنـٰكُم مِن ذَكَرٍ و اُنثىٰ و جَعَلنـٰكُم شُعوبًا و قَبائِلَ لِتَعارَفوا اِنَّ اَكرَمَكُم عِندَ الله اَتقـٰكُم اِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير﴾[2]
دور وأهمية التعارف في المجتمعات الانسانية
الحديث عن أصل وجود الإنسان حديثٌ له مرتكزاته وأسسه ومقوماته، من آدم أبي البشر بدأت المسيرة، ثم أخذت في التشعّب والتفرّع كلٌ بحسبه ومن خلال موقعه، تكثر البشر، تعددت الطرق، اختلفت الأذواق والمشارب، خطوطٌ بينها تواصل، وخطوطٌ أخرى حكمتها آليةٌ التقطيع فحصل التقاطع والتباعد، ثم التناحر ثم التصفية، الإنسان يبقى هو الإنسان، الذي من أجله بعث الله الأنبياء والرسل، من وسطهم، من صنفهم، من كينونتهم، لعلمه المسبق ان البشر لن يتحدوا على شيئاً واحد، وأن الاختلاف سوف يبقى هو الذي يأخذ الإنسان في أكثر من مساحة ومساحة، ﴿يـٰاَيُّهَا النّاسُ اِنّا خَلَقنـٰكُم مِن ذَكَرٍ و اُنثىٰ﴾ مكرمين، مقدرين، مقدمين، كلما في الكون من اجلنا، في خدمتنا ﴿و جَعَلنـٰكُم شُعوبًا و قَبائِلَ لِتَعارَفوا﴾، المعرفة هي الطريق للمحبة والسلام والتعاون، المعرفة هي القنطرة الموصلة إلى السعادة العظمى، فمتى ما فتحنا هذا الباب لأنفسنا ومن خلاله ولجنا الى المساحات من حولنا، اتسعت الدائرة، رشدت، نمت وارتقت، على العكس من ذلك فيما لو اوصدنا هذا الباب، ضاقت الدائرة علينا، لاننا وقتها لا نرى في كل من هم حولنا الا ذئاب مفترسة تتحين الفرصة فينا، لذلك أيها الأحبة علينا ان نفتح باب التعارف والتودد والتراحم حتى نسعد نحن ويسعد الآخرون من حولنا.
التحليق بجناحي التقوى والمعرفة
﴿اِنَّ اَكرَمَكُم عِندَ الله اَتقـٰكُم﴾ التقوى أيها الأحبة لا تشترى من مركز كبير ولا من دكان صغير وإنما يتم الحصول عليها والفوز بها من خلال ما يقوم به هذا الإنسان من جهد في سبيل جمع مفرداتها؛ من استقامة والتزام في أداء لقبس ديني، بعيدا عن الدخيل المشوه، في الجانب الآخر في المعاملة، في بيوتاتنا، مع المحيط القريب منا، أولى الأرحام، مع دائرة تكبر شيئاً فشيئاً، وأجمل المجتمعات وأكملها وأكثرها رقيا هو ذلك المجتمع المستوعب للآخر الذي يحمل صدراً رحباً وقلباً حانياً ونفساً تتسامى على الصغائر، إذا تفاعلت هذه العناصر الثلاثة فيما بينها لم نجد أمامنا إلا النورانية ومساحات الظلمة سوف تتقلص شيئا فشيئا، ﴿اِنَّ اَكرَمَكُم عِندَ الله اَتقـٰكُم اِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير﴾ الله سبحانه وتعالى يعلم من حيث اوجدنا الى اين تنتهي بنا: ﴿و ما خَلَقتُ الجِنَّ و الاِنسَ اِلّا لِيَعبُدون﴾[3] العبادة هنا لا تحصر في جانب واحد وفي قراءة ضيقة وهو ما يؤديه الإنسان من نسك؛ صلاة، صوم، حج وما وراء ذلك.. وإنما القراءة ينبغي ان نذهب معها إلى ما هو ابعد من ذلك ألا وهي المعرفة، التعرف على أصول الدين من خلال آلية المعرفة، فأصوله شؤون عقدية لا يجوز للإنسان ان يرجع فيها للآخر، وإنما هو شأنه وسوف يحاسب بناءا على ما وصل إليه من نتائج، جراء مقدمات جمع فيما بينها وخلص إلى نتيجة جراء معطياتها، وهذا أيها الأحبة تكليفي وتكليفك وتكليف الآخر الذي ليس في محضرنا، كذلك أيضا التعرف على فروع الدين التي على أساس منها تصحح الأعمال.
