نص كلمة بعنوان: ندوة نقدية لتجربة سماحة السيد الشعرية
بل حتى النصوص التي اقتربوا منها بحثاً وتحقيقاً تجد أن لمسة الأدب عندما تخالط ذهنية الفقيه تعطي مدىً للفتوى أكثر إشراقاً وأوسع دائرة، وهذا ما نلمسه في فتاوى سماحة المرجع العلامة الشهيد الإمام المظلوم محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) فلمسة الفقيه الأديب حاضرة في الفتاوى الواضحة، وكذلك في كلمة التقوى للمرجع الكبير محمد أمين زين الدين (رضوان الله عليه).
فالفقيه عندما يمسك بأسباب الأدب، ويطرق أبواب الشعر، وتتحرك أناه الداخلي، فلا شك أنه يعطي مكتسباً، ولكن لا بد أن يكون في دائرة التوازن. وهذا ما نقرؤه في الكثير الكثير، منذ يوم الحوزة الأول، وحتى يومنا هذا، ولو أردت أن أستعرض الشواهد فالكلام يطول، ونحتاج إلى جلسات وجلسات، لذلك بنيت على الاختصار قدر الإمكان.
بداية الرحلة:
كنت أستمع من والدي للكثير من الشعر، في جانبه الحكمي والتوجيهي، من أمثال قول الشاعر:
لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفي على تلك الصحيحة تجرب
فكنت أتذوق هذه المعاني، في حين كان الوالد يستشهد به على نحو التوجيه، فربما يلحظ مسيرة معينة من صديق معين، فيرغب أن لا تستمر العلاقة معه، فيأتي بمثل الشاهد المذكور. وهذا ما غرس شيئاً في ذهنيتي. >أما الرافد الآخر الذي غذاني بحب الشعر والأدب، فهو الالتحاق بمجالس الحسين (ع) وهي المأدبة الأولى لكل أديب وشاعر شيعي. فما يقدمه المنبر للموالي يعني الكثير، فبمقدور المنبر أن يؤسس القواعد لذلك المشروع المستقبلي. فلو أن المرء توجّه لتلك الحالة في داخله، وأحدث ربطاً مع الملقي، وتوقَّف عند المفردات المعبأة بالكثير من المعاني، فلا بد أن تتفجر في يوم من الأيام في داخله. >وفي قم المقدسة، كان الزمن جميلاً، وهو العقد الأول من هذه النهضة المباركة، رغم أنها كانت مشحونة بالمآسي والآلام والدماء وهدم الدور والتشريد وضيق العيش، إلا أنها كانت تمثل مصنعاً متكامل الآليات والأدوات، في إنتاج ما يراد أن يستنتج من ذلك المصنع. في ذلك الزمن الجميل الذي أخذ الأدب الرفيع مساحته فيه، كانت الولادة الأولى، متلقياً مصغياً مركِّزاً، ثم ميّالاً. أما المكان فهو الحسينيات، وفي مقدمتها الحسينية النجفية، التي كانت أشبه ما تكون بصالون أدبي في ذكريات المعصومين (ع) والرموز الإسلامية.
ثم المجالس المفتوحة عند بعض الرجال من قم، الذين زحفوا بأرواحهم، وفتحوا المناخ من حولهم قبل أن يفتحوا تلك المجالس، التي كانت بمثابة الحاضنة الطيبة لكل بذرة في أول أيامها. ثم المدارس الدينية العلمية، التي لم تكن سلبية في مجالات الأدب والشعر، إنما كانت منفتحة عليها أيما انفتاح، وكان طالب العلم يجد ضالته في أي مدرسة، ويستطيع أن يتهجى الحروف الأولية في مسار الأدب. ثم الملتقيات الأدبية، وهي مخصصة لهذا المعنى، وكانت من القلة بمكان، وسوف أتعرض إليها لاحقاً، ولكن على قلتها كان لها قيمتها وآثارها وإسقاطها.
