نص كلمة سماحته في أحد المحافل خارج المحافظة في ذكرى المولد النبوي الشريف الجزء الثاني

نص كلمة سماحته في أحد المحافل خارج المحافظة في ذكرى المولد النبوي الشريف الجزء الثاني

عدد الزوار: 511

2014-02-27

البيئة السياسية في عهد الصادق (ع):

إننا نُنسب للإمام الصادق (ع) ونضاف إليه، فيقال عنا جعفرية، فلماذا نضاف إليه بالذات؟ ولماذا لا نضاف إلى الباقر (ع) أو الجواد (ع) واختصت النسبة بالإضافة لهذه الذات؟

كلنا يعلم أن نور الأئمة (ع) نور واحد بصريح قولهم: «أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد وكلنا محمد»([3]). 

لقد اختص الإمام الصادق (ع) بمساحات لم تتفق لمن تقدمه أو تأخر عنه في سُلَّم الإمامة. فقد جاء والدولة الأموية تطوي أواخر أوراقها، والدولة العباسية ترتب أوائل أوراقها، وكان بين المحطتين فضاء كبير. فالإمام الباقر (ع) أصّل القواعد، فيما فرّع الإمام الصادق (ع) عن تلك الأصول.

كمّا أنه تنقل بين حاضرتين كبيرتين في سماء المعرفة، هما المدينة المنورة، والكوفة العلوية، وقد أفرغ في هاتين المدينتين من العلوم ما لم يتسنَّ لمن تقدمه من الأئمة (ع) أن يفرغوه.

وقد امتنَّ الله عليه بعمرٍ إذا ما قيس بغيره من منظومة الإمامة يمنحه مساحة شبه كافية أن يعطي أكثر مما أعطى غيره.

لقد كان يعلم علم اليقين أن الخليفة العباسي مهما قام به من دور عنادي صدامي فلن يستطيع أن يحدّ من مسيرته، لذا انطلق منفتحاً على الآفاق من حوله. وكم نحن اليوم بمسيس الحاجة أن ننفتح على أنفسنا، وإن كانت هذه واحدة من نكبات الدهر، ففي الوقت الذي يفترض أن ننفتح على الآخر، بتنا نبحث أن ننفتح على أنفسنا أولاً، فما عسى أن تكون المأساة أكثر؟!

ففي المدينة المنورة أفرغ الإمام الصادق (ع) الكثير من العلوم في الجانب النقلي أكثر مما هو في الجانب العقلي، أما في الكوفة فقد أفرغ كماً هائلاً من العلوم، ولكن في الجانب العقلي أكثر، واستتم المنظومة في المدينة قبل شهادته مظلوماً.

تلامذته وحفاظ علمه:

ثم إن الله تعالى أكرمه بكوكبة من الصحابة الذين يعون دوره، ويفقهون ما كان يدلي به، فكانوا من الكثرة بمكان، ومن التميز بمكان يستوجب لفت النظر، ولو أن كل واحد من هؤلاء الصفوة من صحابته قُدِّمَ ليكون إماماً لمذهب من مذاهب المسلمين لكان جديراً بذلك.

لقد سمعت تلك المنظومة من الإمام، وقيدت ما كتب، فقد كان (ع) يدفع بهذا الاتجاه فيقول وهو يستحضر قول جده المصطفى (ص): «قيِّدوا العلم، قيل: وما تقييده؟  قال: كتابته»([4]). فالظروف التي عاشها الأئمة (ع) ممن تقدمه لم تكن تساعد على التدوين، وكلنا يعلم أن التدوين كان محظوراً في زمن الخليفة الثاني، واستمرت تلك الحال حتى جاء الإمام علي (ع) إلى الكوفة، ليجد فيها مناخاً مناسباً، فيفتح جزءاً من تلك الأبواب المودعة. فكلنا يعلم أن النبي (ص) فتح لعلي (ع) ألف باب من العلم، يفتح من كل باب ألف باب من العلم، وقد أغلقت تلك الأبواب بكلمة واحدة والنبي (ص) يحتضر، فقيل: حسبنا كتاب الله. فقد أغلقت تلك المفردة الأبواب وأوصدتها بإحكام، حتى أن من كان ينقل نصاً في حقهم، لا تُعرف العوامل التي كانت تطوي صفحته من الوجود.

إن هؤلاء النخبة الذين التفوا حول الإمام الصادق (ع) أجهدوا أنفسهم في التدوين، لذا نجد أن أكثر مراحل الأئمة إثراءً للنص هي مرحلة الإمام الصادق (ع) ونجد أن الفقيه حيث أراد أن يستدلّ، فإنه يرجع إلى الإمام الصادق (ع) وكذلك الفقيه الآخر وغيره حتى نصل إلى المئات أو الآلاف من الفقهاء.

