نص كلمة:رجل الدين والحوزة العلمية والمرجعية بالأحساء مسيرة وعطاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
الحديث عن هذه المفردات الثلاث يستدعي من الوقت الشيء الكثير، غير أني سوف أمر عليها واحدة تلو الأخرى مراعياً قدر الإمكان أهمية الوقت وقيمته بالنسبة لكم.
1 ـ رجل الدين:
أما المفردة الأولى وهي (رجل الدين) فإن رجل الدين من المجتمع وإليه إذا كانت البوصلة في الاتجاه الصحيح، أما إذا أخذت البوصلة شكلاً انحرافياً عندها لن يهتدي رجل الدين طريقه إلى الحاضنة الطبيعية، والعكس صحيح.
فرجل الدين اليوم لم يعد ذلك الذي ألفته الأحساء وعرفته جراء ما حصل في المجتمع من تبدلات وتحولات هي في اتجاه التطور والتقدم والتكامل، فإذا رجعنا ثلاثين سنة إلى الوراء نجد أن القائمة التي يفترض أننا علقناها ثم استجدت لدينا الرغبة أن نحدد عليها أسماء الذين يحملون السمات الرفيعة، كالأساتذة والمهندسين والدكاترة، فسوف نبذل جهداً كبيراً، وقد لا نصل إلى إتمام تلك القائمة، أما اليوم فمن السهل أن تُملأ تلك القائمة الافتراضية من صنف من هذه الأصناف الثلاثة المهمة، ناهيكم عن أصناف أخرى نعتز بها، وكان لها عطاؤها وإسهامها الواضح البين في تقدم المشهد الأحسائي.
ورجل الدين لم يكن بدعاً من هذا النسيج، إنما هو منه وإليه كما صدّرت الكلام، لكن مهما كانت الظروف فإن مكوَّن رجل الدين الواحد لا بد أن تكون فيه مجموعة من الامتيازات التي يتقدم على أساسها على نظرائه وشركائه في المساحة، وربما يمتلك الآخر بعض الآليات أو الملكات، ويأخذ في مشرب معين.
فالأجندة التي تتأتى لبعض رجال الدين قد تكون بحكم البيئة التي تشكلت فيها هذه المفردة (رجل الدين الأحسائي) وقد تكون في بيئة أكثر ضيقاً، كما لو كان من أسرة معينة، وللأسرة ارتكازها ودورها في توجيه وبناء وتكوين وتشكيل الإنسان.
ومن المعلوم في القرون الماضية أن الذين تمت الإشارة إليهم أو ثبتت أسماؤهم على صفحات التاريخ، وخصوصاً في المساحة العلمية من الرجال، هم أولئك الذين حملوا صفة الامتياز، لذلك بذّوا أقرانهم وتقدموا عليهم رغم الصراع والعقبات، وما أنتم به أعرف.
فرجل الدين تناط به مسؤوليات ربما تسير معه في بدء المشوار سيراً سجحاً عندما ينزل إلى أرض الواقع، إما لقلة التجربة في التعاطي مع المشهد، أو لحالة الاندفاع التي يرغب بها رجل الدين، أو عدم تحمل الطرف الآخر أن يجد مفردة لم تكن موجودة ثم باتت تشغل المساحة الأهم والأكبر والأوسع.
وهذه واحدة من الإشكاليات التي يفترض أن يكون رجل الدين قد تخطاها جراء ما يتلقاه من دروس مركزة في الجانب الأخلاقي حسب الفرض، سواء كان على نهج الطريقة القديمة المألوفة في دراسة كتاب منية المريد أو ما شابهه، أو نهج آخر يأخذ لوناً تقدمياً أكثر من خلال فلسفة الأخلاق وإن عُنونت بعنوان فلسفة الأخلاق الإسلامية. حال أن أسس الأخلاق إنسانية قبل أن تكون إسلامية.
