نص كلمة بعنوان: خطر النفاق على البناء الشخصي والاجتماعي

نص كلمة بعنوان: خطر النفاق على البناء الشخصي والاجتماعي

عدد الزوار: 579

2013-04-12

قال الحكيم في كتابه الكريم: ﴿إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ‏ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقينَ لَكاذِبُون‏﴾([2]).

ضروب النفاق وأقسامه:

يتصور بعضنا أن ما جرى على الزهراء (ع) كان وليد ساعته، ولم يكن خاضعاً لخطة مدروسة محكمة كان للزمن فيها نصيب.

فالنفاق من المفردات التي كانت وما زالت تشغل الساحة الفكرية في المجتمع الإنساني قاطبة، ويتمركز إسقاطها في المجتمع الإسلامي بصورة واضحة، لأن الإسلام شخّص النفاق بادئ بدء أنه المرض الفتاك. والقرآن الكريم وجّه المشهد نحو الوجهة الصحيحة التي ينبغي أن يُستأصل على أساسها هذا المرض.

كما أن النبي الأعظم (ص) حاول أن يضع يده على مجموعة من الموارد على نحو الكناية، وفي موارد أخرى نصب قرائن مرشدة ومدلِّلة ورافعة للّبس عن بعض المصاديق الخارجية، لكن المؤسف أن الأمة لم تعِ تلك الإشارات الضمنية والعبائر المبطنة والقرائن التي أرسلها النبي (ص) في الكثير من المواطن.

لذا نجد أن تلك المجموعة المنافقة ظلت تراوح مكانها، وتتحرك في الخفاء، وتُربك الأوراق وتبعثرها، وتثير الغبار في وجه نبي الرحمة محمد (ص).

والمنافقون على ضربين، لا ضرب واحد، ولا يعبرون عن جماعة واحدة، مع أن العنوان المشترك هو النفاق:

فالقسم الأول: هم أولئك الذين آمنوا بالرسول (ص) ولما يستقرَّ الإيمان في قلوبهم، وهذا القسم قد ضعف كثيراً أمام المغريات، وفي الطليعة منها العناوين التي كان ينتظرها جمع ممن دخل الإسلام وأعلن الإيمان الظاهري، إلا أنه بقي يعيش حالة من الجزم والقطع على أن مكان النبي (ص) سوف يصبح شاغراً في يوم من الأيام، ولا بد للمسيرة من قيادة تسوسها. وبناءً على هذا إما أن يُركَن إلى النص كما أرادته السماء ــ وهو ما لم يقع ــ أو إلى جهة أخرى تعني ــ فيما تعنيه ــ مشروعية الجميع في الخلافة والاستخلاف. فهؤلاء رجح عندهم الطريق الثاني، إلا أن مجموعة من العوامل اعترضت سبيل الوصول إليه، فأجهدوا أنفسهم في التخطيط ورفع الحواجز التي ربما تعترض الطريق، إما في البدء أو على نحو الطروّ والاستثناء.

أما القسم الثاني: فهم أولئك الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم طرفة عين، وإنما كان التعاطي مع مشهد الإيمان خوفاً من القادم المترتب على انتصار الإسلام انتصاراً كاسحاً، وهو احتمال لا ينفيه العقل إذا ما جُرِّد من بعض العوامل المقيدة له، فحتى أولئك الذين لم يؤمنوا بالإسلام كانوا يستمعون إلى القرآن ويقرأونه، وقد سمعوا قوله تعالى: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ‏ مِنْ‏ قَبْلِهِ‏ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرينَ([3]).

فالنبي (ص) سوف يموت، وهذه حقيقة قررها القرآن الكريم، ولا بد من وقوعها، إلا أن الإسلام من المحتمل لديهم بشكل كبير أن تقوى شوكته، وقد دخل النبي (ص) مكة هو ومن معه فيما بعد فاتحين: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيْنَاً([4]).

ولما خفقت الرايات في الحرم المكي المطهر، وهي تحمل شعار الرحمة والمحبة والعفو والتسامح، قُرئت من قبل المجتمع المكي قراءتين:

الأولى: وهي قراءة خطيرة جداً، تتلخص في أن شعار الرحمة الذي رفعه الرسول (ص) يمكن أن يُلتَفَّ من خلاله على الإسلام.