تكليف الانسان في التعاطي مع فروع الدين:
أ. أن يكون مجتهدا
وهنا يتحرك الإنسان في واحدة من مساحات ثلاث: اما ان يكون من أهل العلم والتحصيل الذين نذروا أنفسهم وبذلوا جهودهم في هذا الاجتهاد حتى نالوا مرتبة الاجتهاد، وهنالك من يقسّم الدائرة أو القضية على مشربين: المشرب الأول هو الاجتهاد المطلق، والثاني الاجتهاد التجزيئي، وفي هذه القسمة نرى ان جمعٌ من علمائنا ذهب إلى صحتها وجمعٌ آخر توقف فيها، وأنا في ركب المتوقفين، لان ملكة الاجتهاد أمر بسيط تشتد وتضعف ولا تركّب وتفكك، بالنتيجة يمكن الإنسان ان يأخذ هذا المسار ولا يوفق له إلا كما قلت لكم من وصل ليله بنهاره بحثا وتحقيقا وتفتيشا ومتابعةً قبولا ورفضا وانتهاء إلى نتيجة.
ب. أن يكون محتاطا
المسار الثاني الاحتياط في أداء التكاليف كأن يجمع بين منظومة ممن لهم الرأي في الفتيا كما لو ترددت الاعلمية على مسلك من يشترطها بين أكثر من شخص، فبمقدور هذا الإنسان ان يأخذ بهذا الجانب أو يتردد الفقيه بين موردين فيأخذ الأصعب منهما مراعاة لحد التكليف.
ج. أن يكون مقلدا
وأما المرتبة الأخيرة وهي الأضعف ألا وهي التقليد، بمعنى الرجوع إلى من يجب الرجوع إليه، واخذ الأحكام عنه إما من خلال رسالته العملية وإما منه مباشرةً، وإما بنقل الثقة، بهذه المشارب الثلاثة يصل الإنسان إلى اخذ التكليف والخروج من عهدته، أيها الأحبة نحن بمقدورنا ان نكون من أصحاب الطبقة الأولى وهي الأكثر تقدماً وربما نكون في المرحلة الثانية ممن يراعون جوانب الاحتياط وهي مساحةٌ أيضاً لا تخلو من جمال وان كان يكتنفها الشيء الكثير من المشقة والعسر والحرج، أما المشرب الثالث أو المسار الثالث فهو بمقدور جميع الناس ان يصلوا إليه أو ان يأخذوا بحجزته.
أهمية معرفة النسب وأثره
حديث شريف مهم في هذا الجانب يرجعنا إلى معطى الآية الشريفة، يقول النبي الأعظم (ص) كما في المروي: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فان صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر»[4]، نحن في منعطف زمني أيها الأحبة يحتم علينا ان نحرك هذه المفردة في أوساطنا ألا وهي مفردة النسب، النسب له قيمته وله حضوره، للقبيلة قيمتها وحضورها، للعائلة قيمتها ونفوذها وحاجزيتها لأبنائها، هذا اذا ما أعطيناها المساحة التي ينبغي ان تتحرك في فضاءاتها، أما اذا ألغيناها من الحسابات فمعنى ذلك أننا نغلق الأبواب على منبع ثر وعلى وثروة طائلة، الشريعة أمّنتها وحصّنتها، علينا ان نفتح الأبواب، ان نلج في زواياها، ان نحرك جميع المفردات فيها، من آباء وأمهات وأخوال وخالات وأعمام وعمات ومن انحدر عنهم في ذلك خير كثير أيها الأحبة، والشريعة بالمناسبة لم تلغي البُعد القبلي وإنما على العكس من ذلك تماما والنصوص في هذا الجانب كثيرة، غاية ما في الأمر أنها مغياة مكشوفة النتائج أيها الأحبة فمن حق الإنسان ان يفتخر بانتمائه إذا كان الانتماء عامل وتيرة في القيمة والسمو والرفعة بين أبناء المجتمعات والشعوب والقبائل من حوله، لذلك هو منطق القرآن، إذ تحكي الآية الشريفة عن نبي الله عيسى (ع): ﴿قالَ اِنّى عَبدُ الله ءاتـٰنِى الكِتـٰبَ﴾[5]، كذلك النبي الأعظم محمد (ص) قال في أكثر من موطن وموطن: «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش»[6]، والنبي (ص) لو لم يكن وراءه هذا الرصيد الضخم ربما تعثرت المسيرة في أكثر من موطن وموطن، كيف لا وكلنا يعرف ان أبا طالب هو الكفيل بالنبي الأعظم محمد (ص) وهو شيبة الحمد ووجه العرب، ولو لم يكن ذلك، ربما القراءة الاحتمالية للواقع التاريخي تأخذنا إلى مشارب بعيدة
1. محبة في الأهل
فيقول الحديث الشريف عن النبي الأعظم محمد (ص): «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فان صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر» الذي يقترب من أهله وأرحامه ويقدم لهم طقوس الاحترام؛ الصغير يسمع الكبير؛ يحترم الكبير؛ يقبل رأسه؛ ينحني على يده احتراماً وتقديراً وإبرازاً للمشاعر وتأكيدا للانتماء لهذا الأصل الذي انحدر عنه كم في ذلك من القيم الكبيرة أيها الأحبة.