2 ـ الحوزة العلمية:
أما المفردة الثانية وهي (الحوزة العلمية) فمما لا شك فيه أن الحوزة في الأحساء تقلبت في أكثر من مساحة ومساحة وتنقلت من موضع إلى موضع آخر. والحوزة تتبع الرمز العلمي حيث وجد، فمثلاً لم تكن حوزة قم قبل قرن من الزمن كما هي عليه اليوم، ولكن انتقال الشيخ عبد الكريم الحائري إليها في مطلع القرن العشرين الميلادي، أعطاها دفعة للأمام، ثم أخذت أبعاداً متقدمة جراء بعض العناصر التي تداخلت فيما بينها، وأوصلت المسيرة إلى ما نحن عليه اليوم، فهنالك أكثر من 130 ألف رجل دين من 150 جنسية مختلفة وفي علوم متعددة.
والكلام الكلام في النجف الأشرف، فقد كانت تضعف تارة وتنشط أخرى، وفتحت من حولها حوزات كانت لها قدم راسخة، كالحلة وكربلاء.
وأما الأحساء، فبحكم الالتصاق بالنجف، وبحكم تردد مجموعة من علمائها في السابق والحاضر على النجف، ثم جاءت الثورة الإسلامية وحوزة قم، دخل عنصر جديد على مكون الحوزة ورجل الدين وما يفترض أن يترتب عليه في المستقبل الذي نرجو أن لا يكون بعيداً، وهو أن تستعيد الأحساء موقعها حتى في خارطة المرجعية إن شاء الله، وليس هذا ببعيد، وواحدة من حسنات ما حصل أن المجتمع بات يقرأ ويلتفت للوراء ويستشرف ما هو المستقبل.
لقد مرت الحوزة العلمية في الأحساء بمراحل، وأخذت أشكال التطور شيئاً فشيئاً، سواء في زمن الشيخين الكبيرين الجليلين ابن أبي جمهور الأحسائي وأحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله تعالى عليهما أم من صحبهما من أعلام، كالمحسنيين والسبيعيين وعوائل كان فيها أقطاب، وخرج منها أفذاذ، وبصمتهم واضحة وبينة، غاية ما في الأمر أن هناك عوامل عرقلت الأمور.
فعلى سبيل المثال كان في الحليلة في يوم من الأيام حوزة، وكانت تقصد من كبار علماء المنطقة، في الحاضرتين الكبيرتين الهفوف والمبرز، بسبب وجود الشيخ آل عيثان، وهو قامة سامقة، متسلط على فنون الحكمة، ولو كان هذا الرجل عند غير الأحسائيين لكان له شأن عظيم جداً، ولنال الكثير من الاحتفاء، وربما أقيمت له الكثير من الندوات والمؤتمرات لبيان جوانبه العلمية، لكنه ابن هذه المنطقة التي لا يلتفت إليها من الخارج بما يتناسب وما لها من الحجم بالعنوان العام أو الخاص، أو من الداخل الذي لا زال يراوح مكانه ولا يتقدم خطىً تثبت للآخر أن له حضوراً ووجوداً.
فمع شديد الأسف إلى يومنا هذا عندما يتكلم الأحسائي ويتكلم غيره، يقدم كلام غير الأحسائي، ولا ندري على أي أساس أو من خلال أي حجة أو برهان؟ فالعراقي لا يتمتع بأكثر من عينين، شأنه شأن أي إنسان كان، ولا يمتلك الإيراني عقلاً أكبر وزناً من عقل الأحسائي، لكن الأحسائي الذي يعيش حالة الانهزامية في داخله يجب عليه أن يغادر هذه المساحة، فهذا العهد انتهى، وفتحنا صفحة جديدة ووضعنا أقدامنا ثابتة راسخة ولن نتراجع إلى الوراء، ولا بد أن تأخذ الأحساء نصيبها في عنوانها الحوزوي. وعلى الحوزة أن تستيقظ من نومتها أيضاً، فالحوزة اليوم تعيش سباتاً وتغط في نوم عميق وعليها أن تنهض وتنفض الغبار عن عباءتها وأن تقول: نحن هنا من أبناء هذه المنطقة. ففي يوم من الأيام كان موروثنا غزيراً. نعم، غُيّب المشهد في يوم من الأيام للعامل السياسي أو الأمني أو الاقتصادي والهزيمة النفسية التي ترتبت بعد ذلك، واستمرت ترهق كاهل الإنسان الأحسائي. أما اليوم فالأمور تختلف تماماً، فلا يمكن لأحد اليوم أن يكمم الأفواه، كائناً من كان، ولا يمكن لأحد أن يجعل الآخر جليس داره كائناً من كان، إنما نحتاج إلى شيء من الثقة بالنفس، واستعادة الهوية، وفرض الوجود لا على نحو الشدة والغلظة، إنما من خلال الإنتاج الذي نستطيع أن نقدمه للبشرية في عنوانها العام، وفي المحيط الذي نتنقل فيه أو نضاف إليه، وأحياناً تكون الإضافة تبرعية مع شديد الأسف.