رجالات الشعر والأدب:
في تلك الفترة الزمنية كانت قم تحظى بنخبة من طلائع الأدب ورواد الشعر، ممن هاجروا إليها، من العراق إلى إيران في زمن المحنة، اختياراً أو قسراً، هرباً من الواقع المرير، والانفتاح على العوالم الجديدة التي يسوسها الإيمان والحب. كان هنالك رجالات كثر، أستعرضهم من باب الوفاء لهم، وما من واحد منهم إلا وله بصمة لا أتنكر لها. فمنهم الأخ العزيز المرحوم الشيخ الخطيب والأديب الشاعر الحاج عبد الجليل الماء، من أهالي تاروت في القطيف. وهو رجل أعطى كله من أجل أهل البيت (ع) وما الشعر إلا صفحة واحدة من مجموع صفحات يستطيع الإنسان أن يتورقها في حياة هذا الرجل. ومنهم العلامة الأديب المرحوم الشيخ محمد رضا آل صادق، الذي تُرجمت أشعاره لأكثر من ثمان لغات عالمية، وقد مات فجأة عندما كنا مع الأحبة نُعدّ لأمسية في دار الإذاعة والتلفزيون آنذاك. وهو شاعر عملاق، لكنه متواضع، بحيث كان يُخجل في تواضعه الكبير قبل الصغير. ومنهم الأستاذ الشاعر المرحوم أبو أمل الربيعي، وهو قامة أدبية، وشاعر لامع، إذا اعتلى المنصة لا يعطيك انطباعاً كافياً في شكله، فهو لا يتكلف كثيراً في هذا الجانب، لكنه عندما يبدأ في قصيدته ينحدر كسيل من جبل. ومنهم أيضاً سماحة الأخ العزيز، والخطيب الكبير الشيخ جعفر الهلالي، نسأل الله أن يمد في عمره، وهو ممن أثرى، وأشعر من يريد أن يضع قدمه الأولى في هذا الطريق، أنه الظل الذي يمكن أن يُحتمى به، لأن الشاعر في بداياته تنهال عليه قواصم الظهر من كل حدب وصوب، مما يستوجب أن يوجِد لنفسه ما يستند إليه عند الحاجة. ومنهم أيضاً الأخ الأستاذ فرات الأسدي، صاحب المطولات، التي كنت أسميها المعلقات آنذاك، وكان له حضوره المميز، وبصمته الواضحة. ومنهم أيضاً سماحة الأخ الفاضل الشيخ علي الفرج، الذي سجل بصعوده على المنصة في قم، حضوراً للشعر في جزيرة العرب في ثوبه الجديد، لكن المؤمن مبتلى، فقد حصل ما حصل، وعاقه المرض أن يستمر في تلك الاندفاعة القوية، والحضور الشامخ، لا في المسيرة، فإن مسيرته لا زالت وستبقى. ومنهم كذلك الأخ العزيز الأستاذ أبو مدين الموسوي، فهو الذي قذف بي في أوساط ما هو خارج حدود الجالية، وهو الذي قدمني للإذاعة والتلفزيون. فالشعر عالم كبير، يبدأه الإنسان بخطوة، ولكن ليس من المعلوم أن ينتهي به المشوار إلى الخطوة الأخيرة. ومنهم الشاعر الكبير ثامر الوندي، وهو أيضاً ممن لهم حضورهم وبصمتهم الخاصة، خصوصاً في ذلك العقد، الذي لا يعرف إلا معنى الازدهار وفرض الواقع. ومنهم الدكتور السيد محمد علي الحسيني، صاحب برنامج آفاق الأدب، الذي كان له حضوره في منتديات الأدب، ويده الحانية، ولا أنسى له كلمة عندما سمع لي نصاً شعرياً حيث قال: أنت موفق أيها السيد السند. وكذلك الأستاذ المرحوم أبو يقين البصري، وهو قامة شامخة ورفيعة، ومع شديد الأسف، لم ينصفه الدهر. ومنهم السيد مهند، نجل السيد مصطفى جمال الدين، والأخ الفاضل الشيخ عبد المجيد فرج الله، الذي كان بمثابة الرابط بين جميع المتفرقات بين منتديات وحسينيات ومجالس ومدارس. ومن سوريا كان الشيخ الحلباوي (حفظه الله تعالى) الذي كان إماماً في مرقد حضرة رقية (ع) وكان شاعراً محلقاً.
