نص كلمة بعنوان:السيدة المعصومة (ع) سليلة بيت النبوة
السيدة المعصومة (ع).. سليلة بيت النبوة
صادف اليوم الاول من هذا الشهر ذكرى ميلاد كريمة اهل بيت النبوة فاطمة المعصومة بنت الامام موسى بن جعفر (ع) .
للنسوة في بيت النبوة قيمة عالية لم يسلط الضوء الا على القليل من سيرة هذه النساء الطاهرات. ربما حظيت الزهراء (سلام الله عليها) بشيء من الاهتمام وفي حد لا بأس بها، والا فالحديث عنها لا ينقضي لا من خلال الحديث عنها (سلام الله عليها) ولا من خلال الكتابة عنها او ما يحلق به الشعراء من خلال مفردات يسطرونها منمقة في مقاماتها (سلام الله عليها)، لكن الزهراء (سلام الله عليها) بما لها من الكينونة الخاصة والشمولية المعروفة والابعاد المتعددة لا يجعل عذراً لمن يصدر منه تقصير في حق هذه الانسانة العظيمة بكل ما للكلمة من معنى.
أما زينب (سلام الله عليها) صاحبة العصمة الصغرى فقد حظيت ايضاً بنسبة دون تلك النسبة التي حظيت بها امها الزهراء (سلام الله عليها) لأنها شاركت أخاها الحسين (ع) وناصفته المجد الكربلائي ولا يمكن ان نقرأ حسين الطف حسين كربلاء حسين عاشوراء حسين الخلود الا من خلال صفحة زينب بنت علي بنت فاطمة بنت النبي محمد (ص)، لكنها هي الاخرى لم تحظَ بما يتناسب مع ما هي عليه من الشأن والقيمة الانسانية العالية في جميع جوانب ومفاصل حياتها من المدينة الى الكوفة مع ابيها ايام الخلافة ثم المدينة بعد شهادة المولى ثم الرجوع الى العراق من جديد لتأخذ موقعها الطبيعي من خارطة الاحداث، لكننا نقرأ في زينب (سلام الله عليها) المرأة التي وقفت جنباً الى جنب مع الحسين بن علي(ع) ليرسم خطوط معالم تلك الملحمة العظيمة والخالدة والرائعة، لكن زينب المحدثة وزينب العالمة غير المعلمة الفهمة غير المفهمة تقصر البضاعة دون فك شفرات هذه المفردات، وهكذا الامر ينجر الى صاحبة المناسبة السيدة المعصومة بنت الامام الكاظم(ع).
السيدة المعصومة شملتها الالطاف منذ البداية لأن ذكرى المعصومة (سلام الله عليها) جرى على لسان النبي الاعظم محمد (ص) وهو شيء من الاخبار بالمغيبات، وحينما تلاحق المغيبات امراً مستوراً على لسان معصوم انما يعني ان لذلك الامر قيمة وعناية خاصة.
تسميتها (ع) بالمعصومة
كلنا يعلم ان من حق الولد على ابيه ان يحسن تسميته ويكنيه ويلقبه وهذا من حقوق الولد على الاب ان يختار له اسماً لو كبر ذلك الطفل واصبح رجلاً لاعتز بالاسم لما له من الدلالة على الذات، فمن منا سمي بمحمد ورغب عن ذلك او بعلي وحاول ان يتفلت منه او صادق او ... واراد الابتعاد؟ والأمر كذلك في صفوف النساء، فمَن من النساء سميت بفاطمة او الزهراء او البتول او حوراء او زينب او ... ثم بعد ان كبرت قالت: لماذا هذا ولم يكن ذاك؟! جاء في زيارتهم(ع): (اسماءكم في الاسماء)([2])، واشتقاقات اسماء الائمة (ع) لها منشأها ولا ارغب في ان ادخل في هذا الاتجاه لأنه يأخذنا الى مسارات بعيدة وفيه شيء من التعقيد ربما يخرجنا عما نحن فيه، لكن ان تلقب المولودة التي لا تحظى بعصمة خاصة كما لقّبت السيدة الزهراء (سلام الله عليها) فالزهراء÷ لا غرابة ان تلقب بالصديقة والزكية والطاهرة والمطهرة لأنها فطرت على هذا اصلاً وفطرتها الاولى على هذا وكينونتها الاولى في عالم الاسرار بهذه الكيفية، لكن المعصومة (سلام الله عليها) تدرجت في عوالمها ووجدت من الرعاية ما له اثره لكن ان يأتي الامام الصادق (ع) والمعصومة بعد لم تتكون ويقول في حقها انها كريمة آل محمد وبالحرف الواحد كريمة اهل البيت (ع)، فما هو سر هذا الوسام الراقي؟ فالامام الحسن (ع) كريم اهل البيت، وهنا المعصومة÷ أعطاها الامام الصادق (ع) هذا اللقب العظيم كريمة اهل البيت، ثم يأتي الامام الرضا(ع) ويعطيها لقباً آخر ومن نوع خاص وهو المعصومة فسميت بفاطمة المعصومة([3])، والإمام الرضا× هو الذي اجرى هذا اللقب على هذه الذات المقدسة الطاهرة المطهرة.
