نص كلمة بعنوان:جعفر الطيار سيد شهداء مؤته
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبينا الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين، ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
روى الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر» [2]
اشراقات من حياة جعفر الطيار (ع)
يصادف مثل هذا اليوم ذكرى شهادة جعفر بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه وهو من رجالات أهل البيت عليهم السلام الذين لهم قيمتهم ولهم تاريخهم الطويل العريض، صاحب الهجرتين، وصاحب الجناحين، أبوه أبو طالب مؤمن قريش الرجلٌ الذي كتم إيمانه، وكان كافل للنبي (ص)، وأمه فاطمة بنت أسد التي انشق جدار الكعبة ترحيبا بها وبوليدها وانطبق عليها إكراماً لها ولوليدها، لتضع وليدها على الرخامة الحمراء في مشهد ملائكي قل نظيره، تغنى به فحول الأدباء والشعراء ودونه وسطره وأكد عليه أرباب التاريخ الذين نأوا بأنفسهم عن العصبية، حيث يقول القائل:[3]
أنت العلى الذي فوق العلى رفعا *** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
وأنت أنت الذي حطت له قدم *** في موضع يده الرحمن قد وضعا
هذه المرأة الجليلة أنجبت الامام علي (ع) في جوف الكعبة وأنجبت جعفر هذا الرجلٌ الذي له من المكان والقرب من رسول الله (ص) والإيمان به مبكراً ما لا يختلف عليه اثنان، دخل أبو طالب ذات يوم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد وعن يمينه الامام علي (ع) وجعفر مع أبيه قال له يا جعفر: صل جناح ابن عمك[4] ليسجل بذلك نفسه ثاني مأمونين برسول الله (ص) في الإسلام، عليٌ وجعفر، جعفر الطيار له هجرةٌ إلى الحبشة أكسبته الثقافة الواسعة والخبرة بمعطيات الحيات وضروبها وفنونها، فارسٌ من الطراز الأول أمره النبي الأعظم (ص) على جيش المسلمين في معركته مع الروم والتي تعرف بـ«بمعركة مؤتة» هذا الرجل العظيم له خصائص قبل الإسلام أي قبل ان يعلن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الدعوى للدين الحنيف كان يتعبد بمعطيات ديانة أبي الأنبياء إبراهيم (ع) الحنفي أُسوةً بأهل بيته من بني هاشم، أبو عبد الله جعفر الطيار رغم ان الدنيا كانت بين يديه إلا انه تنكر لها كما صنع الامام علي (ع) حتى عندما آلت إليه الخلافة لم ترى في شخص علي (ع) إلا ذلك الرجل الذي الفته قبل ان تدنو الخلافة منه، الامام عليٌ (ع) لم يدنو للخلافة يوماً وإنما الخلافة جاءت له زحفا وسلمت له قياداً، جعفر وما أدراك ما جعفر وصل إلى المدينة وقد وضعت الحرب في خيبر أوزارها بنصر مظفر على اليهود، كان الامام عليٌ (ع) قد اكتسحهم واستأصل شأفتهم، بشر النبي (ص) بقدوم جعفر فقال (ص): «ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟»[5]، ما الذي حصل في خيبر؟ في خيبر قال النبي (ص):[6] لأعطين الراية غدا رجلا كرار غير فرار يفتح الله على يديه
فاستطالت أعناق كل فريق *** ليروا أي ماجد يعطاها
فأتاه الوصي أرمد عين *** فسقاه من ريقه فشفاها[7]
دفع الراية النبي (ص) في اليوم الأول لرجل ثم عاد، ودفعها في اليوم الثاني لرجل آخر ثم عاد ولم يتحقق الفتح وفي اليوم الثالث قام الامام عليٌ (ع) يحمل الراية خفاقة، دك حصون اليهود وجندل بطلهم «مرحب» الذي يقاس بألف فارس من العرب، لا بألف رجل بل بألف فارس، كانت العرب ترى في مرحب هذه القدرة، تقدم الامام عليٌ (ع) جندله، فتح الله على يديه نصر كبير عظيم مؤزر، لكن لاحظوا قدوم جعفر كم له من القيمة حتى قال النبي (ص) فيه هذا القول! أليس من حق جعفر علينا ان نحي ذكرى شهادته، ان نسلط الأضواء على معالم شخصيته ليتعرف عليها أبناؤنا ونشؤنا، ما الذي يعرف شبابنا، أبناءنا، بناتنا من معالم شخصية هذا الإنسان العظيم؟ جميل أن نسلط الأضواء على ذوات معلومة نتشرف بها، نتبرك بقبورها، نشد الرحال إليها ونبتغي في ذلك الأجر والثواب، لكن علينا ان نسلط الضوء أيضاً على هؤلاء.