منتديات أدبية:
أما الأماكن التي كانت منطلقاً للفعاليات الأدبية، فمنها الحسينية النجفية، التي تعتبر اللولب والمحور الذي يدور حوله جميع أبناء الجالية العربية في قم المقدسة، فإن أردت أن تلتقي صديقاً فالحسينية النجفية، وإن أردت أن تستفيد علماً أو تأخذ فترة من الاسترخاء أو تعيش عوالم الأدب فالحسينية النجفية، والقائمة تطول في هذا الباب. ومنها مسجد الإمام الشهيد الصدر (قدس سره)، الذي كان يحظى بأمسيات خاصة، ويستضيف مجموعة من العمالقة في الفكر. فممن أستحضرهم الآن، المرجع المرحوم السيد محمد حسين فضل الله، الذي كان يثري كثيراً في هذا الجانب، العلمي والفكري والأدبي. وهذا ا لمثلث قلّما يتفق اجتماعه عند شخص. وكذلك الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، وغيرهم. ومن تلك الأماكن، حسينية الزهراء (ع) للطلبة الحجازيين، التي مر عليها فترة في أوج نشاطها، حيث استقطبت بين جنباتها الأعلام في العلم والفقاهة والفكر، وكذلك عمالقة الشعر، وهذا ما أعطى منطلقاً وانعكاساً طيباً على أبناء الجالية. ومنها حسينية الإخوة الخوزستانيين، التي دخلت الساحة على نحو المنافس لجميع الأطراف، وبدخولها هذا أحدثت نقلة، لأن روح المنافسة بين الأفراد أو التكتلات أو المجتمعات أو الدول، مسألة في غاية التعقيد، إلا أن ما ذكرناه أعطى انعكاساً طيباً. ومنها أيضاً حسينية الإمام المهدي (عج) وهي من آخر المواليد الذين أضيفوا إلى الحاضنة في قم المقدسة. وأنا لم أواكبها، ولم أسايرها بما يصل إلى مستوى التجربة لكي أعطي حكماً في هذا الجانب، ولكنني من خلال ما ألتقطه من هنا أو هناك من الأخبار، أعرف أنها كانت في المسار. ومنها أيضاً مجمع الطلبة البحرانيين، الذي كان يمثل يوماً ما شريان حياة متدفقاً بالعلم والأدب، حيث كان هناك العديد من النماذج الأدبية، كالشيخ حسين البحراني. والقائمة في هذا المسار تطول، لكن الذي لا ينبغي أن نتجاوزه ديوانية الأخ العزيز الحاج أبي حسن المازني، المعروفة اليوم بقاعة الغدير. فقد تخرج منها مَن نَصفهم اليوم بالرموز، لا سيما في منطقتنا، ولم تزل إلى يومنا هذا ولوداً، نسأل الله تعالى لصاحبها السلامة.
إن للشعر العراقي بصمته الخاصة، وللشعر العربي في الجزيرة العربية أيضاً بصمته الخاصة، ومنه الشعر الأحسائي الذي له بصمته الخاصة أيضاً. لكن بحمد الله لم أكن أسيراً لا لأصحاب البصمة الأولى ولا لأصحاب البصمة الثانية، إنما حاولت أن أهرب من معطيات كلتا البصمتين، إلا فيما أستفيد منه، أما أن يطبع الشعر بإحدى البصمتين فهو ما لا أرغب فيه. لذلك لو أجبت عن سؤال مفترض، عن الشعراء الذين تأثرت بهم، فربما أعطانا ذلك عاملاً مساعداً على الإجابة.
فمن أبرز الشعراء الذين تأثرت بهم، ولا زلت أحمل لهم الكثير من الحب، الشاعر العربي الكبير نزار قباني، وهو ليس ابن هاتين البيئتين، ومعظم القراءات التي قرأت نزار قباني كانت قراءات قاسية، مسبقة الأحكام، وإلا فإن من يستغرق في مدرسته الشعرية يجد عالماً آخر. فإذا جاز أن يقال عن المتنبي: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس في عصره، فنزار هو مالئ الدنيا وشاغل الناس في هذا العصر، فهو شاعر عملاق شفاف هادف حاملٌ رسالة، وهو إنسان، ويكفي أن يكون الإنسان إنساناً في هذا الوجود. فإذا كان العالم لا يحمل صفة الإنسانية، ويغلّب العلم على الإنسانية فلا قيمة لذلك العلم، وإذا طغا الأدب على جانب الإنسانية فلا قيمة لذلك الأدب، وكذلك السياسي إذا افترض أن السياسة هي الهدف الأول والأخير فلا قيمة للسياسة، فالإنسان وجد في هذا الوجود على أنه إنسان، وبمقدوره أن يجمع جميع الكمالات، ومنها الأدب والسياسة والعلم وما إلى ذلك.
أما عن بصمة العراق، فالعراق حضارة بلا شك، وكذلك منطقة الأحساء تزخر بالكثير، وهناك تلاقح بين البيئتين. ففي الأمسية الشعرية التي أقيمت في النجف في المكتبة الأدبية العام الماضي تعرضت لهذا الجانب، لأن القضية تركزت في هذا الجانب.