الثانية: أن الله تعالى عفا عما سلف، ونحن أبناء اليوم، فمقولة الدم لا يفصلها الدم، ومفردة الانتصار لا بد أن تطمس معالم الدم إلى الأبد. ومن اتجه هذا الاتجاه كان في المعظم من البسطاء من المجتمع المكي، الذين أجبرتهم الظروف على أن يواكبوا مسيرةً مناهضة للإسلام في مرحلة من المراحل.

أما الجماعة الأولى فكانت على النقيض من ذلك تماماً، فقد كانت مكابرة متغطرسة، وراحت تتحين الفرصة لتنقض على الإسلام.

والسؤال المشروع في هذا الصدد هو: أي الجماعتين أخطر؟ هل تلك التي آمنت وضعف إيمانها؟ أو تلك التي لم يستقرَّ الإيمان أساساً في قلوبها؟ وفي الجواب عن ذلك مال جماعة إلى كون الأولى أخطر، وجماعة أخرى إلى كون الثانية هي الأخطر. ولكل واحد من هؤلاء أدلته وبراهينه، فمنها ما هو قادر على الصمود عند النقاش، والقسم الآخر سرعان ما يتلاشى ويسقط.

ولا يعنينا التفاضل بين هذين، لأن النتيجة محسومة، وهي أن أحلى هذين الخيارين مرٌّ، فلا مَن آمن وتزعزع إيمانه يراهَنُ عليه، ولا ذلك الذي لم يدخل الإيمان في قلبه مطلقاً. لذا نجد أن هناك مواقف من أناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم في مرحلة من المراحل، ومواقف أخرى لمن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وتحركوا تحت هذا الشعار في ساعة العسرة، ولكلٍّ منها إسقاطه السلبي الخطير الذي لا زالت الأمة تدفع ضريبته حتى يومنا هذا.

جذور النفاق وأصوله:

أما عن بذرة النفاق، وهل إنها زرعت في مكة أو المدينة؟ فهناك خلاف كبير بين علماء التفسير. فهناك طابور من أهل النفاق تشكّل في صفوف الأمة، فأين ومتى وُضع حجره الأساس؟ هل كان ذلك في مكة حيث استشعروا الخطر في بدء الرسالة، فانقسموا إلى فريقين، عدو ظاهريّ يترأسه أبو سفيان وأبو جهل وجماعة أخرى ناجزوا النبيَّ (ص) القتال ليشغلوا الإسلام عن أهدافه، وآخرون تقنعوا بقناع الإسلام، واندكّوا في صفوف المسلمين، وسربوا الكثير من المعلومات، وقد تعرض القرآن الكريم للكثير من قصصهم؟ أو أن ذلك كان في المدينة فقط؟

المشهور بين علمائنا من المفسرين والمتدبرين والمتابعين، أن نواة النفاق وبذرته تشكلت في المدينة المنورة، ويدللون على ذلك بكون الآيات التي نزلت في حق المنافقين كانت في طابعها العام مدنية، بل ذهب بعضهم إلى أنه لا توجد آيات تصبّ في هذا الاتجاه وهي خارج حدود صفة المدنية من حيث النزول.

إلا أن هناك ملاحظة على هذا الرأي، وهي وجيهة جداً، حيث إن أقسى الآيات التي نزلت في بيان حال المنافقين بعد سورة المنافقين هي تلكم الآيات من الثامنة إلى العشرين من سورة البقرة([5])، وقد كانت في شأن المنافقين، وهي تشكل كتلة واحدة في بيان حال هذا الصنف، وما يترتب عليه من الأثر. وما علينا إلا أن نقرأ تلك الآيات لنجد فيها الدليل الصريح الواضح على أن النواة وحجر الأساس كان مكياً، وكان يعمل على إسقاط الحركة الإسلامية من الداخل.

ومن المؤكَّد أن هنالك جماعة يحاولون لسبب أو آخر صرف هذا التوجيه عن وجهته، وقد لا يلامون على ذلك بقدر ما يلام من ينقل القول دون أن يحتاط لما يترتب عليه من الآثار.

فمدارس التفسير تتأثر بالمعطيات من حولها، والعالم بشر يتأثر بالمحيط الذي يتحرك في حدوده. وكان المفسرون من أتباع المدارس الأخرى في السابق يخضعون لمراد السلطة والخلافة والإمارة، لذلك تُوجَّه النصوص والاستنتاجات وفق مراد الحاكم. فمعظم التفاسير في المدارس الأخرى خاضعة لهذا الضرب من التوجيه.

