نص كلمة بعنوان :المرجعية أمانٌ وضمان
السلام على فاتح الخير، وبارك الله لنا ولكم ذكرى المولد الشريف لنبي الرحمة وصوت الإنسانية ومبعوث السماء محمد (ص) وميلاد حفيده إمام مذهبنا الإمام جعفر بن محمد الصادق (ص) وأعاد الله علينا وعليكم المناسبة ونحن وأنتم وعموم المسلمين في أحسن ما نرجو ونطمح أن نصل إليه.
امنحوني قليلاً من الوقت يسوده الصمت، لنستفيد من الذكرى، فأن نبتهج ونفرح ونحصد الثواب حقٌّ مشروع، ولكن من حقنا أيضاً أن نستفيد من الذكرى، لأن حياة المعصومين (ع) التي نقترب منها في ذكرياتهم، تمثل محطات مِلؤها المعنى والقُدس والطهر، فإذا ما دَلَفنا إليها واسترحنا بجنباتها، استطعنا أن نأخذ المراد منها، فإن كان المراد مضافاً لهم، كان خيراً؛ لأنهم أهل الخير والدال عليه، وإن كان مضافاً إلينا فنحن في مسيس الحاجة لذلك.
البداية والمنطلق:
إن الحديث عن النبي الأعظم (ص) حديث يطول، لأنه بمسافة الزمن، فقد ولد في مدينة مقدسة، وارتحل في مدينة مقدسة، وبين المدينتين حياة ملأى بالدروس والعبر، لمن أراد أن يستفيد من ذلك السير الملكوتي الذي تجلى في شخص النبي محمد (ص).
كان لولادته (ص) آياتٌ، منها ما سبق مولده الشريف، ومنها ما زامنه، ومنها ما ترتَّب على ذلك المولد الشريف. فخصائص المولد سمعناها كثيراً، ولكن من حقنا أن نسأل عن المقدمات المفضية إلى هذه الولادة المباركة، وهو ما يعنينا بالدرجة الأولى.
فالنبي الأعظم (ص) ولد في أشرف بيت من بيوتات العرب، وهو بيت هاشم، البيت الشريف الذي ازداد شرفاً بميلاد النبي (ص) على ما كان يحمله من تاريخ حافل بسلسلة الأنبياء والأوصياء، ثم استقر في أيادٍ أمينة، وهذا لا يعني بالضرورة أن هناك بعض الأشخاص الذين يضافون إلى هذا البيت، لم يكونوا على المسار ذاته، وهذه حالة طبيعية تتوافر في الكثير من البيوت، بل ربما بالمطلق من الأسر، لكن النبي (ص) كان على خلاف ما كانت تبني عليه الأمة العربية آنذاك، وربما إلى يومنا هذا، حيث كان العربي يفتخر بانتمائه للعروبة، وبقدر ما كان ذلك يعطي امتيازاً، فإنه يشكل عقبةً أمام الرسول (ص) لأن الرسالة التي يحملها تبني في ما تبني أساسها عليه هو التقوى، وهو يأتي ـ بطبيعة الحال ـ على حساب النظم الطبقي، الذي سوف أتعرض له، ولو على نحو الإشارة بما يتناسب وظرف الحفل.
فعندما يضاف النبي (ص) إلى هاشم فإنّه يشرفها، وكذا إذا أضيف لقريش أو الأمة العربية، أما إذا أضيف للمسلمين، فليس المسلمون سوى واحدة من لمسات الإشراق الذي أشرق من ثغر النبي محمد (ص)، فهو شرف الأولين والآخرين، وحق للشاعر أن يتغنى بهذه المفردة حيث يقول:
قالوا أبو الصقر من شيبانَ قلتُ لهم كلَّا لعمري ولكن منه شَيبانُ
فكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرى شَرَفٍ كما علا برسول الله عدنانُ
أبوه عبد الله، وهو رجل بامتياز، ومفردة خاصة لم يسلَّط الضوء عليها كما ينبغي. وأمه آمنة بنت وهب، التي لها كان من الخصائص أن تصبح موضوعاً لعناية السماء، ولو لم يكن من شرفها وعلوّ مقامها إلا أنها مثَّلت ظرفاً ومناخاً صالحاً، لأن يكون هو الوعاء المحتضن لقدس النبوة، المتمثل بنطفة النبي الأكرم (ص) تشكلاً وتولداً، لكفى.
