نص كلمة بعنوان: القدوة الصالحة للشباب الرسالي
بارك الله لكم ذكرى ميلاد شهيد الطف، رمز الشباب المؤمن الرسالي المضحي، شبيه الرسول الأعظم (ص) خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وهو الأكبر ابن الإمام الحسين (ع) وجعلنا الله وإياكم من السائرين على نهجه، والمتمثلين طريقته في الحياة، وهي السبيل لبلوغ الدرجات العلا في الجنة.
وقد جاء النص الشريف بحق الأكبر الشهيد (ع) أنه أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسول الله، ونحن نقرأ في القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾([1])، ولا غرابة أن يكون الأكبر أشبه بالنبي (ص) في خلقه وتكوينه، فهو ابن الحسين (ع) ابن فاطمة (ع) وهي بنت النبي (ص) التي ما كانت مشيتها تخرم مشية رسول الله (ص) بمعنى أنها لو مشت تجسدت في مشيتها مشية رسول الله (ص). وأما خلقه عندما يمتدح بهذه السمة العالية الصافية، فإن القرآن يشدنا لها، لأنه يخاطب النبي (ص) قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾([2]). وهذا الخلق العظيم الرفيع السامي له ما له من الأثر في بناء الحياة في بعدها المادي، وكذلك في بعدها الأخلاقي والروحي، على أنها السبيل الموصل إلى عالم الآخرة.
فهو في التكوّن الجسدي كرسول الله (ص) وفي البناء الأخلاقي كذلك، وهو العمدة التي يحصل على أساسها التمايز بين الناس، وقد ورد في الأثر: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسَعُوهم بأخلاقكم»([3]). وفي القرآن الكريم: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعَاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوْبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَكُمْ﴾([4]). فعلى أساس من الخلق الكريم والسير النبيل تبنى الحياة السعيدة، ويجتنى ثمر الآخرة.
والبعد الآخر في شخصية الأكبر هو منطقه، إذ كان منطقه منطق الرسول (ص)، فكان يتحدث بالقرآن، ويتجسد من خلال منطقه أيضاً، فليس العبرة أن يحفظ المسلم الآيات ويتلوها، أو يقرأ النصوص الشرعية، أو ينقل الأحكام، إنما ينبغي أن يكون هنالك تجسيد ومطابقة بين ما يحفظ ويسمع ويقرأ، وما يصدر منه في الخارج من فعل، أي أن تكون أقواله وأفعاله مصدرها أحد التشريعين، الكتاب أو السنة المطهرة الواردة عن أهل البيت (ع).
والإنسان المؤمن، والشاب الرسالي، عندما يجعل قدوته من صنفه يستطيع أن يتمثل معطيات ذلك الرمز والقدوة. فرسول الله (ص) أسوة حسنة، كما نص على ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾([5])، وهي دعوة عامة لجميع الناس، للرجل والمرأة والصغير والكبير والعالم والجاهل، ولكن هنالك أمور لها خاصية من جهة ما، فكربلاء مثلاً قدَّمت لنا لوحة مكتملة الأبعاد متشابكة الخطوط، فكل واحد من الناس عامة يستطيع أن ينتزع من كربلاء قدوة له، يسير وفق تكوّنها، فالحسين (ع) قدوة الرجال الكبار، أما الكهول فقدوتهم قمر بني هاشم، وكذلك الشباب، قدوتهم من أشبه رسول الله (ص) في خلقه وخلقه ومنطقه، وهو صاحب المناسبة علي الأكبر (ع).
فنحن عندما نعيش ذكريات أهل البيت (ع) ونأخذ رمزاً نسير وفق معطياته، يفترض فينا أن نكون أكثر إصراراً على تجسيد ذلك الواقع الذي تبلور في شخصية ذلك الرمز، فالأكبر مثلاً عنوان المحبة، فيفترض بمن يقتدي به أن يكون محباً، والمحبة تفيض أحياناً حتى عن حدود الأهل والأصدقاء لتصل إلى دائرة الأعداء، بأن لا يُظهر لهم عداوة، إنما يبدي لهم حباً من أجل استقطابهم وإرجاعهم للمنطلق الأساس الذي يفترض أن يكونوا قريببن منه وملتصقين به.