والمعصومة(ع) فقدت اباها الامام المعصوم الكاظم (ع) في الخامسة من عمرها وهو عمر الطفولة، ولفقدان ابيها الامام المعصوم فإن وجود الامام الرضا (ع) إلى جانبها كان كفيلاً لأن يملأ الاجواء عليها بحيث لا تشعر بغياب ابيها، فتكفلها الامام الرضا (ع) وضمها الى جناحه وعني بتربيتها.
حينما يطلق عليها هذا الاسم فهو من خلال زاويتين:
الزاوية الاولى: زاوية ان المعصوم لا ينطق عن الهوى، لأن ما يتفوه به لابد وان يكون في دائرة العصمة، فالقرآن ينعت النبي (ص) بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}([4])، فهناك مسيرة وحي بين السماء والارض عليها ملك امين وهو جبرائيل، وفي سلسلة الامامة هناك نور متصل وحبل بين الارض والسماء وفيه شيء من اللطف بل في غاية اللطف.
الزاوية الثانية: ان الامام الرضا عايش هذه البنت التي لم تفطر على العصمة وانما بنت العصمة من حولها وحينما يقول الامام عنها معصومة، يعني معصومة في لسانها وفي عينها وفي اذنها وفي يدها وفي رجلها؛ فلم تمشِ الا الى خير، ولم تحرك يدها الا في خير، ولم تفتح عينيها الا على خير، ولم تصغِ الا الى خير.
فأحياناً ربما يفرض الواحد منا رقابة من نوع خاص على واحدة من جوارحه فيسيطر عليها، وهذا قد لا يكلف كثيراً، لكن ما يكلف كثيراً هو ان يفرض طوقاً على جوارحه الخمس ويزداد الامر تعقيداً حينما يحاول ان يفرض على عقله المدبر والمحرك والموجه لكل الجوارح من حوله، فهذا يحتاج الى قوة خارقة ومدد رباني، وقد حظيت المعصومة (سلام الله عليها) بهذا المقام. اقول: ان تكون معصومة في جميع جوانبها اكتساباً، فكم بذلت من الجهد في تصفية هذه النفس والحفاظ عليها في قالب الصفاء بحيث تلفت نظر الامام ان يجري على لسانه الشريف هذه اللفظة التي تحمل معنى الطهر والقداسة والشرف والكمال؟!
الشيخ عباس القمي (رحمه الله) تعرض لحياتها في الكنى والالقاب بشيء من البسط، ثم جاء الشيخ الدكتور وهو مجتهد ايضاً الشيخ عبدالهادي ابن الشيخ الامين صاحب الغدير والف كتاباً في حياتها وهو من اهم وافضل ما كتب عن السيدة المعصومة (سلام الله عليها)، وهناك كتابات تجارية موجودة وهي من الكثرة بمكان، ولكن أن يوجد كتاب يخضع للبحث والتحقيق والتحليل والاستنتاج فهو يضاف الى جهد هذا الرجل (رحمه الله تعالى)، فوالده معروف وهو شيخ المحققين في عصره وصاحب موسوعة (الغدير) الذي اذهل علماء الاسلام في تتبعه لنص الغدير.