النفاق العام والنفاق الشخصي:

هنالك سؤال يطرح نفسه: هل أن النفاق أمر شخصي أو أنه خارج حدود الشخصنة؟ فهناك جماعة ليست بالقليلة يظنون أنه أمر شخصي له أسبابه ومناشئه، لكن الواقع خلاف ذلك، وإن اجتمعت العناصر المتناثرة فيما بينها في موارد معينة، لكن ليست بالضرورة على نحو الجمع، إنما على نحو التوافق الذي يقع في الكثير من القضايا.

فالحق أن النفاق مؤسسة، قد تبدأ بالشخصنة ثم تكبر، فلا يمكن للمنافقين السيطرة عليها ولا على التداعيات المترتبة عليها بناء على شخصنتها، فيحتاجون للتنظيم، وينضوون تحت مؤسسة، وهو ما تجلى في مسجد ضرار، أول مسجد في الإسلام أمر النبي (ص) بهدمه. ذلك أن تلك الجماعة تحركت أولاً وفق شخصنة، صحيح أنها من الصعب جداً أن تُكتشف، ولكن عندما تأخذ لها عنواناً بارزاً كبيراً وموقعاً حساساً لا بد أن يستدعي ذلك لفت الانتباه. فبُني ذلك المسجد، ودعي النبي (ص) للصلاة فيه. فلم يفتتحوا المسجد خارج إطار الرسول (ص) إنما طلبوا غطاءَ الشرعية الرسمي منه، لكنه (ص) وبقراءة الوحي الذي شخص ما يمكن أن يترتب على ذلك الفعل، أمر بهدم المسجد المذكور، بعد أن استمهلهم حتى العودة من معركة تبوك.

إن النفاق الشخصي خطر مدمر، لكنه قد لا يتعدى في خطورته حدود المنافق، وفي أقصى التقادير، لا يتعدى حدود دائرة ضيقة أمكن للمنافق أن يغرس نفسه في أوساطها، فقد يغرس المنافق نفسه في حسينية أو مسجد أو دائرة عمل أو غيرها، فينافق في ذلك المحيط، إذ يبدي مظاهر الصلاح والتقى والورع. وقد يتأخر الشباب في جلسة من جلساتهم، فيسارع إلى أداء صلاة الليل، لينطوي على ذلك ما هو أخطر وأخطر مما في أذهان الجماعة التي يتحرك في أوساطها. ولكن رغم ذلك يمكن أن تكون الخسائر محدودة.

ولكي نؤكد أن الأمر أخطر وأبعد من كون النفاق أمراً شخصياً، ويحد بحدٍّ نسبي، أن ثمة نفاقاً اجتماعياً يسوس المشهد، وهو الأكثر فتكاً وخطورة من سابقه، وهو ما يتمثل في البدء بالمجاملة والمداهنة والتغطية والتوجيه غير المبرر وتحسين القبيح وتقبيح الحسن، وغيرها من الوسائل التي يمتطيها أنصار هذا الاتجاه ليسقطوا المشروع من حولهم.

وهذه الجماعة في نفاقها الاجتماعي تظن أنها لا تعيش مفهوم النفاق كما حددته الشريعة، وهذا غير صحيح، فمن يتحرك ضمن هذه المعطيات، يعيش صورة المفهوم النفاقي كما شخّصه الإسلام.

إن المجاملة ليست حسنة في جميع الظروف والاتجاهات والقضايا، فقد تفرض كلمة الحق نفسها أحياناً، ويجب على المرء أن يرتب عليها الآثار. وقد كان بمقدور النبي (ص) أن يجامل الكثير الكثير ممن دخلوا في الإسلام، لكنه لم يفعل ذلك. بل حتى في بدء الدعوة للرسالة الحقة، في كلامه الصريح الواضح البيّن لعمه وكفيله أبي طالب كان بعيداً عن المجاملة، حيث يقول: والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أموت دونه.