جوانب من خصائص جعفر الطيار (قبل الاسلام)
لجعفر لمسات في خارطة التشكل الإسلامي جعفر صقل مواهبه ونمى القدرات في ذاته قبل الإسلام وجاء الإسلام ليرسخها ويوسع من دائرتها، مثلا خذ من هدي جعفر والنمط الذي كان يتقلب فيه والسيرة التي انتهجها ورسم معالمها وفعلها في داخله يقول سلام الله عليه: «ما شربت خمرا قط لأني علمت أنى إن شربتها زال عقلي، وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروءة، وما زنيت قط لأني خفت أني إذا عملت عمل بي، وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع»[8]
لم يشرب الخمر قط
للخمر في الجاهلية رواج حتى ان القرآن جاء ليمنعها ويحرمها على مراحل، لان الوضع كانت له أحكامه، يقول ما شربت خمراً قط، لماذا يا جعفر، لماذا يابن بيت النبوة، يقول لأني علمت أني إن شربتها زال عقلي، العقل قد يزول بشرب هذا المنكر وقد يزول العقل بتعاطي مواد أخرى والولوج في قضايا تذهب من الإنسان عقله، تغيب عنه حالة الرشد، يخبط خبط عشواء، لكنه قيد نفسه، علة التشريع في تحريم الخمر تأتي وفق هذا المسار وهذا الاستنباط وهذا الجلاء والوضوح في الرؤيا.
لم يزني قط
يقول (ع) وما زنيت قط، والمعلوم ان في الكثير من بيوتات العرب آنذاك لهذه الفاحشة رواج كبير، أيضاً القرآن عمل جاهداً على استئصالها وطرح الحلول في سبيل التخلص منها من خلال تشريعات الزواج الدائم والمنقطع ما يؤمن دواءً شافيا لداء كانت له امتداداته في ذلك الوقت، وكان يتصارع الرجال أجلكم الله على اللقيط ولا داعي ان نقترب من الأسماء حتى لا يؤاخذ الإنسان بلوازم الأمور، لكن التاريخ مملوء، فدونك الطبري ودونك ابن الأثير ودونك فلان وفلان، فبيوتات ذوات الأعلام كانت موجودة في مكة، يقول (ع) وما زنيت لقط لماذا يا جعفر؟ قال: لأني خفت أني إذا عملت عمل بي، لان «من طرق باب الناس طرق بابه» ولو بعد حين، من تسور أعراض الناس وهتكها هتك عرضه ولو بعد حين، فليراقب الإنسان نفسه، لا يستسهل الأمور، الإسلام عندما يشرع ويحرم ليس من اجل ان يتشفى من الناس وإنما ليطهرهم ليأخذ بأيديهم إلى ما هو الأصفى والأنقى والأطهر، هذا كنه التشريع.
لم يكذب قط
يقول (ع): وما كذبت قط، اليوم سوق الكذب عامر، كم هناك من الاشخاص الذين يكذبون عيناك عيناك، يكذب وهو مرتاح، ولم يرف له جفن، الكذب عنده سهل بسيط مثل أكل ملعقة من العسل عند الفطور، أصلاً لا يهمه انه سوف يترتب على كذبه هدم بيوت، نهب أموال، تحطيم أشخاص أبداً، لا يهمه، لكن كان هذا حال جعفر (ع) قبل الإسلام، وجعفر ليس هو مثل الامام علي بن أبي طالب (ع)، إمام ومعصوم! فهو يقول (ع): وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروءة، لن تبقى للإنسان قيمة، يقولون عنه كذاب حتى لو تكلم بصدق، لكن الناس يقولون عنه كذاب، لأنه ثبت الكذب فيه في المجلس الفلاني، وذهب الى المدرسة وكذب، وجاء إلى السوق وكذب، وراح إلى المقبرة والجنازة امامه وكذب، يلتفت الى الشخص الذي على يمينه ويكذب عليه، ويلتفت الى الشخص الذي بشماله ويكذب عليه، وقائمة واسطول طويل عريض... فحينها حتى اذا صدق في كلام ما يكون كذابا، لان من أكثر من شيء عرف به.
لم يعبد صنما قط
يقول (ع): وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع، الصنم في ذلك اليوم كان عبارة عن شكل معين منقوش من الحجر أو من التمر أو من الخشب أو من ... كانوا يعبدون تلك الاصنام من دون الله ويتقربون بها زلفى، حسب دعوى بعضهم الذين يريدون ان يبرروا العهد الجاهلي وانه ما كان وثني! بل لا كان وثني وبامتياز، والصنمية لم تنحصر في هذا بل لها مصاديق اخرى، ذوبانك في شخصية إلى حد الكفر هذه صنمية، تقديسك لإنسان بحيث يعميك عن الحقيقة هذه صنمية، أخذك لأقوال زيد من الناس اخذ المسلمات وما عداه لا نصيب له من الحق والحقيقة هذه صنمية، لو كان جعفر موجود لنبذها أصلاً الإسلام أصل وثبت.
استشهد جعفر رضوان الله تعالى عليه في معركة مؤتة وله مزارٌ يقصد ويتقرب به إلى الله، نسال من الله سبحانه وتعالى ان يعيد تلك الأيام التي كانت تتسهل فيها الأمور، وأن يقطع أيدي الظلمة هؤلاء الدواعش الذين افسدوا في الأرض، خلطوا الأوراق، أصّلوا للقطيعة، رتبوا للمنابذة، نسال من الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا وإياكم في هذا البلد آمنين مطمئنين مستقرين في أنفسنا وأموالنا وأعراضنا، وان يحفظ سائر بلاد المسلمين انه القادر على ذلك والحمد لله رب العالمين.