نص كلمة سماحته في أحد المحافل خارج المحافظة في ذكرى المولد النبوي الشريف الجزء الاول

نص كلمة سماحته في أحد المحافل خارج المحافظة في ذكرى المولد النبوي الشريف الجزء الاول

عدد الزوار: 412

2014-02-27

وقفة مع رسول الإنسانية:

طُلب إليَّ أن أُوجد إسقاطاً ـ بعد قراءة سريعة لشخصية النبي الأعظم (ص) ـ على واقعنا وحاجاتنا هذا اليوم. فبقدر ما يعنيه النبي (ص) من الكمال بقدر ما تتعدد المنافذ الموصلة لذلك الواقع الكمالي، فالناس فيما بينهم يتفاوتون بطريقة الاقتراب والمقاربة من أحد هذه الطرق، إلا أن تعددها لا يشكل عقبة، إنما يفتح آفاقاً، وذلك عندما يكون الإنسان واقعياً مع نفسه في قراءة وحلحلة الأحداث التي يرغب أن يلج في حياضها.

والنبي الأعظم (ص) وإن حُصرت معرفته على الله سبحانه وتعالى، وأمير المؤمنين (ع) طبقاً لحديث شريف، إلا أن معطى الحديث هو المعرفة الحقيقية، أما المعرفة النسبية فهي متاحة ومباحة لكل إنسان على وجه الأرض، ولأن الكمال يفرض نفسه، فهو كالشمس يبصر ضوءها الجميع متى ما أشرقت وانتشر النور في الآفاق وغطى العوالم، ومن لا يبصر ذلك يدخل في دائرة أو منظومة الأعمى، وهو من أصيب في بصره أو بصيرته، والثاني أسوأ حالاً من الأول.

فالنبي (ص) من بيت هو أشرف البيوت التي عرفتها البشرية، وقد ولد في مكة، ولهذه المدينة خصوصيتها، فهي المكرمة بلطف الله، وكرامة النبي محمد (ص) وأنها تمثل مهبط الوحي الأمين، وفيها نزلت الآيات الكريمة، في جانب هو الأهم في التشريع الإسلامي، وهو جانب العقيدة المتمثل في الأصول التي ثُبِّتت بعد القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل، فلم تكن تلك القواعد من حجر فحسب، إنما كانت قواعد التوحيد الصافي المصفّى، فقد تعاقبت مسيرة من الأنبياء فيهم أولو العزم، ومن هو دون ذلك، فالله تعالى فضل بعض الرسل على بعض، وكل هؤلاء اقتربوا من القواعد وعالجوا تأسيس الأصول، لكنها لم تكتمل إلا على يدي الحبيب المصطفى محمد (ص).

ثمرة الوحي الإلهي:

والنافذة التي أود أن أُطل من خلالها على شخص النبي محمد (ص) هي نافذة القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم هو المعصوم الأول الذي تلقاه النبي (ص) بالمباشرة، وكلنا يعلم أننا نحتفل في هذه الليالي بذكرى ميلاد النبي (ص) الجسدي المادي، أما ميلاده في عالم الأنوار، فهو أول مولود خلقه الله سبحانه وتعالى، وشق نوره من نور القدرة، ثم انحلت عنه عوالم الأكوان بكل ما فيها، أما ميلاده المادي فهو التجسد لذلك العالم. فأول ما خلق هو نور نبينا، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: قلت لرسول الله (ص): أول شي‏ء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال: «نور نبيك‏ يا جابر، خلقه الله، ثم خلق منه كل خير»([3]).

فالقرآن الكريم بمقدوره أن يأخذ بأيدينا إلى المساحات والفضاءات في شخص النبي (ص).

ومن جهة أخرى أن القرآن لا تنتهي مرحلته بتقضي الدنيا، إنما يتلقانا في الآخرة، كما في النص الشريف عن إمام مذهبنا الذي نعيش ذكرى مولده في مثل هذه الأيام، وهو الصادق الأمين من آل محمد (ص) في الجزء الثاني من الكافي الشريف، لثقة الإسلام الكليني (رضوان الله عليه) أنه قال: «... فيُدعى بابنِ آدم المؤمن للحساب، فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا ربّ، أنا القرآن، وهذا عبدك المؤمن، قد كان يُتعب نفسه بتلاوتي، ويطيل ليله بترتيلي، وتفيض عيناه إذا تهجد، فأرضه كما أرضاني، قال فيقول العزيز الجبار: عبدي ابسط يمينك، فيملؤها من رضوان الله العزيز الجبار، ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يقال: هذه الجنة مباحة لك، فاقرأ واصعد، فإذا قرأ آيةً صعد درجة»([4]).