وهنالكم نفاق آخر على مستوى الدول والحكومات، وهو أمر ملموس محسوس لا يحتاج إلى شاهد، لأنه من الوضوح بمكان بحيث أضحى من بديهيات الأمور، وإن شئت دليلاً ملموساً فدونك ما يحصل أمام أعيننا، فهنالك ثورات تحدث، فتحصل بعدها حالة التذمر والتمرد والتململ، ثم الثورة الموجهة أو الخلاقة أو المضادة أو ما إلى ذلك من الأسماء، وكل ذلك راجع إلى عدم التطابق بين القول والفعل، وهو ما نشهده على مرّ التاريخ في مواطن متعددة.

فعندما تمت معاهدة الصلح بين علي ومعاوية، وجاء معاوية إلى الكوفة، قال: ألا وإني منَّيتُ الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي، لا أفي بشيء منها له([6]).

وهنالك نفاق أكثر خطورة، ألا وهو نفاق الأمم، الذي يُستخدم للتلبيس على أذهان الشعوب المستضعفة على وجه الأرض. وذلك من قبيل دعوى المحافظة على حقوق الحيوان، وهذا الشعار يجسد النفاق بامتياز، فلم لا يغلَّبُ جانب الحفاظ على حقوق الإنسان قبل الحيوان؟ فما وُجد على الأرض من الحيوانات إنما هو من أجل الإنسان الذي كرمه الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ([7]). وقال عز من قائل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعَاً([8]).

فعندما صعدوا إلى الفضاء واصطحبوا معهم كلباً، ومات الكلب هناك لسبب أو آخر، ثم عادت المركبة إلى الأرض، قامت قيامة منظمة (حقوق الحيوان)، ولكن الإنسان اليوم يذبح ذبحاً في شتى أقطار الدنيا ولا من مدافع، وهنالك قرى ومدن تحرق بالكامل ولا من صوت يرتفع.

فدعوى حقوق الحيوان والرفق به، يراد أن يقال لنا من خلالها إن الغرب في منتهى الرفق بالحيوان، فهو من باب أولى أكثر رفقاً بالإنسان، وهذه خدعة، إلا أننا نجد بين أوساطنا من يتلقف مثل هذه الأخبار وتعطيها الحيز الذي أريد لها، بأن في الغرب رأفة ورحمة تجاوزت حدود الإنسان إلى مساحة الحيوان! وهذا غير صحيح، بل العكس هو الصحيح، فما من موقع على هذا الكوكب اليوم إلا وهو يشخب دماً، ولا من مستنكر من هؤلاء. وهذا هو النفاق الأممي.

دوافع النفاق:

ورب سائل سائل يسأل: ما هي الدوافع الكامنة وراء هذا الحراك من النفاق بأقسامه وأنواعه، الشخصي منه، والاجتماعي، والحكومي الدولي، والأممي؟

للجواب عن ذلك نجد أن هنالك مجموعة من الدوافع، أبرزها:

1 ـ ضعف الشخصية أمام بريق المقام، مع إدراك المنافق أن الوسائل الطبيعية لا توصله إلى ذلك المكسب، فيتمحل الطرق للوصول إلى ذلك، ومنها النفاق.

فمثلاً، يدرك الموظف أنه لو بقي في وظيفته عشرين عاماً أو أكثر فلن يصل إلى المقام المفترض، فلا بد عندئذ أن ينافق ويدجِّل، فيركب تلك المطية العرجاء ليصل إلى الهدف، ولكن كيف يصل؟ إن النتيجة تتبع أخس المقدمتين، وحيث إن النتيجة لم تكن سليمة فلا بد أن تكون النتيجة كذلك، فما من منافق سلك طريق النفاق وجعل منه مطية للوصول إلى الهدف، إلا وكان الطريق أقصر من الوصول للهدف، ودونك التاريخ شاهداً على ذلك.

2 ـ طلب الموقع: وهو شبيه بالعامل الأول، إلا أنه يقوم على أساس الدفع لأقل التكاليف. ولنأخذ مثالاً على ذلك ما كان عليه الإسلام في أيامه الأولى، فهناك الكثير ممن دخل في الإسلام رغبة في نيل المقام على أساس دفع أقل التكاليف، وقد سجل القرآن الكريم مجموعة من المواقف، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، وهي ليست كذلك: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَريقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُريدُونَ إِلاَّ فِرَارَاً([9]). وهؤلاء صحابة، وكان النبي (ص) في موقف التحشيد للقتال، لكنهم أرادوا الحفاظ على الموقع، والوصول إلى الهدف، ولكن لا على نحو الدفع للضريبة، فالخروج للحرب يكلفهم الكثير، وقد يكلف النفس، وليس لديهم الاستعداد لذلك.