هذا هو البيت والأب والأم والعناية الإلهية. وتشاء السماء أن تتدخل في حقّ أبيه، وما هي إلا فترة يسيرة حتى تدخلت في حقِّ أمه، فيبتدر إليه شخص له الكثير من الرفعة والمقام، إلا وهو أبو طالب (رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة)، فهو الكفيل الذي متى ما أسقطنا مفردته عما قام به في الكيان العام للإسلام بدءاً ومساراً، فسوف نجد أن خللاً كبيراً سوف يصاحب المسيرة، فنحن لا يمكن أن نتصور بقاءً دائماً للنبي (ص) لو لم يكن ذلك الرجل العظيم (مؤمن قريش) إلى جانبه يَكلؤه من خصومه، في وقت هو في مسيس الحاجة أن يقف إلى جانبه من يقف.
خصائص المجتمع المكي في زمن الرسالة:
ولد النبي (ص) في مجتمع يعيش النقائض، فالكرم والشجاعة والنخوة والبلاغة، صفاتٌ تتمازج فيما بينها، والمجتمع العربي كان يبني أسسه بناء على ذلك، لكنه في الوقت نفسه كان يستهين بسفك الدم، ويتصف بوأد البنات، والإغارة عند الحاجة، فكيف يمكن للنبي (ص) أن يوازن بين هذه المفردات المتناقضة، فهناك صفات إيجاب تتقاطع مع صفات سلب، فكما أن للإيجاب أثره، فإن للسلب أثره أيضاً.
لكن النبي (ص) وضع يده على مكمن الداء، ألا وهي الطبقية في المجتمع المكي، التي أخذت مسارها أيضاً إلى المجتمع المدني، ولكن في ثوبٍ جديد. أما في مكة فهناك صراعٌ بين القبائل على تسيّد الموقف، سواء في البيت والمسجد الحرام، أم في النظم التكويني للمجتمع المكي، فبنو زهرة وبنو هاشم وغيرهما، ترنو وترجو أن تكون السيادة والرفعة والرئاسة في بيوتهم، لذلك نابذوا النبي (ص) ووقفوا في وجهه وتآمروا عليه، وفي كل مرحلة كانت السماء تتدخل، وكان لعلي (ع) في كل مرحلة بصمة واضحة، لأنه من محمد (ص) ومحمد (ص) منه، كما قال (ص).
النبي (ص) في المدينة:
وبعد أن وضع النبي (ص) الأسس والقواعد للمرحلة الأولى من مراحل الإسلام، وكان في مقدمتها تقليص الفارق الطبقي بين أبناء المجتمع الواحد في مكة بهذه الكيفية، سعى إلى تحقيق ذلك في المدينة ولكن بكيف آخر، فهناك مجتمع أنصاري اكتسب سمته من النصرة، وآخر مهاجري اكتسب سمته من الهجرة، فالأنصار هم أهل المدينة، وكانت المقدرات بأيديهم، كالضِّياع والأموال وغيرها، أما المهاجرون فهم الذين خلفوا وراء ظهورهم في مكة المكرمة ما يمتلكون، وخرجوا صفر اليدين، إلا أن من يملأ فراغهم ويسد نهمهم هو ذات النبي الأعظم محمد (ص) لأنهم هاجروا بهجرته، وسايروه وناصروه على القضية حتى وصول الهدف.
وبطبيعة الحال، كان هنالك مجتمع فقير، وإلى جانبه آخر غني، مجتمع مطرود، أو مهاجِر، مع مجتمع مستقر ساكن في وطنه، وهنالك فوارق طبقية، فكيف يسد النبي (ص) هذا الخلل؟
وتدخلت السماء، وجرى الأمر على يدي النبي (ص) في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. ونحن في هذه الفترة الزمنية في مسيس الحاجة أن ننفث الروح من جديد في هذا المفهوم الإسلامي الكبير المقدس، وأن نفعّل حالة الأخوة فيما بيننا، فما زلنا في مسيس الحاجة أن يتلمَّس الأب حاجيات الأبناء، وأن يلتفت الغني للفقير، وأن يلتمس الجار ما يعيشه الجار إلى جانبه، فهذه الأخوة إذا ما نمت وتفرعت وتفعلت في أوساطنا، رشد المجتمع وترتب عليه استجابة سريعة لدعوة النبي الحبيب المصطفى محمد (ص) في هذا الجانب. فإذا أُسقط الفارق الطبقي، وتحكم مفهوم الإسلام المقدس: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾([2]) عندئذٍ ننتقل من هذا المربع الأول التأسيسي الذي أُسست على أساسه القواعد ورفعت الأصول، إلى المربع الثاني، ألا وهو الاندفاع في تطبيق تقنينات الشرع المقدس، المودعة في الرسائل العملية لمراجعنا أيدهم الله تعالى.