كما أن الأكبر عنوان الأخوة، وقد تجلت أخوته في واقعة الطف عندما أبى إلا أن يقدم نفسه قرباناً بين يدي والده الحسين بن علي (ع) وهو الإمام المفترض الطاعة عليه وعلى الإنسانية جمعاء، قبل أن يُضحَّى بأي فردٍ ممن كان حول الحسين (ع)، وهذا أبرز مصاديق الأخوة. فكثيراً ما يضحي الفرد بمن حوله من أجله هو، لا أن يتقدم أولاً للتضحية من أجلهم. ومن هنا ينبغي أن نقيس الأخوّة والصداقة فيما بيننا على هذا الأساس، أي أنني عندما أرافق شخصاً ما، فلا بد أن أنظر من خلال تصرفاته وأقواله ومعاملاته، هل أنه يريد أن يستهلكني في صالحه أم يريد أن يقدم لي شيئاً، فإن رأيت أنه يريد استهلاكي فلا حباً ولا كرامة، أما إذا كان يرمي من وراء الصداقة تقطيع الوقت وصرف العمر فيما لا محصَّل من ورائه، فهذا غير مقبول أيضاً. والإمام علي (ع) يؤكد هذا الجانب كثيراً، كما روى عنه الإمام الباقر (ع) ، وكلامهم واحد، وهم نور واحد، فقد ورد عنه (ع) قوله: «الإخوان صنفان، إخوان الثقة وإخوان المكاشرة»([6]). فإخوان المكاشرة يجلسون مجموعات، يضحك بعضهم من بعض، لا يقدمون شيئاً لأنفسهم ولا مجتمعاتهم، ثم تُطوى الساعات والأيام والليالي، وهي من رصيدنا في هذه الدنيا، ونخسر الكثير، ثم ما نلبث أن نجد أنفسنا مقابل ملك الموت، فنواجه صحيفة أعمالنا بلا أعمال ولا درجات، وكل ما في الأمر أننا جلسنا وضحكنا وأكلنا وشربنا.
والأكبر (ع) بعد أن كان رمز الأخوة والمحبة والتضحية، كان كذلك رمز الصدق في الموقف، وهذا أمر مهم وحساس وخطير، ولا بد من الانتباه له. فأن يكون المرء حاملاً لهذا المفهوم المقدس، ومجسداً له في الخارج، لا يأتي عبثاً واعتباطاً، إنما يأتي نتيجة طيّ مجموعة من المراحل.
فالمرحلة الأولى ما تربى عليه منذ الطفولة، حيث يجد الصدق في الأبوين، فينطبع الصدق معه في داخله، ثم يخرج في دائرة أوسع إلى المجتمع، فيجد أنه إذا ما كان صادقاً تفاعل الصدق المنزلي مع الصدق الاجتماعي الخارجي، وتشكلت شخصيته على أساس ذلك الصدق.
ولننظر للأكبر (ع) وهو القدوة في هذه المقالة، فنجد أن البيت الذي تربى فيه هو بيت الصدق، وكيف لا يكون مثالاً للصدق وعلى رأسه الإمام المعصوم، وهو الإمام الحسين (ع) إمام الصادقين في أقواله وأفعاله؟ وكربلاء خير شاهد على ذلك. أما المجتمع الضيق الذي تحرك فيه فكان من هذا القبيل، وهو عبارة عن جابر بن عبد الله الأنصاري الذي ما انفكّ يردد: حبيبي حسين، أو يردد: علي سيد البشر. وأمثال جابر. وهذا الجو في الجانب العقدي والسلوكي والعملي يبرز لنا حالة من المطابقة في الصدق.
إن الصدق عندما يتفاعل في داخل الإنسان، تعود جميع المشارب والتوجهات والميول والرغبات إلى مصدرها الأساسي، بحيث يكون الصدق هو المقياس. وكل المجتمعات اليوم على وجه الأرض تحتاج إلى المحبة والأخوة والصدق والتضحية.