نقطة البداية:
كانت بدايتي مع الشعر خجولة جداً في الندوة الأسبوعية للجالية في مدرسة الإمام المهدي (عج) وكان يحضرها ما يقرب من تسعين في المائة من مجموع الطلبة الذين لم يكن عددهم يتجاوز آنذاك الأربعين، لكن معظمهم كان يحضر آنذاك، وكانوا على قلب واحد، تجمعهم المحبة، ويقتسمون نصف الرغيف فيما بينهم.
وأذكر هنا إحدى اللطائف، وهي أنني كنت في إحدى المرات أشارك في مولد الإمام علي (ع) يوم كنت في البدايات، وكنت أدرِّس مغني اللبيب. كنت أقرأ المقطوعة الشعرية في الحفل، وقد كتبتها بشكل واضح، وأشكلتها باللون الأحمر، خشية أن يفلت الزمام من يدي، وعندما بلغت بها إلى النصف، فوجئت أن الباب تطرق، ثم دخل الشيخ علي الحبيب من القطيف، وفتح الباب بشكل مفاجئ، فما وقع بصري إلا على محيا سماحة آية الله العظمى السيد علي الفاني (قدس سره) فما شعرت بعدها إلا بانتفاخ وجنتي، وأنني لم أعد أبصر ما هو أمامي، ناهيك عما كتبت في الورقة. فأتممت قراءة القصيدة على ما كنت أحفظ، ثم جلست إلى أقرب الإخوة بعد أن فسح لي المجال، حتى أنني من شدة الارتباك لم أسلِّم على السيد. فما كان من الأخ العزيز الذي جلست بجانبه إلا أن قال لي: ماذا تدرس؟ قلت له: أدرس كذا وكذا، فقال: وما تدرِّس؟ قلت: مغني اللبيب. فقال: قراءتك لا تتناسب مع الآجرومية فضلاً عن المغني!. فأصبحت في وضع لا أحسد عليه، إلا أن أخاً آخر بادره قائلاً: هذا بسبب الموقف الذي حصل، وأفقده السيطرة، وهو لا زال في طور التجربة. فرمم الكأس بعد الانكسار.
ثم تقدمت خطوة إلى الأمام، وكانت داخل أروقة الجالية فقط، كما في مدرسة الإمام، وديوانية الأخ أبي حسن المازني. ثم حصل تقدم آخر فيه غرس للثقة أكثر ولله الحمد، وذلك في أمسية الإذاعة والتلفزيون التي قدمني إليها الأستاذ مدين الموسوي، التي منحتني ثقة كبيرة جداً انعكست حتى على مسار الخطاب الديني، وكان ذلك في حدود عام 1993 م.
أما الأحساء فهي المساحة الكبرى، وكانت الانطلاقة من مهرجان الحوزة الكبير، بمناسبة مولد الزهراء (ع) وكانت انطلاقة وإثبات وجود، في قصيدة عينية مطلعها:
هزي الضمائر يا بتول فإنها باتت على عين الخليقة تصنع
وكانت قصيدة مطولة، تنتهي خاتمتها بتصوير مشهد المأساة في حياة الزهراء (ع) فأجهشت الحسينية بالبكاء، إذ لم يكونوا يعهدون هذا النحو من الشعر في المنطقة، حتى إن البعض عاتبني على مزج الفرحة بالحزن، فقلت لهم: ما الزهراء إلا حزن في حزن. وهكذا تقدمت في مسيرتي حتى بلغت هذه المرحلة من المجلدات الثمانية وهي الحصيلة الأولية، واتمنى أن أُعطى عمراً كي أقف عند المجلد الرابع عشر، تشرفاً بالمعصومين الأربعة عشر(ع).
أقول في المولى علي (ع):
أرويك فتحاً أيها الكرارُ فامدد يمينك تنتفِ الأخطارُ
ويطيرُ للأفق الرفيع مجنحاً فكرٌ أصيلٌ صاغه الأطهارُ
ويعود للجيل الجديد نَضارُه في كل ثغرٍ جحفلٌ جرارُ
وافاك بالدين الجديد يقوده جيلُ الشباب ليُقطع المشوارُ
يا بابَ طه ما أتيتُ مسلِّماً إلا وجُنَّت سيدي الأشعارُ
أحياك للنَّفس الأخيرِ مردِّداً للنهجِ ديناً وصَّد التذكارُ
وأعيد من ذاك الزمان عطاءه يا سرَّ كونٍ سوره الأنوارُ
هاجرتُ ألغي للفؤاد جموحه ألغيتُ نفساً ردها الإعصارُ
رسالة الشعر:
الشعر مجمع كمال، إن قرأت الشعر فأنت في سمو، أو كتبته فأنت في حالة لا تُحسد عليها، ومن يقرأ المجموعة الشعرية يجد المسارت العديدة، فهنالك الهدفية التاريخية، والأراجيز خير شاهد على ذلك، وهي تشكل مجلداً كاملاً. أولها في حق سيدنا الإمام (قدس سره الشريف) وهي في حدود 500 بيت، مشروحة ومفصلة. ثم كتبت أرجوزة أخرى في الأحساء فيها بُعد تاريخي أيضاً، أسميتها فريدة المساء في واحة الأحساء، في حدود 800 بيت، أتممتها أخيراً إلى الألف بيت.