المرجعية أمانٌ وضمان:
أيها الأحبة: بيننا وبين المعصومين بعد هذه الفترة من الزمن، وسيادة الغيبة، مشارب توصلنا إلى ذلك المنبع الأصيل، تلك هي المرجعية الدينية التي نستطيع أن نقترب من مساحتها من خلال الرسالة العملية التي صب المراجع جهوداً مضنية في سبيل إبرازها، وهي الجسر المعبَّد بيننا وبين الوصول إلى حالة النجاح، في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، ﴿إلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ﴾([3]) ولا يسلم القلب ما لم يتخلّص من عقدة التكليف، بمعنى أن يباشر الواجب ويحققه تجسيداً خارجياً، وأن يبتعد عن المحظور ابتعاد المعزى عن الذئب، وإلا فإن المرء إذا راوح بين المساحتين، فلا شك أنه سوف يقع في هاوية، لا يُنقَذ منها في أحسن الحالات، إلا بعد الانتظار في مقام لا ينبغي فيه الانتظار.
وهذا المربع الثاني، إذا تحركنا فيه وتعاطيناه كما ينبغي، وكما أريد له أن يكون، فسوف نسعد، ويسعد العالم من حولنا، أما إذا أخفقنا في تجاوزه، فإننا سوف نكون في حال أكثر عجزاً من أن نستطيع السيطرة فيه على المربع الذي يليه.
فالمربع الثالث الذي يلي الثاني، هو إعداد الأفراد، على أساس ما يستوجب أن يقدم المرء في ساحةٍ لا بد من التضحية فيها، وهذا ما عالجه النبي (ص).
أيها الأحبة: إن الفكر المرحلي هو القاعدة الأساسية التي كان يبني عليها الإسلام بنيانه، فالإسلام لم يأت دفعياً، إنما جاء تدريجياً، ولو جاء دفعياً لنفر الناس منه، ولما دخلوا في دين الله أفواجاً، فدخولهم في دين الله لم يكن تحت سطوة سيف، إنما تحت إشراقة رحمان رحيم، جرت على لسان النبي محمد (ص) فبنى مفردات هذا الدين من الداخل، وتحرك في قلوب الأمة من حوله، وتصرف في أرواح المجتمع من حوله، فابتدأ بالقريب لا بالبعيد، ثم انصهر مع الجميع في الجميع، ليترتب على ذلك بعد فترة من الزمن مجتمع رسالي محمدي علوي فاطمي جعفري، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من السائرين على نهجه، المتمسكين بحجزته، فالنبي (ص) هو الإشراقة التي أراد الله لها سبحانه وتعالى لها أن تكون قادرة على الوصول إلى قلب كل إنسان أخلص في التوجه، وتحرك على أساس من الإخلاص.
إن الفكر المرحلي في وسط الأمة هو المنهج الذي سار عليه الإسلام، فالمجتمع المكي مجتمع مغلق، لذا تحركت معه الرسالة في حدود التأصيل، أما المجتمع المدني فعلى خلاف ذلك تماماً، لأنه مجتمع مفتوح، لذلك أتيحت الفرصة أمام الرسالة لتُفرِّع ما استطاعت أن تفرع بما يؤمّن ذلك الظرف الزمني الذي عاشه النبي الأعظم (ص) في أوساط ذلك المجتمع اليثربي الذي مُزج بمجتمع مهاجري يحمل معه الخصائص المكية. فكانت السيادة في المدينة المنورة للتنظير والتأصيل وإرساء الحكم والتشريع بناء على جوانب التفريع.