3 ـ الوقوع في براثن الإغراء الممنهج: وهذا الإغراء الممنهج تارة يكون على أساس تحريك شخصي، وأخرى على تحريك جماعة، وثالثة على تحريك نظام، وهذا موجود مع شديد الأسف، وينخر في أجسادنا كمجتمعات بشكل واضح وبين. فيوحى للشخص أو الجماعة أو النظام أن يتقدم على أمل الحصول على دعم، وهو ما يحصل في مختلف المساحات، الأدبية أو الدينية أو الاجتماعية أو غيرها، في حين أن الدعم قد لا يكون مضموناً، وقد يتعرض المتقدم للإخفاق والفشل، وقد يكون ممن يعتمر العمامة، فلو أخفقت العمامة التي ترى وراءها من دفعها للتقدم، بناءً على الرغبة في الوصول إلى المقام، فإن أول من يتخلى عنها هو من دفعها لذلك، وأول من سيدفع الضريبة هو صاحب العمامة.

4 ـ ضعف الوازع الديني: وهو الأخطر بين تلك العوامل، وهو ما يفترض أن لا يكون له عين ولا أثر في مجتمعاتنا، لأن الروافد التي بأيدينا ليست متوفرة لدى غيرنا، فالبيوت يعمرها الإيمان، ويُفترض أن تكون محصنة بفكر إيماني أصيل، وليس من حق أحد أن يزايد على هذه النتيجة، لأن الأمور تخضع بدورها للنسبية، فبقدر ما يكون الوعي والثقافة والمعرفة والانفتاح في أسرةٍ ما، بقدر ما تشتد استحكاماً في تعاطيها مع المفاهيم العامة والخاصة، وبقدر ما يكون رصيد الأسرة أقل من ذلك، بقدر ما تعيش الشتات وتكون مهددة بضعف الوازع الديني.

النقد علاج النفاق؟

والسؤال المطروح الآن: ما هي الحلول المناسبة لانتشال الأمم والمجتمعات من هذا الوضع الذي بات مستشرياً يفتك بالأوصال من كل جهة وضعت يدك عليها أو أشرت إليها؟

في تصوري أن إشاعة مفهوم النقد وسط الأمة هو العلاج الأنجع. فقد كنا في الكثير من قضايانا من المقلدين السُّذَّج، نُقاد يميناً وشمالاً لفترات طويلة، دون أن نترك لأنفسنا مساحة لوضع علامة استفهام على حديث نسمعه من خلال منبر أو منصة، وكنا نتلقف كل شيء دون قيدٍ أو حساب، وكنا نبكي ونلطم على سيناريو أحسن إعدادَه خطيبٌ ماهر في التمظهر، لأن السيناريو محكم، والأداء متقن، والتمثيل ناجح.

والمجتمعات التي أحدثت تغييراً إنما خضعت للقاعدة الإلهية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ([10])، وقد انفتحوا على مفهوم النقد، ولم يبقوا إمَّعاتٍ تبعيين لكل شيء بحيث لا يحركون ساكناً ولا يقتربون من مفردة. فلا بد أن ننفتح على كل ما يقال، لأننا قد نلتمس عذراً لمن مضى من قبلنا، أما اليوم فلا مندوحة لنا في التماس العذر لأي كان، لأن الصراع الفكري في الساحة اليوم لا يمكن أن ينكره أحد، فهو كبير مستفحل ومستشرٍ، فلا بد أن نتعامل معه لا على أساس رد الفعل، إنما على أساس من الفعل، ولا يأتي الفعل إلا بعد دراسة وتدقيق وتمحيص ووضع خطط وقراءات مستقبلية، فما ينتظر الجيل في المستقبل هو خلاف ما نحن عليه اليوم تماماً، كما أن ما نحن عليه اليوم ليس كما كان عليه الجيل السابق، فقد جئت إلى هذه القرية المباركة سنة 1406 هـ وها أنا ذا بين جمعكم الكريم اليوم، وها أنا أرى أن جيل اليوم ليس كما كان عليه الجيل الذي رأيته آنذاك. فلم يكن عدد المعلمين في هذه القرية آنئذٍ يلفت الانتباه، وربما لم يكن في تلك الأيام ما يلفت النظر من المهندسين هنا، وعلى هذه فقس ما سواها، من أرباب العمل الذين يؤمِّنون الرافد الاقتصادي في بناء مواقعنا وتسيير قضايانا.