ثم إن هؤلاء الأصحاب تكثرت العلوم فيما بين أيديهم، ومستوجب ذلك أن الإمام الصادق (ع) كان يفرغ على كل جماعة تطرق باباً من أبواب المعرفة. فمحاولات الإمام أمير المؤمنين (ع) في الكوفة من قبل، لم تكن تُكلَّل بالنجاح في جميع مواطنها، حتى عندما وقف (ع) وهو يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض»([5])، كان الرد من بعض مَنْ حوله، وهو أعرابي لا يفقه شيئاً، قال له: كم في رأسي ولحيتي طاقة شعر؟([6])، وكان ذلك بمثابة حجر يرمى به، فطوى عنه صفحاً، لأنه كان يعيش مرحلة الاقتدار، ويتحرك في مساحة قوله تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ([7]). أو قول الشاعر:

وحسبكم هذا التفاوت بيننا    وكل إناء بالذي فيه ينضحُ

الجامعة الكبرى:

لقد تنوعت العلوم في عهد الإمام الصادق (ع) فمنها العلوم الدينية، كالفقه والتفسير والتاريخ والعقيدة والكلام وما أشبه ذلك، ومنه العلوم العقلية، كالفلسفة والحكمة والرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها.

فالإمام الصادق (ع) وإن لم يرفع لافتة تشير إلى أن المكان كان يمثل جامعة كبرى، إلا أن الواقع يسجل ذلك ويشهد به. فما أحرانا أن نعيش هذا الإمام العظيم، المنفتح على جميع ألوان الطيف والذي قطع جميع حبائل الانعتاق ضمن حدود الدائرة الضيقة.

إن مداركنا لا يمكن أن تتسع ونحن لا نعيش إلا ضمن داخلنا، فإن أردنا أن نرشد ونكمل ونتقدم ونتسيَّد، فعلينا أن ننفتح على جميع المسارات من حولنا، ومن لا يرغب في ذلك يكشف عن حالة ضعف في داخله، أما من ينفتح على الآخر فإنه يعكس عنوان القوة والاقتدار والاستعداد.

لذا فإننا نلحظ في حياة الإمام الصادق (ع) أنه يثني ركبته في المسجد، فلا يقوم حتى يقف على آخر مسألة عند سائل، وعلى العكس من ذلك تماماً عند غيره. فقد دخل أعرابي مسجداً من مساجد بغداد، وكان أحد أئمة المذاهب الأربعة يلقي بحثاً في الفقه، فتقدم إليه فسأله، فاعتذر عن الإجابة، ثم استرسل في درسه، فاعترضه الأعرابي بسؤاله مرة أخرى، فلم يجبه، مقدماً له الاعتذار بأنه لا يعرف الجواب! وهكذا، كان الأعرابي يسأله سؤالاً تلو الآخر فيعتذر عن الكثير، حتى بلغت الأسئلة تمام الأربعين، لم يجب منها سوى عن أربع. فقال له الأعرابي: أربع مسائل من أربعين، وأنت إمام مذهب على رؤوس المسلمين؟! فأجابه قائلاً: هذه المسائل الأربع صيرتني إماماً لمذهب واحد، أما من يجيب عنها جميعاً فهو إمام المسلمين.

 

في ختام حديثي أشكر الأخ الكريم الذي دعانا، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان أعماله، وأن ينفتح علينا بقدر ما نرغب أن ننفتح عليه وعلى أمثاله.

كما أذكر لطيفة حصلت مع الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو علمٌ من أعلام الطائفة، وركز من رموز الأدب، وأسطورة في إبداعه، وهو واضع علم العروض. فقد كان يجلس لتقطيع البحور إلى تفعيلاتها، دخل عليه غلامه وهو يضرب على صفيحة بعصا، ويردد مقاطع التفعيلات، فلم يفهم منه شيئاً، وكان في وضع غير مستقر ولا مناسب، فذهب إلى زوجة الخليل، فقال لها: لقد جُنَّ الخليل، فجاءت مسرعة ورأته على حاله فرجعت من حيث أتت. فلما عرف الخليل بالأمر قال لغلامه:

 

لو كنتَ تعلمُ ما أقول عذرتَني

 

أو كنتُ أجهل ما تقولُ عذلتكا
لكن  جهلت  مقالتي  فعذلتني
فعرفت   أنك  جاهل فعذرتكا

 

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.