كيف نضمن تحصيل الحكم الشرعي؟
وهنا أقف قليلاً لأضع يدي على أمر نحنُ في شديد الحاجة أن نقف عنده، وهو أن الحكم الشرعي، والتكليف الشرعي، والفتوى الشرعية، حاجة كل مكلف، فإذا أردنا أن نصل إليها فعلينا أن ننهج الطريق الذي رسم لنا وأن لا نتجاوزه مطلقاً. والطريق هو يتلخص بإحدى النقاط التالية:
1 ـ أن نصل إلى المرجع نفسه، ونأخذ الفتوى منه بالمباشرة، وهذا يتعذر على الكثير منا. ففي زمن الرسول (ص) كان المجتمع قريباً من النبي (ص) يسأل النبي (ص) مباشرة فيجيب. أما نحنُ فإن فروعنا اليوم هي أكثر بكثير جداً من تلك الفروع المبتلى بها في زمن الرسول (ص). والمراجع العظام، نذروا أنفسهم أن يلبوا حاجة الساحة، ويملأوا الفراغ في هذا الجانب.
فهذا الطريق إذن يتعذر على الغالب، بأن يكون كل مكلف قريباً من مرجعه الذي يرجع إليه، ليأخذ الحكم الشرعي منه مباشرة.
2 ـ أن يأخذ المكلف الحكم من رسالته العملية، ولكن لا على الإطلاق، إنما لا بد أن تكون الرسالة العملية مأمونة من الغلط، أي أن لا تكون مطبوعة خارج حدود نظر المرجعية نفسها، وكلكم يعلم اليوم التلاعب الواضح والبين والمكشوف في الفتوى في أكثر من محل ومحل، فالرسالة العملية متوفرة والحمد لله.
وأضع يدي مرة أخرى أيضاً على علامة استفهام فأقول: عندما أدعي أنني أرجع إلى مدرسة أهل البيت (ع) فإنهم (ع) خطُّوا لنا خطاً وصراطاً مستقيما موصلاً إليهم، وهو عبارة عن الفقيه الجامع للشرائط، ووسيلة ذلك الفقيه هي الرسالة العملية، فهل يصح مني أن أقول: إنني أرجع إلى المرجع الفلاني وأنا لا أمتلك الطريق الموصل إلى معرفة التكليف منه؟
إن أيسر الطرق الموجودة هي الرسالة العملية. فلنسأل أنفسنا ونحن في هذا الجمع الطيب، لا سيما أولياء الأمور: كم نؤمِّن من حاجيات أبنائنا في بيوتنا فيما يتعلق بالشأن الدنيوي؟ إنه الشيء الكثير، فنحن لا نبخل على أبنائنا في أي طلب مادي يرتبط بجانب الحياة من حولنا.
هذا من جهة، ثم إن ما نؤمنه من شؤون الدنيا لا يبقى معنا كثيراً، إن هي إلا سنوات معدودة وينتهي، ولكن هنالك رحلة طويلة تحتاج إلى زاد ودعم ووقوف وبذل أكثر من هذا الطريق وتلك المرحلة، ألا وهو عالم الخلود والبقاء والتمايز على أساس التقوى، فربما أجد في نفسي عليك لأنني رجل دين، وربما تجد في نفسك عليّ لأنك تملك الثراء، وربما يجد فلان في نفسه على فلان بناء على موقف، إلا أن هذا كله يتصرَّم، ويوم القيامة تنتهي هذه الأمور الاعتبارية التي بنينا الكثير من مواقفنا على أساس منها، فهنالك تسقط العناوين كلها، ويبقى العنوان الأول والأخير، ألا وهو التقوى، بمعنى الالتزام والامتثال والذوبان في محمد وآل محمد (ص).
كلنا يعلم أن عمل العامي باطل ما لم يكن عن اجتهاد أو تقليد أو احتياط، فالاجتهاد يتعذر على الكثير، لأن طريقه طويل وبعيد وشائك، ويحتاج إلى الكثير، ولو أن الشريعة أوجبت على كل واحد منا أن يصبح مجتهداً لتعطلت الحياة، فليس ثمة خبّاز ولا أستاذ ولا مهندس ولا غيره. فعندئذٍ ليس هناك إلا الطريق الثاني، وهو الاحتياط.
لكننا لو بنينا على الاحتياط مع تعدد مصاديق الشبهة، فإن الحياة سوف تتعطل أيضاً، لأن المكلف سوف يحتاط في الأقوال والآراء كلها، وربما ينفق الساعات الطوال ليتحفظ في تحصيل الواقع.