وإنني أعتقد أن الحوزة العلمية في الأحساء اليوم إذا ما نفضت الغبار ووسعت بين أطناب الخيمة واستوعبت جميع ألوان الطيف، فإنها ستكون قادرة على أن ترفع هامتها وهامات الجميع من حولها، لوجود ذوات لديها القابلية في أن تحمل الأمانة كما ينبغي، وأن تزاحم الآخرين في ميدان المنافسة الشريفة، والشواهد والبراهين كثيرة، فالأحساء اليوم ليست أحساء الأمس، فهي اليوم أحساء الأدب، وهذا واضح وبين. وأحساء الفنّ، وهذا أيضاً واضح وبيّن.
أما الدين، فكلنا رجال دين بالمعنى العام، فليس من يعتمر العمامة وحده رجل دين، بل كل من يحمل الدين شعاراً ووساماً يعد رجل دين. أما التقسيم المعروف فلا أجد له ما يبرره لا من قريب ولا من بعيد. وكذلك فكرة التميز والتمييز على أساس العناوين تحتاج إلى جدولة وقراءة من جديد.
3 ـ المرجعية:
أما عن المرجعية فبعد وفاة الشيخ حبيب بن قرين دخلت الأحساء في منعطف، وهذا المنعطف لم يحسب له حسابه، فإلى الآن لا توجد دراسة حتى من إخواننا المثقفين تقدم لنا إسهامات المرجعية المحلية في المنطقة، لكي يتفتّح الشاب الجديد اليوم على أننا مررنا بحقبة كانت فيها المرجعية محلية في أوساطنا، وهذه إسهاماتها وعطاؤها. فقد مرت المنطقة في أشد الظروف حلوكاً، إلا أن المراجع في تلك الفترة استطاعوا أن يأخذوا بالمشهد إلى ساحل النجاة، وقد تعاملوا مع أعقد الملفات، كالملف السياسي والأمني وهي ملفات في منتهى الخطورة، واستطاعوا أن ينجزوا الكثير.
بعد وفاة الشيخ حبيب بن قرين اجتمعت الأحساء على نفسها على أن تغلق باب المرجعية المحلية وتفتح الباب على مصراعيه على مرجعيات خارج البلاد.
تصوروا أيها الأحبة أنه في زمن السيد أبي الحسن الإصفهاني (قدس سره) وهو عمدة ورمز، وكذلك في زمن العلمين الكبيرين الشيخ الآخوند الخراساني رمز المدرسة الأصولية، والسيد محمد كاظم اليزدي رمز المدرسة الفقهية، كانت مرجعية الأحساء هنا في هذه البلاد، وكانت تحظى بموقع خاص في داخل البلد. فلما توفي ابن قرين انصرفت المرجعية إلى النجف، وقد مرت ستون سنة على هذه الحال. وكان الشيخ محمد رضا آل ياسين أول مرجع انتقلت إليه المرجعية في العصر المتأخر.
والسؤال هنا: هل كانت الأحساء في تلك المرحلة تمتلك شخصية لها قابلية القيام بأعباء المرجعية في جانبها العلمي بحيث تكون مجازة من المدرسة الأم، أو لا؟ الجواب بالإيجاب. إذن لماذا انصرفت عن تلك الشخصيات؟
لقد كان بمقدورنا أن نحافظ على المرجعية في داخل المنطقة من خلال شخصيتين:
1 ـ العم السيد محمد حسين القاضي.
