نص كلمة بعنوان: السيدة زينب قدوة المرأة الرسالية

نص كلمة بعنوان: السيدة زينب قدوة المرأة الرسالية

عدد الزوار: 463

2013-03-28

«...فمن كان أكثركم صلاةً عليَّ كان أقربكم مني منزلةً»([2]).

عن الإمام السجاد (ع) يخاطب عمته زينب (ع): «وأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة، فَهِمَةٌ غيرُ مُفَهَّمَة»([3]).

أيامٌ قليلة تفصلنا عن ذكرى ميلاد الصديقة الصغرى، السيدة الحوراء زينب (ع)، ذكرى الميلاد السعيد للسيدة الجليلة العالمة المجاهدة الصابرة المضحية أم الشهداء.

فلا يكاد يذكر اسم الإمام الحسين (ع) في محفل إلا ولاسم زينب (ع) حضوره. والإنسان يُعرف من خلال القول الصادق، أو الموقف الصادق، أو الفعل الصحيح المخلص، فلا يُستغرب أن تكون زينب (ع) في المقام الذي شغلته سمواً وحضوراً، فلهذا أسباب عديدة، منها أنها تربَّت في بيت تكتنفه العصمة من جميع جوانبه، وهو بيت استثنائي لا نظير له على وجه الأرض، فهي المرأة المتحدِّرة من أبٍ معصوم، وأمٍّ معصومة، وإخوة معصومين.

في هذه الأجواء الملكوتية أبصرت السيدة زينب (ع) النور، ومن هذا المعين الصافي نهلت، وفي حدود ذلك المنزل الطاهر تحركت يميناً وشمالاً، باركتها يد النبوة، ورعتها يد الإمامة.

وإذا تجاوزنا هذا المحطة الأولى من محطات حياتها ننتقل إلى محطة أخرى، ألا وهي محطة الجهاد، وكلنا يعلم أن لا جهاد إلا من خلال إعداد واستعداد، أما الإعداد فقد تقدم على يدي أبويها، النبي الأعظم (ص) وسيد الأوصياء (ع) ، والإخوة من حولها. وأما من حيث الاستعداد فإن زينب (ع) أوجدتها السماء بهذه المنظومة من الخصائص التي لا تعثر على نظيراتها من الخصائص في أحد من النساء إلا في أمها ومن خرج من نساء العالمين بالنص.

لذا أُعدَّت واستعدت للقادم، فاصطفاها الإمام الحسين (ع) شريكة له في دعوته التي أراد لها أن تصحح مسيرة الأمة بعد الاعوجاج، وتدفع بها نحو الحركة بعد التوقف.

إنها في المدينة حيثٌ وكيف، وفي كربلاء حيثٌ وكيف آخر، ففي المدينة لم يكن الموقف يتطلب منها أكثر مما قدمته، لما للزمان والمكان والحوادث المكتنفة من أثر. أما في كربلاء فلا الزمان هو الزمان، ولا المكان هو المكان، ولا الحدث هو الحدث.

والنبي (ص) عندما يقول: «حسين مني وأنا من حسين»([4])، وأن الإسلام بدأ محمدياً واستمر حسينياً، فهذه النصوص ونظائرها كانت مستقرة في كينونة تلك السيدة الجليلة، وحان الوقت في كربلاء أن تتحول الكلمات إلى مواقف تتجسد في عالم الخارج.

ثم إنها (ع) كانت قبل استشهاد الإمام الحسين (ع) في حالٍ وكيف خاص، وبعد شهادته انتقلت إلى كيف أكثر خصوصية مما كان عليه سابقاً، لأن كثيراً من المسؤوليات أُنيطت بها بعد غياب الإمام الحسين (ع) فهي المسؤولة عن الحفاظ على الامتداد الطبيعي لسلسلة الإمامة المتمثلة في الإمام علي بن الحسين (ع) ولولا موقفها ودفاعها لاستؤصل الإمام السجاد (ع) بحسب المعطيات الطبيعية، أما التدخّل السماوي ففي جانب آخر، لأن مشربه واتجاهه عَقَدي، أما القراءة التاريخية فيفترض أن زينب (ع) لو لم تتحرك، أو أنها تخلّت عن دورها وتركت الإمام زين العابدين (ع) وأولئك الأوباش، لما استَبْقَوا على روحه المقدسة، ولانقطعت سلسلة الإمامة. فقد دافعتهم وحافظت على الإمام المفترض الطاعة.