فلم يبق سوى التقليد، وهو رجوع غير المجتهد للمجتهد الجامع للشرائط في سطح المرجعية. والوسيلة التي تربطنا بهذا إنما هي الرسالة العملية.
فيا أولياء الأمور، كلكم مسؤول عن أفراد الأسرة، كما كان النبي (ص) مسؤولاً عن الأمة، والإمام عن المجتمع، وكما أن القيادة مسؤولة عمن يلتف حولها. فكم منا من خصص مكاناً في بيته للرسالة العملية ليرجع إليها عند الحاجة؟ لا شك أنها نسبة تستوجب أن نقف عندها كثيراً، أليس هذا من المحرج والمخجل، عندما نسأل يوماً من الأيام هذا السؤال، إذا ما كُتب لنا أن نصل إلى زمن الظهور لخلف آل محمد (عج) ؟ فإذا خرج المهدي (عج) يكون العمل طبق الواقع، وسوف نأخذ الأحكام منه بالمباشرة، ولكن في زمن الغيبة لا سبيل إلى ذلك، ومن يدعي الاتصال بالمهدي (عج) فهو كاذب.
فلم يبق لنا سوى المرجعية، وهناك رسالة عملية، ولا يعني عدم تأمينها يوماً أن الدنيا قد توقفت، إنما لا زال في أيدينا متسع من الوقت أن نصحح ما مضى، ومكاتب المراجع اليوم، تفنّنت في وضع الرسائل العملية بما يتماشى وحاجيات المجتمع، من تسهيل العبارة وفك الاحتياطات والتخفيف من غلظة الفتوى التي كانت في يوم من الأيام تحمّل الشيء الكثير.
فهل من استجابة لصاحب المناسبة النبي الأعظم (ص) والإمام الأكرم (ع) لنكون ممن عاش الذكرى كما ينبغي؟
فالفكر المرحلي هو القاعدة الأساس في بناء الإسلام، وعلينا أن نسلك هذا الأساس في حركتنا.
يقول النبي الأكرم (ص): «إنَّ هذا الدِّينَ متين، فأوغِلوا فيه برفق، ولا تُكرِّهُوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المُنبَتِّ الذي لا سفراً قطعَ ولا ظهراً أبقى» ([4]). فلا بد من الرفق والتدرج شيئاً فشيئاً، كي لا نصل إلى نتيجة عكسية.
لقد بدأ النبي (ص) في طور الإعداد المرحلي بالفرد نفسه، وأنذر عشيرته، ثم توسع في الدائرة، في مجتمع من حوله، ثم جاءت الأمة تسعى إليه عندما تحقق النصر والفتح، ونزل قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ~ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ~ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً﴾ ([5]).
وفي تلك المرحلة، كانت مكة تفتح ذراعيها لتُلقي القياد للنبي (ص) بعد قطيعة ومنابذة ومنازلة وقتل وتقتيل، ليجسد للمجتمع المكي أن ما خرج به هو ما عاد به. فيأتي أحد الصحابة من الأبطح إلى بيت الله الحرام، والراية في يده، وهو يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة. فيدخل الرعب في بيوت مكة كلها، حتى أن أبا سفيان، المعروف بنفاقه ودجله ومحاربته ومنابذته للرسول (ص) لاذ ببيته وأغلق الباب على نفسه، خوفاً من ذلك النداء، إلا أن السماء تدخلت أيضاً، وتحرك النبي (ص) لوضع العلاج، ورفع الغائلة التي أدخلت الرعب على الحرائر من أهل مكة، وكان بمقدوره أن يترك لذلك الرجل ما يترتب على الشعار الذي رفعه، فدفع راية الحمد إلى علي (ع) وهو من محمد كمحمد (ص) منه. فدخل علي (ع) من الأبطح نفسه، ومن باب السلام، ثم ارتقى الصفا، الذي لم يرتقه سوى رجلين بكلمتين عظيمتين، أما الرجل الأول فهو النبي الأعظم (ص) عندما نادى في أهل مكة فاستجابوا واصباحاه، ثم سألوه: لمَ جمعتنا في هذا الوقت؟ فقال (ص): أدعوكم لكلمة واحدة، إن قلتموها فتح الله عليكم أبواب المشرق والمغرب، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. لكن الاستجابة السلبية كانت سريعة ومباشرة، ومن عمه أبي لهب، الذي رفع حجراً وصك جبينه (ص) ونزل الأمين جبريل ليهدِّئ من روع النبي (ص) بسورة المسد، بقوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِيْ لَهَبٍ وَتَبَّ﴾([6]).