لذا نجد أن الناس كانوا يحضرون المجالس الحسينية في الحسينيات والمساجد دون رقابة لمن يقرأ المجلس الحسيني، فنجد أن القارئ يمضي في محل واحد ثلاثين أو أربعين عاماً دون حرج، أما اليوم فلا يمكن أن يحصل ذلك، ولا يمكن أن يستمر أحد في القراءة كل هذه الفترة الزمنية.

فلا بد من الانفتاح وقبول النقد، ولا بد من التدبر فيما يحصل من حولنا. يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ‏ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُهَا([11]). فهذه دعوة للنقد والتأمل والتمحيص والمتابعة، فملامسة الظاهر لا تكفي، وهناك العديد من الروايات التي تحث على ذلك، ففي الحديث الشريف: «يا علي، ركعتين يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد»([12]).

إن حاجة الأمة للنقد مبنية على أساسين: الأول هو غربلة ما هو موجود، والثاني استشراف ما هو آتٍ، ونحن إن لم نبدأ بعملية النقد لما مضى فلن نستطيع أن نستشرف مستقبلاً أفضل، إنما تبقى القافلة تراوح مكانها.

ورب سائل يسأل: أي المساحات يمكن أن نتحرك في حدودها إذا ما أردنا أن نباشر عملية النقد؟

الجواب، وبكل ثقة واطمئنان: كل المساحات مفتوحة لذلك، وكلها قابلة للنقد، فمن الممكن نقد الموروث بكل مفرداته، إلا ما ثبت بنص قطعي، كالكتاب المنزل على قلب النبي محمد (ص) والسنة المطهرة الواصلة إلينا عبر الطرق المعتبرة، فالكثير من الروايات التي تُبث اليوم على الفضائيات لم ينزل بها الله تعالى من سلطان، إنما هي من حشو الكلام ووضع الوضاعين. لذلك نجد أنهم لا يذكرون لها أسانيد، فهم يدركون أنها لا تصمد أمام النقد.

وإن كان البعض لا يروق له غربلة الموروث كله، فينبغي على الأقل غربلة السائد منه، الذي يربك واقعنا الذي نعيشه، وهو من الكثرة بمكان، ويكفي أن نلامسه ونضع أيدينا على الثغرات التي نجدها فيه، ونصحح ما يمكن أن نصححه، ونرفع اليد عما لا يكون قابلاً للتصحيح.

وقد مر بنا في ذكرى شهادة الزهراء (ع) أن البعض يرتكب الآثام والخطايا من أجل أن يرفع من مقام الزهراء (ع) لأنه ينسب الحديث للمعصوم وهو لا يعرف ما هي الطريقة التي يفترض أن ينسب من خلالها النص للمعصوم، فليس هذا من شأنه، لأنه لم يبلغ ذلك في سيرته الدراسية، بل إن البعض لم يمض يوماً واحداً في الحوزة العلمية، فلا خبرة له بالأسانيد والدلالات ومتى يقبل النص ومتى يردّه، وكيف يشخص مطابقة الحديث لكتاب الله وعدم مطابقته، فهذا ليس من شأن المبتدئين، إنما هو من اختصاص من أجهد نفسه في ذلك، وإلا فسوف يكون العالم والجاهل على حدٍّ سواء، فيصبح السيد الخوئي (رحمه الله) الذي أجهد نفسه في تأليف معجم رجال الحديث ذي الثلاثين مجلداً، مع لم يفقه من علم الرجال والدراية شيئاً على حدٍّ سواء.

فلا بد من نقد الماضي والمسيرة التي نسير فيها، وعلى كل جماعة أن تنقد مسيرتها في أمرها الديني والدنيوي فيما بينها.