وهناك أرجوزتان أخريان في العلمين الأحسائيين، الشيخ الأوحد الأحسائي، وابن أبي جمهور الأحسائي.
كما أن الشعر يعني الممارسة الفنية، ومن حق المرء أن يمارس هذا الدور في حياته، فلماذا نقتل الجمال في داخلنا وقد امتنّ الله به علينا ظاهراً وباطناً؟ والشعر قالب المعاني ومنظومها.
وهنالك أمر آخر مهم، ربما يغفله بعض الأخوة، ألا وهو أداء الأمانة، فكلنا يعرف أن موهبة الشعر نعمة، يجب أن تشكر، وهي أمانة استُودعناها، ولا بد أن نؤديها.
فالشعر رسالة كبيرة، بل إنها تؤدي ما لا يؤديه غيرها.
بين الشعر والعلم:
لم أجد مخلوقاً في هذا الكون أطوع من الشعر، ومقولة أن الشعر يأتي على حساب غيره، التي أسس لها السيوطي في بعض مقدمات مؤلفاته، لا نصيب لها من الصحة، إنما بني عليها بنيان، ورتبت عليها آثار لم ينزل الله تعالى بها من سلطان. فالشعر حالة، ومتى ما حضرت تلك الحالة فإن الإنسان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا وهو منصرف إليها، وهي في المعظم لا تأخذ ممن فُطر على الشاعرية أكثر من تلك الحالات التي يعيشها، فهي لا تأتي على حساب شيء.
نعم، إن إعطاء التجربة حالة أكبر من النضج، والتحول من الهواية إلى الاحتراف، هي التي يمكن أن تأخذ من وقت الإنسان. هذا أمر. والأمر الآخر، أنني لم أتعاطَ الشعر كتابةً إلا في فترة متأخرة، فالبداية كانت عام 1407 هـ، بعد الأحداث المأساوية التي حصلت في موسم الحج، وكانت عبارة عن مجموعة من الأبيات التي طفحت بها القريحة، ثم توقفت. وبعد حولين كاملين من تلك الحادثة، وجدت نفسي بعد رحيل السيد الإمام (قدس سره) مجبراً أن أغادر قم إلى ضريحه الطاهر، فكتبت قصيدة في بالمناسبة، ووجدت نفسي أنني أنهيتها إلى ثمانية وأربعين بيتاً، وكان مطلعها:
يممت قبرك روح الله مقتبساً منك الهداية والآمال والأدبا
ومنذ ذلك الحين رأيت أن أكون مع الشعر، وكنت آنذاك في بداية دخولي البحث الخارج، عند آية الله المرجع الكبير الأستاذ الشيخ الفاضل اللنكراني (قدس سره الشريف).
فلم تكن هناك حالة من الانفصال عن الدرس، بل إن هناك من يضيّع من الأوقات ما لا يفرِّط فيه الشعراء. فكثير هم أولئك الذين ابتعدوا عن الشعر، لكنهم لم يفلحوا لا في هذه ولا في تلك. فالشعر إذن لا يضرُّ بجوانب أخرى، علمية كانت أم غيرها.
أما عن الأوقات أو الدوافع التي تقف وراء كتابة الشعر عندي، فالمناسبات هي العامل الأول، ولكن أفضل الأوقات ما كان بين الصلاتين صباحاً، صلاة الاستحباب وصلاة الفجر.
وقفة مع الشعر الحسيني:
للشعر الحسيني مساران: الأول هو المسار الشعبي، وهذا لا يحاكم فيه الشاعر، لأنه ابن بيئته التي يتحرك في حدودها، ولا يلام على شيء، لأن المشهد عاطفي، وليس له زاوية أخرى.
والثاني هو الشعر الفصيح، كما في القصائد العمودية التي يفتتح بها المجلس الحسيني في الأعم الأغلب. والشعراء الذين كتبوا في هذا الغرض، كان الكثير منهم عمالقة، وشعرهم رائد ومتقدم. وقسم آخر عميت عليهم الطرق. وكما أن الشاعر ابن بيئته ومجتمعه فهو أيضاً ابن ثقافته.