أما الرجل الثاني فهو علي (ع) الذي حمل الراية الخفاقة في كفه، وصعد على الصفا، وهو بطل الإسلام الأول، وأسد الله وأسد رسوله، والصديق الأكبر، وفاروق الأمة، وسيف الله وسيف رسوله، والمجمع لكل الكمالات، وهو الذي استأصل شأفة النفاق في وسط المجتمع المكي المتمثل بأبي سفيان ومن تحرك في ركبه، من أمثال أبي جهل وأشباهه.
صعد علي على الصفا وهو ينادي: اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة. وأطلق النبي (ص) أماناً عاماً، وسرح الطلقاء، وأعطاهم الأمان.
هذه هي السماء برحمتها ورحانيتها، والنبي الأعظم (ع) بقدسه وطهره وعظمته وكرمه، شمل الأمة بما شمل من الرحمة.
فالنبي (ص) بنى المجتمع من حوله نفسياً، وعلينا اليوم أيضاً أن نعالج بعض الخلل النفسي في أوساطنا، ونحن بمسيس الحاجة لذلك، وعلينا أن لا نتعالى على الصغائر والكبائر في بعض الأمور، فكلنا يذهب للطبيب مثلاً ليصلح اعوجاجاً في أسنانه، أو ليتطبب من مرضٍ داهمه أياً كان ذلك المرض، لكن الجسد ليس مفصولاً عن الروح، فكما يعرض للجسد عطب، يحدث مثله للروح، فالكثير من مشاكلنا الأسرية أو الاجتماعية سببها الأول والأخير هو الانحراف في المزاج النفسي، والمصَحَّات التي تُفتح ليست للمجانين، بما تحمل الكلمة من محدودية ضيقة، إنما فتحت لمساعدة الإنسان أن يتجاوز العقبات التي ربما تعترض طريقه.
لقد عالج النبي (ص) مجتمعه فيما كان يعيش من إشكالية نفسية، حتى تحول الواحد منهم إلى طبيب نفسي. حتى أصبحت تلك الأمة الجاهلة أمة رائدة في التأسيس العلمي.
3 ـ التزام أحكام الله تعالى: فلو التزمنا أحكامه سبحانه وتعالى، صلحنا مع أنفسنا ومع أهل بيتنا والمجتمع من حولنا، وحققنا الصلاح الأكبر مع الله تعالى، وهو الأهم، وحققنا المطلوبية والرغبة الأولى عند محمد وآل محمد (ص). فإن صلح حال أفراد الأمة فلا تسل عن حال الأمة، لأن حالها يصلح بصلاح أفرادها.
هذه دعوة من النبي الأعظم (ص) صاحب المناسبة، ومن حفيده الإمام الأكرم جعفر بن محمد الصادق (ع) في ذكرى المناسبة الشريفة، فلنستجب دعوتهم، ونسر على نهجهم، ولنأخذ بحجزتهم، ونتمسك بطريقتهم المثلى، فهم شفعاؤنا في دار تنتظرنا، وهم النور الذي نهتدي به في حياتنا.
أخذ الله تعالى بأيدينا وأيديكم لكل ما فيه الخير والصلاح، وأشكر فضيلة الأخ العزيز الفاضل الشيخ يوسف المازن على إتاحة الفرصة للمثول بين أيديكم، كما أشكر اللجنة القائمة على هذا الحفل على الجهود المبذولة، وأسأل الله تعالى أن تستمر المسيرة، وأن يكون بيننا وبينكم لقاء من أجل الخدمة العامة، كما أشكر الآباء على تحملهم الأمانة الملقاة على عواتقهم، وأسأل الله تعالى أن يطيل في أعمارهم وأن يلبس الصحة من يحتاج إليها.
كما أقول للشباب بهذه المناسبة: الله الله فيما استودعكم الله تعالى فيه، وهو كتاب الله والعترة.
كما أسأل الله تعالى للأخ سماحة الشيخ من صميم قلبي أن يكتب له السعادة والموفقية، وأن يدفع عنه كل أذىً وبلاء، قصر أو طال، قرب أو بعد.
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.