أما في الكوفة فكان لها موقف وخطبة في منتهى الروعة والانتقاء للمفردات المدلِّلة على المعاني المقصودة، ثم شفعت هذه الخطبة بخطبة أخرى أكثر أهمية ودقة عندما وقفت في الشام في مسجد الأمويين المعروف اليوم، ورأس الإمام الحسين (ع) في يد يزيد بن معاوية عليه من الله ما يستحق.

في ذلك المشهد العظيم الذي يضعف فيه الرجال فضلاً عن النساء، تأبى زينب إلا أن تسجل درساً للتاريخ ببصمة نسوية، لكنها ليست مثل كلّ البصمات، إنما كانت البصمة التي اعتنت السماء في إخراج خطوطها المتشابكة والمتقاطعة والمتفرقة في أعلى درجات الدقة والعناية.

وبثقل النبوة والإمامة والوجود الفاطمي تحركت زينب (ع) فهزّ خطابها أركان العرش الأموي. فكان خطابها في الشام والكلمات التي صدرت من فمها الشريف بمثابة القذائف التي أحدثت التصدعات في جدار الدولة الأموية، لذلك أراد يزيد بن معاوية أن يتعدى على حياتها الشريفة وينهي وجودها، أو بالضرب على أقل تقدير، فمنعه من منعه قائلاً: إنها امرأة.

ومع شديد الأسف، نجد أن النظر إلى المرأة نظرة دونية لا زال يُمارَس إلى يومنا هذا، في حال أن الإسلام شجبها، وكانت خطاباته في القرآن الكريم والسنة المطهرة أعطت للمرأة حيزاً ومساحة بقدر ما أعطت للرجل. نعم، امتاز الرجل في بعض المواقع، إلا أن المرأة حققت امتيازاً أيضاً في مواقع أخرى. وقول الشاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها   أعددت شعباً طيب الأعراقِ

ليس قول شاعر فحسب، إنما هي حكمة الشاعر التي تنطلق من جذر وأساس ديني. فالقرآن الكريم في معرض خطابه السماوي يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهْ ~ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهْ﴾([5]) لم يجعل ذلك في سلّة الرجال دون النساء، إنما أعطى للمرأة بقدر ما أعطى للرجل، والعكس صحيح. والآيات التي تشير إلى مساواتهما في العمل كثيرة.

وكذلك النبي (ص) عندما يأتي بحقيقة الإنسان الرجل، فإنه يشفع ذلك بالمرأة، بل إن الأحاديث التي صدرت عنه (ص) في حق الزهراء (ع) بقدر ما كانت تعنيها كفرد متشخص خارجاً، أوجبت السماء العناية بها والحفاظ عليها، بقدر ما أراد من خلالها أن يوصل رسائل لتصحيح الاعوجاج في الذهنية لدى أفراد الأمة تجاه المرأة.

فالمرأة مرّت قبل الإسلام بأدوار امتهان، وجاء الإسلام فلم يأخذ مساحته الكافية في الوسط من حوله، لذلك تعثرت الكثير من المفاهيم التي تتعلق بالمرأة، فبقيت في موقع المناكفة والمحاربة والمصادرة والتسقيط، حال أن المرأة عبر خارطة الإسلام لها دورها الكبير.

والمقولة الشهيرة التي تقول: وراء كل عظيمٍ امرأة، وإن كانت متأخرة عن زمن الإسلام، إلا أنها تختصر ثقافة كاملة. فلو أننا أمعنّا النظر لرأينا أن النبي (ص) وهو أعظم العظماء بميزان السماء لا بميزان البشر فحسب، كانت إلى جانبه امرأة في البدء والختام، فخديجة (ع) في البداية، وفاطمة بنت محمد (ع) في النهاية، خديجة في التأسيس والزهراء في خاتمة المطاف.

وهكذا الحال مع الإمام علي (ع) حيث كان للزهراء (ع) دورها الكبير، وهكذا الحال مع آخرين.