والمشهد الشيعي في طابعه العام محاط بسور العاطفة، لا سيما العاطفة غير الموجهة، لذلك تنتهي هذه الحالة بالشاعر أحياناً، وتُسقط عليه، وتجبره على أن يخرج من دائرة مخيلته إلى تعاطيه على مستوى النظم فقط. وإشكالية هذا الأمر يبدأ من الحوزة، لأن الشعر الديني الحسيني محسوب على المعممين، شاؤوا أم أبَوا، وبحسابه عليهم تنتابه حالة المد والجزر بناءً على البيئة الحاضنة، فمتى ما طغا جانب العقل، وتركت المساحة للخيال أن يأخذ مداه، ارتقى الشعر، وهذا ما يمكن أن نمسك بالكثير من شذراته. على العكس تماماً مما لو كانت مقصلة العاطفة هي التي تقف أمام عيني الشاعر، إذ تنعكس سلباً على مخيلته، وتغلق أبواب العقل والعقلنة، ويبقى في حدود ذلك الشاعر الذي التمسنا له عذراً، وهو أفضل ما بنينا عليه، بأن نحسن الظن في كل ما يمكن أن يحسن الظن به.
أنا والعراق:
أقول بكل صراحة: أنا من غير العراق لست أنا، ففي العراق أعيش وجودي، ومن حق ذلك الوجود أن أنصهر فيه، وإذا ما انصهرت فيه فلا بد أن يُبدي انعطافته، وفي مجاميع الشعر التي كتبتها لم يغب العراق، بل كان حاضراً، بحبه، بحرمانه، بقهره، بعلمه، بأدبه، وفي كل مفردة. لقد بقي العراق مكبلاً بأحكام الفصل السابع، الذي أرهق العراقيين وأتعبهم، في جميع مناحي الحياة، ورغم أن هذا الفصل قد رُفع، إلا أن العراق إلى الآن لم يجنِ المكاسب المترتبة عليه كما ينبغي، ولا تسل: لماذا؟ وهذه مأساة باتت تلفّ المشهد في جميع جوانبه، وليست حصراً على العراق. لما رفعوا هذا البند، كنت في المزرعة، فتأثرت كأي محب موالٍ يرى أن شيئاً من المحنة والمأساة والقهر سوف يرفع عن هذا الشعب الجريح منذ عقود، بل ربما أكثر من ذلك.
فكتب في هذه المناسبة أبياتاً أقول فيها:
هذا العراق يحطم الأصفادا * يبني الحياة ويبعث الأمجادا
وتفيض من نهر الفرات جداولٌ * تثري السواد وتنعشُ الحصّادا
والنهر في قلب العراق رواؤه * فيض الإله لمن يوم مزادا
بغداد أمست كالعروس يزفُّها * جيلُ الدعاة لتسعدَ الأولادا
وتقيم للأدب الرفيع محافلاً * يثريها بحثاً من أدارَ مدادا
يا باب كاظمة الولاء وجدتني * من باب أعظم أنشدُ الأورادا
بغدادُ أشرَقتي الحياةَ منائراً * أنهيتِ فصلاً ضيَّق الأبعادا
هذا هو الفصل الثقيل تدحرجت * منه القيود فجدد الأعيادا
يا نهر دجلة يا أمير مدائنٍ * يا بَوح عشقٍ أحرج الجلاداً
مازجتُ شعري كي تطيرَ قصائدي * ألفيتُ فيها العاشق المعتادا
يا قبلة الشرق القديم توسدي * حب الحياة وقربي المرتادا
يبقى العراق على الزمان كشاهدٍ * يغتالُ جهلاً ورّث الأحقادا
ويقيم للدين الحنيف معاهداً * بالعلم سارت تحكمُ الأوتادا
وتحطم النَّفَس البغيض تدرجاً * بالعدل تلغي ردةً وفسادا
ما بين أهلك يا عراق وشائجٌ * في كل عرق أدرجت بغدادا
أسلمتُ نفسي فالعراق خريطتي * ما انفك يوماً لا يعيشُ حدادا
يا أهل موصل يا ليوث كريهةٍ * طاب الزمانُ فأسعد العبادا
كركوك نفطٌ والعراق حضارةٌ * والكوت تبقى تجمع الأضدادا
هذا هو النجف الأغرّ توهُّجٌ * يحكي القديمَ ويترك النقادا
ماضٍٍ هو الدهرُ وبين حماته * من قال يوماً لن نميطَ سوادا