ونهاية المطاف، يصل الصاعد في الدرجات، حتى يصل إلى محمد وآل محمد (ص).

مسؤوليتنا تجاه القرآن الكريم:

وهنا مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها، ومنها: كم تعاهدنا القرآن الكريم في حياتنا؟ هنالك مراحل من حياتنا نمرُّ بها، لكن البعض منا قد لا يتعاطى القرآن إلا في حدود البركة والاستشفاء، كالبركة في ليلة الدخلة، وسكنى الدار، أو في فواتحنا وعلى أرواح موتانا، أو للاستشفاء، عندما يمرض الإنسان ويلتمس الطرق، وتغلق الأبواب أمامه فلا يجد ملاذاً إلا هذه الآيات، وهذا كله لا بأس به.

وهنالك أمر آخر مهم،  وهو أن نتعاهد القرآن في مرحلة من مراحل حياتنا، لا لأننا تفهَّمْنا الوضع، ولكن لوجود ما يستوجب ذلك فرضاً علينا، كما هو الحال في مراحلنا الدراسية، فنقرأ لحصد الدرجات، ونستظهر النص من أجل ذلك، ولكن لا ثمرة تذكر وراء تلك الدرجات المحصودة، فلا نحن تفاعلنا مع القرآن الكريم، ولا انفعلنا، وفي مثل هذه الحال لا تكون القراءة تامةً، وإن جوَّدناها وأحسنّا ترتيلها وضبطنا استظهارها، فنحن لم نستطع أن نقارب بين المساحتين، مساحة القول المتلوّ، ومساحة الفعل المجسَّد، فإذا تطابق النص المقروء مع الواقع المفعول، نكون عندئذٍ ممن ينتظره معطى الحديث الشريف الذي تلوناه عن الصادق من آل محمد (ص).

ثم ما هي المساحة التي يشغلها القرآن الكريم من واقعنا الفعلي والظرف الزمني الذي نعيشه؟ فاليوم بساعاته الطوال التي نقطّعها ونصرِّفها ونهدرها، كم يكون نصيب القرآن الكريم منها، خارج حدود الصلوات المفروضة التي لا بد من تلاوة القرآن فيها؟ وكم نعطي من الوقت لقرآننا ودستور حياتنا والشفيع المشفَّع فينا في كل يوم من تلك الساعات الطوال ليلاً ونهاراً؟

ثم هل يكفي أن يقال عنا إننا أمة القرآن ونحن لم نقترب منه كما ينبغي، ولم نستنطقه كما ينبغي؟ ولم نسافر به إلى العوالم والآفاق من حولنا، إنما أبقيناه رهيناً في مكتباتنا في أحسن التقادير؟ فهل من الإنصاف أن نتعامل مع القرآن الكريم بهذا المستوى؟

إن القرآن الكريم يقدم لنا النبي (ص) في آية شريفة هي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ([5])، ومن الخلق العظيم أن نحسن القراءة والتعامل مع القرآن الكريم، بل إن أصول مدرسة الأخلاق في القرآن الكريم. فتراه مع الناس يقول: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ([6])، ومع الوالدين يقول: ﴿وَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ([7])، وهكذا الآيات في المواقع المتعددة، فهل لهذه النصوص وأمثالها حركة في واقعنا؟ وفي دائرتنا الضيقة كمجتمع يعتقد بالقرآن الكريم؟ فكيف الحال والأمم تنتظر معطيات هذا القرآن الخالد العظيم؟

فلو أننا أحسنّا القراءة وأمعنا التدبر وقاربنا بين ما استظهرنا وما نرغب أن نجسد، أمكننا أن نكون من أمة القرآن الكريم على نحو الحقيقة لا المجاز، وإلا فإن الإضافة تبقى هي الإضافة، في حدود اللفظ لا في حدود المعنى، وهي لا تقدم ولا تؤخر كثيراً.

فإن أردنا أن نقترب من النبي (ص) علينا أن نقترب من القرآن، وإذا أردنا أن نقرأ النبي (ص) فعلينا أن نكثر من قراءة القرآن، وإذا أردنا أن نتعرف حقيقة النبي (ص) فلا بد أن نتعرف حقيقة القرآن وما هو المكتنز فيه من الأسرار التي لا نهاية لها.

جعلنا الله وإياكم من القرآنيين، الذين يتلون كتاب الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار. وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.