ولنسأل أنفسنا اليوم عن حال المرأة، ما هو حالها؟ إنها تتعرض اليوم إلى تجاذبات خطيرة، فمنهم من يريد أن يعطيها مساحة كبيرة من الحرية وإن كانت على حسابها، وهي دعوى ظاهرها الشفقة وإرجاع الحق إليها، ولكن في ذلك الكثير من المغالطة، لأن قراءة مفردة الحرية التي يراد لها أن تُلقى للمرأة قراءة خاطئة، فلا يراد لها أن تكون المرأة الشريفة العفيفة المؤمنة التقية، إنما يراد لها المرأة التي تلغي مجموعة من النظم والأحكام والمقدسات من حولها. ومجتمعاتنا ـ بحمد الله ـ بعيدة عن ذلك، لأن نساءنا يقتدين بالزهراء (ع) وزينب (ع).

وهنالك جماعة أخرى أرادت للمرأة أن تكون خارج الأحداث بالمطلق، وهو عكس التيار الأول، حيث تحجر عليها كل شيء وتصادرها وتصادر المواقف من حولها، فليس من حق المرأة أن تختار الزوج الذي تريد أن تشاطره الحياة، وفي بعض البيوتات يُكتب للمرأة التوفيق أن تعمل وتحصل على قدر من المال الذي يسيل له لعاب الأب أو الإخوة، فيحجر عليها حتى حق الزواج وبناء الأسرة، لا لشيء إلا لأنها تؤمِّن مصدراً من مصادر الرزق، فتُخطب أكثر من مرة ومرة ويُصدّ الرجل. وهذه النظرة لا تقل في سقوطها عن نظرة من لا يرى فيها إلا بهيمة ولوداً حلوباً.

أما المسار الثالث فهو المسار الوسطي الذي ينتزع من الحرية ما يؤمِّن للمرأة مساحة للحراك، ويأخذ من العفة النصيب الذي يحفظ على أساس منه قيمة المرأة. ومجتمعنا اليوم ليس كمجتمع ذلك الزمان الذي يقول فيه شاعرهم:

ما ضرَّ جاراً لو يجاورني    أن لا يكون لبابه سترُ

أعمى إذا ما جارتي برزت   حتى يواري جارتي الخدرُ

فقد اختلف الوضع كثيراً عما كان عليه آنذاك، فمجتمعنا وإن كان في مجمله طيباً مؤمناً ملتزماً، ولكن في كل زمان هناك من يخرج عن الجادة ويعكر صفو الأمور.

أيها المؤمن، أيها الأب أو الأخ أو الولي على المرأة: علينا أن نراعي هذا الجانب مراعاة دقيقة جداً، وهو أن ما بيدي إنما هو في مساحة السماء، فكوني أتشدَّد أو أنفتح لا بد أن أسأل عن مقدار ما يشغل ذلك من مساحة في عين الله تعالى. أما أن تكون هناك جبهة معارضة للحق، قلّت أو كثرت، قويت أو ضعفت، فهذا لا يعني أنها على حق وغيرها على باطل، فالأهم أن يبني الإنسان على أساس متين.

يقول الإمام الباقر (ع) وهو يوصي أحد أصحابه وهو جابر بن يزيد الجعفي، وهو ممن حمل كمّاً هائلاً من المفاهيم عبر روايات أهل البيت (ع): «واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهلُ مِصرك، وقالوا: إنك رجل سَوء، لم يَحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجلٌ صالح لم يسرَّك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك... »([6]).

وهناك بيت من الشعر للشاعر إلياس فرحات وهو في منتهى الدقة والروعة يخاطب فيه من يمدحه البعض ويذمه آخرون وهو هو لا يتغير، فقد اختلفوا في شعره وشخصيته، هناك من يمدح وهناك من يذم، فقال:

امدَح فمدحُك لا يَشدُّ عمامتي     واشتم فشتمك لا يحل حذائي

لقد شُتم علي (ع) على المنابر ثمانين سنة ولُعن، وكانت الخطبة لا تختتم إلا بالنيل منه فهل ضره ذلك شيئاً؟ بل إن أحد خطباء الجمعة نسي أن يشتم علياً (ع) ونزل من المنبر، ثم عاد ثانية إلى منبره ليقول للمصلين خلفه: فلنقضِ من الصلاة واجباً سقط، ثم صعد المنبر فشتم علياً (ع) ونزل. ولكن بقي علي (ع) هو علي.

وهنالك أفراد آخرون لُمِّعت وجوههم ووضعت لهم البطولات والمآثر، فلم ينفعهم ذلك شيئاً:

وحسبكم هذا التفاوت بيننا    وكل إناء بالذي فيه ينضحُ

غفر الله لنا ولكم، ووفقنا وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.