وفي مجتمع أصحاب الاحتياجات الخاصة تتأكد الأمور أكثر وأكثر، لأن ثمة شيئاً قد حُجب عن هذا المجتمع الخاص، وهو عدم القدرة على فهم كل ما يجري من حولنا، وليس هذا استنقاصاً، إنما هو امتحان، فربما يجد المرء في قدرته على التكلم شيئاً من التقدم والمكسب على حساب الآخرين، ولكن ليست الدنيا هي كل شيء، إنما هناك عالم الآخرة، فليس هناك فرد معين صاحب حاجة خاصة، إنما الجميع أصحاب حاجة خاصة أمام الخالق، يقول تعالى: ﴿يَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيْهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمُ بِمَا كَانُوْا يَكْسِبُوْنَ﴾([7]). فحاجاتنا الخاصة ستكون لله تعالى، ولمحمد وآل محمد (ص) يوم يكشف عن أبصارنا، فيصبح البصر حديداً، يرى ما وراء الحجب. فأنت اليوم في الدنيا ترى مَن بينك وبينه المسافات، بفضل التقنية الحديثة، وهذا مما علمه الله الإنسان في دار الدنيا، أما عالم الآخرة فهو عالم آخر يختلف جذرياً عن هذا العالم في حساباته، فنحن في ذلك العالم لا نحتاج إلى هذه الوسائط في النقل والانتقال، إنما هو (كن فيكون)، واطلب تجد.
إننا لا يمكن أن نصل إلى ما نريد إلا بالاتحاد فيما بيننا، وأن يأخذ أحدنا بيد الآخر، فالاتحاد قوة، والوحدة ضمانة، فإنْ نحن توحّدنا وتحركنا في مسار واحد، صارت الجهود تصبّ في قناة واحدة، يصعب على الآخر حلحلتها والتأثير فيها، أما إذا أخذتنا الأهواء يميناً وشمالاً، على أساس المناطق والفئات والجماعات والمناصب، فلا شك أن الجهود سوف تتشتت وتذهب أدراج الرياح، وليس الأمر في حدود هذا، إنما قد نخسر الدنيا والآخرة في آن واحد، فخسارة الأخ والصديق في الدنيا خسارة عظيمة، لأنه نعمة إن كان صالحاً معيناً على حب الخير، آخذاً إلى الله سبحانه وتعالى.
أسأله تعالى أن يوفقكم جميعاً، الشباب والأخوات، وأن يجمع كلمتهم، ويلم شملهم، ويوحد صفهم، ويأخذ بأيديهم لما هو الأفضل. ففي اجتماعاتنا الموحَّدة في السابق، التي كان يأتيها الناس من كل حدب وصوب، كان للأمر أبهة ووقع خاص، بحيث إن الناطقين كانوا يغبطونكم على تلك المجالس، أما اليوم فصار هنا تجمع وهناك آخر ـ مع شديد الأسف ـ صحيح أن هذه التجمعات جيدة، إلا أنها مضعفة للصورة العامة والعنوان الكبير الذي نريده ونرغب فيه.
من هنا أقترح على سماحة السيد والكوادر الفاعلة أن تكون لديهم أربع مناسبات أو خمس في السنة، لا بد من حشد الجميع تحت مظلتها، وإن تفرقوا في سائر المناسبات. كذكرى الغدير، وتنصيب الإمام علي (ع) بالولاية، وذكرى مولد الرسول الأعظم (ص) وذكرى ميلاد الزهراء (ع) وذكرى ميلاد الخلف الحجة (عج) وذكرى ميلاد الإمام الحسن المجتبى (ع) كريم أهل البيت (ع). فهذه مناسبات خمس، لو اجتمعنا عليها وجنّدنا لها جميع الجهود والإمكانيات استطعنا أن نخرج بصورة وحدوية، حتى وإن تفرقت المناسبات الأخرى فيما بيننا.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.