ما كنتُ أحسبُ أن تفيض مدامعي * يوم اللقاء فأغتدي منقادا
لكن ربعي والعراق عشائري * ألفيت فيها المشعل الوقادا
والدلة السمراء عتَّق بُنَّها * شيخُ القبيل فأوقد الأعوادا
وأدار للضيف الغريب رواءهُ * يسقيه عذباً إن أتى مرتادا
غنيتُ دجلة والفرات فهاجني * حب قديمٌ برمج التردادا
أفنيتُ عمري كي أصون مواقفي * أستاف عشقاً يحكمُ الأوصادا
أنهيتُ نظمي يا عروس قصائدي * حيث تماهت حكمةً وسدادا
بغداد يكفي أن نعيش حروفها * فالكون يسعى كي يرى بغدادا
الشعر بين الموهبة والصناعة:
الشعر في الأعم الأغلب منحة السماء، والشاعر نبيٌّ لا على طريقة الدين وبعث الأنبياء، إنما هو نبي في عالم المفردات والمعاني، ولكن ربما يكون للجانب الوراثي أثر، وإن كان عن بُعد. لكن المستفاد منه أكثر، هو الأساس الذي يرجع الإنسان إليه ويكون قريباً منه، فيكون عاملاً مساعداً في إنضاج التجربة، وتفجير الطاقة في ذلك الإنسان. لذلك في موروثنا الأدبي القديم، يستكشفون الحالة في الشاعر منذ نعومة أظفاره، ثم يرعونه كالنبتة فيكبر.
أقول: إن العامل الوراثي له نسبة ضئيلة جداً، لكنه حامٍ أمين إذا ما كان موجوداً في داخل الأسرة.
الشعر الحوزوي بين الأمس واليوم:
إنني لا أرى إلى يومنا هذا في السواد الأعظم من الحوزويين من يعيش روح الأدب، لذلك جفّت الكثير من المنابع في داخلهم. فالأدب مرآة صافية كما يقول العرب، وهو وراثة كريمة كما يصفونه، بل إن واحدة من أهم الركائز التي بنيت عليها عظمة القرآن الكريم هي الأدب، والدراسات منذ أن نطق النبي محمد (ص) بالآيات الكريمة وإلى يومنا هذا لم تنفك عن البعد الأدبي. بل الأكثر من ذلك أننا لو وضعنا أيدينا على أهم التفاسير للقرآن الكريم، لوجدنا أن التفسير الذي يحظى بالعناية والقيمة هو الذي يتكئ على هذا الجانب. بل بمقدرونا أن نقرأ قيمة المفسر من خلال القدرة الأدبية التي يتعاطاها مع النص، وعلى ذلك قس ما سواه. فعندما تقف مع فقيه ذي خيال مجنّح، وواقع موجَّه، وبحث مركَّز، تجد أنك أمام عظمة. فمما يؤسف له أننا إلى يومنا هذا نجد أن الحوزة في عدٍّ تنازلي في هذا الباب، ولا ندري إلى متى ستبقى.
إننا نرى بعض طلاب العلم في الامتحانات، وعلى مستوى المكاسب المحرمة، يُخفق في أبسط المسائل ذات المساس بالأدب في جميع أغراضه، من النحو والبيان والمعاني وغيرها. أذكر هنا خاطرة ليستفيد منها الجميع، وهي أنني عندما كنت أدرس كتاب قطر الندى عند أحد المشايخ، أراد أحد خريجي الجامعات أن يلتحق بالدرس، فرفض الأستاذ، وطلب منه أن يدرس الآجرومية قبل الالتحاق بدرس القطر. فقال: أنا متخصص في اللغة العربية في الجامعة، وقد أنهيت دراسة شرح ابن عقيل، فقال الشيخ: أعلم ذلك، ولكن عليك أن تدرس الآجرومية لواحد من سببين:
1 ـ أن تتخلص من عقدة النقص لعدم تعاطيك مفردة ما، فالتسلسل في الدراسة الحوزوية يبدأ بالآجرومية ثم القطر ثم الألفية ثم المغني.
2 ـ أن لا تدخل في الحوزة بشعور أنك قد أنهيت، إنما تدخل بشعور أنك قد بدأت.
وأود هنا أن أنبه إلى أنني لست بعالم كما يصفني البعض في هذه الجلسة، إنما أنا متعلم على سبيل نجاة.