نقد الرموز:

وكذلك لا بد من نقد الرمز، وهو ما أريد أن أقف عنده في هذا المضمار، فالرمز متى ما وصل إلى مقام الرمزية وألبس القداسة صعب الاقتراب من مساحته، إلا أن القداسة على ضربين: قداسة واقعية، وأخرى مصطنعة. فالمصطنعة ما كانت من صنع الإنسان نفسه في كثير من الأحيان، بأن يبدو صامتاً مطرقاً إلى الأرض يمسك بمسبحته الطويلة، يستغرق في التواصل مع الله تعالى بحسب الظاهر، ولكن عليك أن تجرب مثل هذا في التعامل من البيع والشراء والسفر والأمانة والشؤون الاجتماعية وما إلى ذلك من الأمور، وانظر كيف تجده فيها؟ فظاهره التقى والورع، إلا أن تحت ثيابه ما لا يعلمه إلا الله من الكذب والخيانة وغير ذلك. فهذا يصنع القداسة لنفسه.

هذا نمط من أصحاب القداسة المصطنعة، وهو من يحسن التمثيل. وهناك نمط آخر لا يحسن التمثيل بنفسه، إنما هناك جماعة تصنع له القداسة وتمثلها له نيابة عنه، وتهيئ له الأرضية ليعيش تلك الحالة من القداسة المكتسبة ولكن بالنيابة من الآخرين.

فمن أمثلة ذلك أن نخبر صاحب الحسينية أو المسجد أو المجتمع عموماً، أن في ضيافتنا عالماً جليلاً لم نرَ مثله في التعبد والقداسة، وبذلك نهيئ الأجواء لتقبُّل هذه الصفة التي ألصقناها بمن نريد.

وهناك قداسة واقعية يمن بها الله تعالى على من يريد، متى ما علم صدق النية، فالسيد الخوئي والسيد الإمام والشهيد الصدر الذي نعيش ذكرى شهادته هذه الأيام، والسيد يوسف الحكيم (رحمهم الله جميعاً)، وغيرهم من الأفذاذ، كانوا يمثلون قمماً في التقوى والورع والصدق.

فلا بد إذن أن نفعّل النقد في الأمة والمجتمع، ولو كان على مستوى الرمز، فقد تحتاج تجربة القائد في الأمة أحياناً إلى نقد، وكذلك مرجع الأمة، والوكيل، وإمام الجماعة، فهؤلاء بشر شأنهم شأن سائر البشر، غاية ما في الأمر أن الله تعالى منَّ عليهم بمقام؛ لأنهم أخلصوا له، واقتربوا منه، وأجهدوا أنفسهم في تحصيل المقدمات العلمية، فبلغوا القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مظانه، إلا أن ذلك لا يرتقي بهم إلى مقام المعصوم.

لذلك نجد في الرسائل العملية أن من شروط مرجع التقليد أن لا يقل ضبطه عن المتعارف، فلو رجعت إلى مرجع، ثم قل ضبطه عن المتعارف لم يجُز الرجوع إليه. وكذا الحال في العدالة، فلو رجعت إلى مرجع بناء على أنه عادل، ثم اكتشفت خلاف ذلك، لم يجُز الرجوع إليه أيضاً، مما يعني أن مرجع التقليد ليس معصوماً.

وكذا الحال في الوكيل، فلا حصانة له من النقد، وقد يروَّج اليوم في وسط الأمة أن الوكيل هو بمثابة المرجع، وهذا ليس صحيحاً ولا سليماً، فالوكيل خادم لآحاد الأمة نصبته المرجعية لهذا الشأن، فالوكالة لا تعني تشريفاً ولا رفعة في المقام، بقدر ما تعني التكليف، فمن نهض بمهامه من الوكلاء كان موضع احترامنا وإجلالنا، أما من كان يريد أن يجعل لنفسه مقاماً انطلاقاً من الوكالة فليس من الصحيح أن نعينه على ذلك.

 ولو رجعنا إلى سيرة الأمة في النقد لوجدنا أن الوالي من قبل المعصوم، مع ما له من المنزلة والمقام، إلا أنه لم يسلم من النقد، فقد شكت امرأة إلى أمير المؤمنين (ع) ما كان من الوالي، ولما ثبت له ذلك أعطاها أمر العزل بيدها.