2. مثراة في المال
أيضاً يعطي للمال بعد وكثرة عندما ينهض الشخص بلا قبيلة ربما تعثرت مسيرته في البناء الاقتصادي، لكن إذا احتضنته قبيلته قدمت له رأس المال دفعته بالاتجاه الصحيح، أخذت بيده وقدمت له ما أراد ان يقدم من العون والدعم معنى ذلك انه لا يتحرك بنفسه ولا يتحرك منفردا أيها الأحبة وإنما يتحرك بثقل وميراث ضخم جبار من وراءه.
3. منسأة في الأثر
الأمر الآخر هو منسأةٌ في الأثر، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف انه قال: «إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبرارا بررة»[7]، وفي حديث شريف آخر يقول (ص): «إن الله (تبارك وتعالى) لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[8]، اذا أنت غني فغناك لك ما لم ينعكس على المجتمع كأثراً واضحاً بيناً يتلمسه البعيد قبل القريب، والا وقتها فالغناء لك ولا زيادة على ذلك.
اجتماع المؤمنين مدعاة للمحبة والتعاون
أما القلوب أيها الأحبة فقد آن الأوان ان تصفى وتنقى وان تشذب من جميع الدنس الذي تسلل إليها ربما لا يكون عن قصد ولكن أيضاً ربما تكون النوايا مبيتة، علينا أيها الأحبة ان نعمد إلى قلوبنا، ان نطهر هذه القلوب والى نفوسنا ان نزكي هذه الأنفس حتى يصفو الجو و المناخ من حولنا أيها الأحبة من بركات مثل هذه المجالس اننا بمقدورنا ان نضع قواعد أساس لبناء ليس فيه إلا المحبة والمودة والرحمة والتعاون والشفقة والأخذ بيد الجيل بعد الجيل في مدارج النجاح والكمال والوصول إلى أعلى المراتب سموا وارتفاعاً.
محطات لابد التوقف والتذكير فيها:
محطاتٌ ثلاث أيها الأحبة أقف عندها على عجلة:
الأمر الأول القرية بين أمسها الأصيل ويومها الجميل، أيها الأحبة! الشيخ الأوحد (رضوان الله تعالى عليه) نموذجا مشرقا، إن لهذه القرية تاريخٌ عظيم، لا ينبغي ان نفرط فيه، وإذا ما تم ذلك فإنما هو منحل عن عدم الوقوف على حيثيات ذلك التاريخ، كل الأمم تفتخر بعظمائها! فهل نفتخر نخن بهذه القامة العظيمة التي قل ان يجود التاريخ بمثلها؟ متفرعة في جميع المشارب، لها قدم صدق في كل علم وفن، الشيخ أحمد بن زين الدين الاحسائي المطيرفي هو ابن هذه القرية، هذا الرجل العظيم في علمه والعظيم في نفسه، التقوى تحيطه من جميع جوانبه، العلوم تتفجر من جميع نواحيه، قلمه تحرك ولم يتوقف إلا حينما لبى نداء ربه عند محمد وآله، فحري بنا أيها الأحبة ان نتمثل دوره وبظني ان الأخوة الأفاضل من رجال الدين من أبناء هذه القرية الذين انبسطوا بمجتمعهم وجسدوا ما قاموا به من نذر للنفس في سبيل مجتمعهم أقول لكم ولهم أيها الأحبة: لسنا حدث على هذه القرية مادام الشيخ الأوحد (رضوان الله تعالى عليه) قد وضع حجر أساس للعلم والمعرفة فيها، فحري بأبنائها من رجال العلم ممن حضر وممن لم يحضر ان يعيد قراءته مرة أخرى لسيرة هذا الرجل العظيم، كيف استطاع ان يسافر بهذه القرية في أكثر من موطن وموطن في أكثر المواطن تألقاً علماً ومعرفة، فقدمه راسخةٌ في البحرين التي كانت وقتها حاضرة علمية كبرى، ثم في كربلاء وشق صفوفها بعلمه ونورانيته ومعرفته حتى اجتمعت عليه بكل تشققاتها، علمه بهر القريب والبعيد وعندما وصل إلى النجف الاشرف وهي التي كانت في وقتها مناراً رفيعاً للعلم والمعرفة جل أعلامها وكبارها كانوا يقدمون له الاجازة مع نعت بأنه أجدر بالإجازة من ان يجاز! مرتبة عالية سامية مشايخنا فيهم البركة المسالة مسالة مواصلة، نسال من الله سبحانه وتعالى ان يسقط الحواجز التي اعترضت مسير المواصلة وأن يسهل الطرق في القادم من الأيام كي تستتم دورتهم المعرفية ليأخذوا بالمجتمع إلى ما هو الأفضل.
الأمر الثاني العوائل وأثرها في بناء مكون المجتمع المدني في هذه القرية، أيها الأحبة القبائل في هذه القرية كُثر والبيوتات أيضاً كثيرة ولكل واحدة منها خاصيتها وميزتها التي تنفرد بها مع اشتراك مع بقية الأطراف الأخرى في البقية من تلك الصفات والامتيازات، تلاقحت هذه القبائل فيما بينها حتى شكلت بيتاً واحداً فلا يكاد شخصٌ من قبيلة إلا وتكون له الخؤولة في أكثر من بيت وبيت ان دل هذا على شيء فإنما يدل على سمو ورفعة وصفاء نفوس الآباء والأجداد الذين أصّلوا لهذه المرحلة التي نحن نعيش زمنها، أيها الأحبة سادة آل السلمان في ضيافة القرية، البعض يتصور ان القضية حديثة سنوات يسيرة، اذ صاروا يترددون على المسجد يصلون أو على الحسينية! لا أبدا وانما هو تواجد منذ قرابة مأتين وثمانين عاما، وأول بيت بناه الجد السيد محمد وهو جد السيد سلمان، فأصل العائلة من هذه القبيلة ثم تفرعت، أهل القرية برحابة صدورهم وكرم نفوسهم والعلاقة الخاصة مع أهل بيت النبوة عليهم السلام وجدوا فيهم ما يقربهم إلى بيت محمد وآل محمد (ص)، فما احرانا ان نحافظ على هذا الموروث وان ندفع الدخيل الذي يحاول ان يربك الأوراق حتى في داخل العائلة نفسها.
الأمر الثالث الحديث حول الحاج محمد طاهر البخيتان ( ابو علي) رحمه الله؛ من أين ابدأ معه وإلى أي نقطة انتهي، علاقتي معه علاقة خاصة، قرأت فيه أخاً كبيراً محباً حامياً وأهم من ذا وذاك كان ظهراً قوياً عندما اجلس إلى جانبه واسمع الكلمات تجري على لسانه اشعر بالقوة، لأنه قوي، لم يشأ لنفسه ان يضعف في لحظة من اللحظات رغم البلاء والامتحان الذي صب على رأسه وهو رفع الدرجات ان شاء الله نحتسبها.