2 ـ السيد محمد باقر الشخص.
وكلاهما له إجازة من أقطاب الطائفة، وكلاهما له إسهامات كبيرة وجليلة. فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا إذن كان الانصراف عنهما؟
الجواب أيها الأحبة أن هناك ما نقدمه نحن، وهناك ما يملى علينا، فما نقدمه نحن هو أن الإنسان الأحسائي طيب بطبعه، وهذه يمكن أن تقرأ بأحد اتجاهين:
الأول ما يتبادر من اللفظ، وهو ما يمكن أن نحمل عليه طبقاً لميزان حسن الظن، ولا زلنا نحافظ على هذا الميزان. فالطيبة في الإنسان الأحساني تعني هنا أنه وديع يبتعد عن المشاكل.
الثاني: أنه فلاح بسيط لا يفقه شيئاً، وإن قضى أيامه ولياليه في تحصيل العلم والمعرفة.
نقول هنا: إننا من خلال شواهد كثيرة في الخارج نجد في المجتمع الأحسائي أكثر من شخص يحملون شهادة البروفسور، وقد نالوها بالجد والجهد والمثابرة، والشعور بأهمية العلم وما يؤمّن للإنسان والمجتمع من فوائد ومنافع. فمن كانت لديه القدرة أن يصل إلى مثل هذا المقام لا شك أنه ليس بسيطاً بالمعنى الثاني الذي ذكرناه، إنما هو عقلية مميزة. وكذلك الأطباء والمهندسون وغيرهم.
إذن، لماذا يذهب طالب العلم الأحسائي للحوزة، فيدرس ثلاثين أو أربعين سنة ولا يرجع مجتهداً؟ هل لأننا رضينا لأنفسنا واستسلمنا لحقيقة أننا لا نصل لهذه المرحلة؟ أم أن المجتمع بني على أن الإنسان الأحسائي أساساً لا يصلح وليست لديه القابلية على ذلك؟
إن الإنسان الأحسائي إذا ما التفت أن وراءه موروثاً ضخماً جداً، وقامات سامقة عالية، ومن حوله أيضاً كذلك، فلا يحتاج إلا إلى دفع وتشجيع الشارع له، وعدم التخلي عنه عند الشدائد. عندئذٍ يمكننا أن ننهض من هذه الكبوة، وكفانا سبات نصف قرن من الزمن، وكفانا تخلياً عن المسؤولية كل تلك الفترة. فمهما تكن المرجعيات ـ وهي محترمة ومحفوظة ومقدرة وعلى رؤوسنا وأنا شخصياً أضحي من أجلها بأغلى ما يمكن ـ فإن كونها كذلك شيء، وكون المرجعية من الداخل أكثر بصيرة ومعرفة بالشأن المحلي شيء آخر.
وهذا الأمر إن لم يتحقق في القريب المنظور فسوف يتحقق ولو بعد حين، ما دامت المفردة نزلت إلى الشارع، وما دام الصوت الأحسائي استطاع أن يخترق أضيق البوابات للنفوذ إلى أضيق المجالس في النجف وقم، فمن الطبيعي أن تأخذ المفردة مساحتها وقدرها الكافي. وثقتنا برجال العلوم الدينية الموجودين، وثقتنا بالمجتمع أيضاً الذي لم يعد ذلك المجتمع المستسلم الذي لا يقدر رجال العلم الديني أو يتخلى عنهم، فقد أثبتت الحالة الأخيرة التي دخلنا فيها أن المجتمع الأحسائي في منتهى الوعي لما يراد وما يخطط وما يرسم له من أمور يُتوخى من خلالها الكثير.
فالمجتمع الأحسائي نهض من كبوته، واستيقظ من نومته، وبات يرتب المفردات والنتائج ليست بعيدة، رضي من رضي وأبى من أبى.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.