أما في الوكالة، فهناك وكالة على الحسينية أو المسجد أو المبرات الخيرية أو أمور القاصرين أو أثلاث الأموال، فعندما يعين الوكيل في إحدى هذه المفردات، فهل يعني ذلك أن له الولاية المطلقة بحيث أنه حتى لو تسببت قراراته أو أفعاله في هدم تلك المؤسسة فلا مجال للكلام والنقد؟ مثل هذا لا يمكن أن يكون ولياً بعد ذلك، فهو ولي على ما تولى ما دام في حدود الصواب والإطار الشرعي، ومن مسؤولياته الحفاظ على ذلك الوقف الذي وقع تحت يده، وإلا فلا ولاية له عليه.

وبالمقابل نجد أن البعض يريد من الوكيل أن يكون أداة طيعة تحت يده يتمايل بها يميناً وشمالاً، في حين أن الوكيل مسؤول يوم القيامة عن أي نقص أو خلل يطرأ على الوقف الذي أسندت إليه الوكالة عليه.

فعلينا أن نلتزم الرقابة على الوكيل في المسجد أو الحسينية أو المبرة من جهة، وبالمقابل علينا أن نتعرف ما لنا وما علينا من جهة أخرى.

فقد يريد البعض أن يلصق المنشورات على جدران الوقف، فيمنعه الولي، ومن حقه أن يمنعه، بل قد يكون من الواجب أن يفعل ذلك، لأن مثل هذه الأفعال قد تتسبب في إغلاق الموقع، أو تُسبب الكثير من المشاكل في أوضاعنا الحالية. وقد يريد البعض تثبيت لوحة إعلان على جدار الوقف، فلا يرضى الوكيل بذلك، وعندئذٍ لا يروق للآخرين ما يصدر عنه من منع، في حين أن هذه الميزة أمارة على التقى والورع، فقد كان الوكلاء في ما مضى، لشدة الورع والحيطة في المحافظة على الوقف، يستأذنون وكيلاً شرعياً عن المرجع في تثبيت مسمار صغير في جدار الوقف، مسجداً كان أو غيره.

هذا في الجانب المادي، أما في الجانب المعنوي فالولي على المسجد يفترض أن يكون شريكاً في اتخاذ القرار في من يؤمّ الجماعة، فصلاة الجماعة فيها خطاب، وهذا يعني أن هناك رسالة، قد تكون شديدة اللهجة أو غير موجهة، فيكون الولي هو المسؤول أمام أكثر من دائرة وجهة، فهو مسؤول أمام الضمير والمجتمع والجهات الرسمية وغير ذلك.

من هنا فإن من يريد أن تكون الأمور في المسجد أو الحسينية مفتوحة على إطلاقها، وكأنه هو الذي سوف يُستدعى ويُساءل، وهذا خلاف الإنصاف والقواعد العامة في الانضباط.

لذا ينبغي أن نتنبه للكثير من الأمور، فليس كل من قبَّل يدك أحبَّك، ولا كل من دعاك إلى وليمة يعني أنه يحترمك، ولا كل من مشى خلفك أقرَّ بعلوّ مقامك، فالاحترام قيمة عالية جداً، فقد تصدر منك كلمة قاسية جداً تجاه فردٍ ما، إلا أنها في منتهى التقدير والاحترام له إذا كانت صادرة عن الإخلاص ومحض النصيحة وحب المصلحة العامة.

فمن تلك النصائح القاسية التي تنم عن حرص واحترام، ما يمكن أن يقال في موضوع (الأثلاث) فكم من أثلاث المؤمنين معطلة! وكم من أرواح الموتى تنتظر! ولكن، يجب أن نشخص بدقة الجهة التي تتقاضى تلك الأثلاث، لا أن نضعها في أيدٍ لا تفقه المسؤولية، ولا تنفقها وفقاً للميزان الشرعي. 

 من هنا أنبه على أمر مهم يتعلق بما يقام على أرواح الموتى من (السابعة) والأربعين وغيرها، وما ينفق فيها من أموال طائلة وإسراف وتبذير، كل ذلك لم ينزل الله به من سلطان، ولا داعي له إطلاقاً، فسوف نُسأل في يوم من الأيام عن ذلك، ونحاسب عليه بشدة، فإن كان الميت فقير الحال فعياله أولى بذلك، وإن كان غنياً فلا بأس بذلك مع التحفظ من التبذير والإسراف ومظاهر البذخ والترف.

في الختام نستذكر ما قاله النبي (ص) وهو يكافح الصعوبات في بداية الدعوة: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟! أو إلى عدوٍّ ملكته أمري؟!  إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع)[13] .

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.