بعض صفات المرحوم محمد طاهر البخيتان (رحمه الله)
واحدة من صفاته الشهامة ولا غرابة في ذلك فهو ابن أبيه وابن قبيلته ولا غرابة ولا مزايدة. الأمر الثاني الكرم ولا عجب، في الكرم مفردة مميزة، بعيدة عن الضجيج والضوضاء أيادي الندى تمتد منه إلى بيوت لم يطلع على حالها إلا الخاصة من أهلها لكن يده السمراء المعطاء كانت تمتد يتمثل ما كان عليه إمامه وإمامنا السجاد (ع) يحمل جُرابه على ظهره كان المرحوم يمد يده إلى بيوت اقرب القرابة لها لم يمد يده لها. الامر الآخر حُبه للقرية وأهلها كانت كل نازلة إذا ما نزلت على أحد، كان (رحمه الله) يعيشها وكأنها نزلت عليه، لا يمتلك القدرة على إمساك الدموع المتقاطرة من عينيه على خديه لفقيد فقد، أو لحادث وقع، هذا هو المرحوم، كانت روحه الطيبة البسيطة المعجونة بعجينة الحب مصداق:
لا عذب الله أمي أنها شربت **** حب الوصي وغذتنيه في اللبن
وكان لي والد ٌيهوى أبا حسن ِ**** فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
هذا الحب تحرك في جميع نواحيه لذلك تقرأه كعلامات بارزة واضحة بيّنة، علاقته بأهل البيت عليهم السلام علاقة منقطعة النظير لم يقعده المرض عن قصد عتباتهم ولم يعرقله عن الوقوف على قدور البركة لهم على ما كان عليه ذلك الإنسان الذي لم يرجو من أحداً جزاءاً ولا شكوراً وإنما أراد صفقته ان تكون خالصةً مع الله ومع محمد وآل محمد عليهم السلام، علاقته بأهل البيت عليهم السلام من خلال الحسينية التي نحن فيها وله فيها بصمةٌ لا يزيلها تعاقب الليالي والأيام، علاقته بأهل البيت عليهم السلام من خلال التردد على أضرحتهم، أما علاقته بالمسجد فكان المصداق لهذه الآية الشريفة: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾[9] عمرها بالعبادة، كان شديد الحرص على صلاة الجماعة، عمرها برفع الأذان فيها، يوم القيامة أطول الناس أعناقاً الرافعون للأذان وكان منهم، علاقته بالمسجد علاقةٌ طويلةٌ عريضة أسهم في إحياء مسجد الشيخ داغر (رضوان الله تعالى عليه) ليقدم انموذجاً طيباً من خلال موردين: المورد الأول؛ انه أحيا بيتا من بيوت الله وفيه اجرٌ عظيم لا يعلمه إلا الله، من يصلي فيه من يتردد عليه يناله الأجر والثواب جراء ما قدم من صفقة طيبة مباركة، المورد الثاني؛ قرب إلى أسماعنا اسم الشيخ داغر، ولو انك طلبت من أبناء هذه القرية ان يتحدث واحدٌ منهم عن الشيخ داغر في عشرة دقائق لا أدري هل سيوفق احد لذلك أم لا؟ أو لو أننا وزعنا استبيانا هل ستأتي الإجابة بالإيجاب وإذا ما جاءت فهل لها واقعٌ ومصداقية؟
استرجاع سيرة الماضين
أيها الأحبة نحن في مسيس الحاجة ان نسترجع سيرة أناس فقدناهم، هذه العائلة الكريمة البخيتان فقدت هذا الرجل الجليل الخدوم الطيب البسيط الذي لم يعرف التكبر والترفع طريقه إلى نفسه أبداً وفقدت أيضاً عمدة القرية، شيخ القرية، الحاج أبو محمد رضوان الله تعالى عليه العوائل إذا غاب عنها الكبار تتداعى لكن بحمد الله بقي في القرية من يعقد عليهم الأمل ويعلق ان يحافظوا على كينونتها وإن يثبتوا ما أصله أولئك وأن يحافظوا على عنوانهم وأحسبهم ليسوا قلة واخص منهم رجال الطبقة الأولى، أيها الأحبة في أعناقكم أمانة إذا تماسكت العوائل الكبيرة تماسكت سائر العوائل وكلها كبيرة بطبيعة الحال لكن بالحسابات المعروفة، اما إذا انهارت هذه العوائل بمعنى تخلت عن رسمها ورسموها التي الفها المجتمع وبنى على أساس منها انهارت بقية العوائل وقتها قريتنا تصبح في مهب الرياح، نحن قادمون على فترة صعبة وحرجة ما لم تأخذ العوائل دورها كما كانت تقوم به في الماضي، فعلينا ان نرتقب الأسوأ لا قدر الله ذلك، لكنكم أهل لتحمل المسؤولية والقيام بعهدتها ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ ونفسك مطمئنة يا ابا علي ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[10] مع محمد وآل محمد ان شاء الله، لروح فقيدنا، لروح كل فقيد فقدناه من ذكر او انثى من أهل هذا القرية الطيبة المباركة بأهلها ان شاء الله، دفع الله عنها كل سوء وبلاء انه ولي ذلك الفاتحة مع الصلوات.