كما أشير إلى أن الإنسان إذا اعتقد أن ما بين يديه يمثل قضية، فعليه أن يضحي وينادي من أجلها، مهما كلف الثمن، فما عسى أن يقول من ينتقد الشاعر؟ وبأي لغة يستطيع؟
إنني أعتقد أن من يحارب الشعر والأدب، إنما يريد أن يغطي مناطق النقص في ذاته، مهما كان متقدماً في الجوانب الأخرى، فمن الممكن أن يصبح المرء فقيهاً أو أصولياً أو محدثاً أو متكلماً أو فيلسوفاً، لأنها أمور كسبية صرفة، أما أن يصبح شاعراً فهذا ما لا يمكن، ولا يتسنى للفقيه أو العالم المتقدم الفاضل أو المتعلم على سبيل نجاة، ما لم تكن البذرة موجودة. فالشعر ضرب من الوحي، وهو صناعة الغيب، وهذه لا تتفق لأيٍّ كان. فصاحب الشعر محسودٌ أينما كان، لأنه يعني منطقة كمال ملئت، بينما يرى الآخر المعارض أنها نقص في داخله. ومع شديد الأسف أنه لا يلتفت إلى هذه الحالة إنما يأبى إلا أن يعيش في دائرة الجهل المركب، وهذه واحدة من المرديات.
ومن الجدير بالذكر أن الشعر في الحوزة العلمية سابقاً، كان يشغل مساحة كبيرة، من أجل تثبيت القواعد العربية في البيان والمعاني والبديع والتعبير والإملاء وما إلى ذلك، مما يعطي انعكاساً إيجابياً على نتاج الطالب أو العالم. وأنا في صدد دراسة حول أثر الأدب في الفتوى عند الشيعة. والسر في هذه الدراسة يعود إلى سماحة العلامة الفقيد الدكتور عبد الهادي الفضلي (رضوان الله عليه). فقد كتبت يوماً قصيدة في الغزل، فقال لي وأنا في مجلس وفاة أخيه الشيخ محمد، وكان قدم لديوان صدى الذكريات: هل تستحضر شيئاً من شعرك؟ فقلت: أستخضر مقطوعة غزلية رفعت يدي منها للتو. فقال لي مستغرباً: فاتحةٌ وغزل؟! ثم قرأت منها مقطعاً، فقال لي: وما هو الشفيع في ذلك؟ ويعني بذلك أن المجتمع اليوم بشكل عام متخلّف في قراءته للشعر. فقلت له: أعددت العدة لوضع كتاب في الشعراء والفقهاء. ثم تطورت الفكرة إلى ما ذكرته قبل قليل. أما عن إمكانية الجمع بين الشعر وطلب العلم، فإنني ليس من حقي أن أحاكم شعري يوم القيامة عن لحظة أنفقتها، إذ لم يزاحمني في تحصيل العلم، ولعلي أكشف سراً ما كشفته منذ مدة طويلة، هو أن الشعر لم يقف حائلاً في أن أصل إلى ما وصلت إليه، وأحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وأسأله المزيد. ولم يقف حائلاً عندما أعددت رسالتي في الماجستير، وكان مساعداً عندما انطلقت في تحضير شهادة الدكتوراه. فهل بعدها يحاكم الشعر؟
الشعر الولائي:
إن الشعر في أهل البيت (ع) هو تجارة مع الله سبحانه وتعالى، ومع أهل البيت (ع) ولم أنفكّ عن هذه المساحة يوماً من الأيام. أما الإمساك بمفردة من قبل الآخرين، ورميه بالغلو، ففي عقيدتي أن من يرمي الآخر الشيعي بالغلو، لم يدرك معنى مفهوم الغلو في حده التام، إنما يتعاطاه على نحو الحد الناقص. لذا يترك لنفسه المسافة في أن يسقط هذا الفهم على مفردة يشمُّ منها رائحة الغلو. وأذكر هنا أن هناك من قرأ شرح دعاء السحر للسيد الإمام (رضوان الله عليه) فقال: يشم منه رائحة العرفان. ولو أن مفردة (العرفان) قيلت في قم لهان الأمر، لكنها قيلت في النجف الأشرف، التي لها حساسية كبيرة من هذه المفردة، ما لم توضع في موضعها الدقيق.
وخلاصة الأمر أن كل ما نقوله فيهم من مديح، إنما هو دون ما هم فيه في الواقع من العظمة والجلال والكمال. فعوالمهم نورانية جليلة، وربما نكون نحن في عالم الشهود فتكون المزايدة والمناقصة، أما في عوالم الأنوار فهم شيء آخر، والشاعر يستجلي تلك الصور، لذا قلت في ما مضى: إن الشاعر نبي، ولكن لا على الطريقة الدينية، والشعر وحي، لا على أنه كتاب منزل.
شعر الغزل:
ربما يثير البعض إشكالاً على بع