أمّا الشيخ القمي (رحمه الله تعالى) فهو رجل سير وسلوك، ويدل على ذلك مفاتيحه (مفاتيح الجنان) الذي لا يكاد يخلو منه بيت يحمل ولاءً لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو كتاب كله بركة وفيض، فالشيخ القمي ـ لاحظوا هذه القصة ثم الاسقاط على ما نحن فيه ـ الشيخ القمي ذهب الى النجف الاشرف وقام بزيارة استاذ الاصول الاول في عصره الشيخ الميرزا النائيني استاذ السيد الخوئي واستاذ الاقطاب والاعلام، وكان الشيخ النائيني (اعلى الله مقامه) يشكو ألماً في قدمه واثناء زيارة الشيخ عباس له ـ وهو يعلم بمقام الشيخ عباس وخير ودليل على هذا السفر كما أشرت ـ طلب من الشيخ ان يقرأ عليه لتتعافى قدمه، فقال له الشيخ عباس القمي: انا مأمور ان ادعو بشيء لم ارتكب به خطيئة فأنا لا استطيع ان اجزم ان لساني لم ارتكب خطيئة من خلاله أو لم أعصِ الله به، كما جاء في حديث شريف قدسي أن الله عز وجل أوحى إلى موسى (ع): (ادعني بلسان لم تعصني به)([5])، والمعصية ليست بالضرورة أن تكون كلمة طويلة عريضة او سباباً فاحشاً طويلاً، لا، ففي الروايات أن المعصية يمكن أن تكون ولو بشق كلمة أو بحرف واحد، والخطيئة خطيئة، وكان أحد الناس يقول: قضيت من عمري ثلاثين سنة استغفر الله من قول كلمة: الحمد لله! كلفتني ان ادفع ثمنها ثلاثين سنة استغفر منها كيف جرت على لساني، يقول له احد تلامذته: وكيف ذلك؟ فقال: كان لديّ دكان (حانوت) في السوق الكبير في مدينة مشهد المشرفة، كنت عابراً واذا بالنار تستولي على معظم ما كان في السوق، فسألت الناس: النار في أي جهة؟ فقيل لي: في الاتجاه الثاني، يعني أن دكانه كان سالماً، فقال: الحمد لله، يعني ان دكانه وحلاله سالمين، يقول: فانتابني شعور انني كيف احمد الله على نجاة أموالي فقط، يعني: لم يكن يهمني بقية الناس؟! يقول: خصوصاً حينما كنت قد اخذت طريقي الى الضريح، ولم أعمل حتى على مساعدة الناس، يقول: فأنا استغفر الله ثلاثين سنة من هذه المقولة التي وضفها في غير محلها.
فشاهدي من كلامي: ان الشيخ عباس القمي (رحمه الله تعالى) قال له: يا شيخ لكن يدي ـ وقالها جازماً ـ لم اعصِ بها الله سبحانه وتعالى، بل سخرتها في خدمة اهل البيت وجرى بسببها قلمي بكتابة نصوص اهل البيت وهي الآلاف من الروايات، وانا اضع رجلي فوق الاخرى، وان شاء الله سبحانه وتعالى يمن عليك بالبركة والعافية، وحصل ان الشيخ الميرزا النائيني ـ وهو الذي يحدث القضية وليس الشيخ عباس القمي ـ قد منّ الله سبحانه وتعالى عليه بالعافية.
فالمعصومة (عليها السلام) تمتلك خاصية في كل جوانبها، والا لا يحق للامام ان يصفها بـ (المعصومة) اذا كانت العين عندها خاطئة أو لسانها أو... فلا يصح ان يقول لها (معصومة) والحال هذه، لكن الامام يضمن ان السيدة المعصومة لم تعصِ بعينها ولا باذنها ولا بلسانها ولا بيدها ولا برجلها، لذلك وصفها بـ (المعصومة)، فكم لهذه الكلمة من تأثير؟ شاهدوا كبار علماء الطائفة يحنون رؤوسهم احتراماً لهذه السيدة حين زيارتها، مع ان عمرها الشريف كان سبعة عشر سنة وعلى أكثر التقادير: ثمانية عشرة سنة، حيث يوجد اختلاف في سنة ولادتها، يعني ان الفارق بين الاختلافات ست سنوات، فيكون هناك وجه من الشبه بينها وبين الزهراء(ع).
ايها الاحبة كثير منا يوفق الآن للذهاب إلى الجمهورية الاسلامية وزيارة الامام الرضا (ع)، والمعصومة (ع) بوابة الرضا الصحيحة والطبيعية وفيها فيوضات عجيبة وغريبة، وعلى كل واحد منا أن يستفيد من ذلك.
اصبح الناس اليوم يختصرون ويستبدلون قم بالشمال، والشمال نظائره كثير في الدنيا، لكن المعصومة (عليها السلام) لا يوجد احسن منها، الا من خُصّصوا وقُدّموا عليها وهي مواطن معلومة ومحسوبة ومعدودة، وحينما نذهب الى ايران فلا نحرم من زيارة هذه السيدة، ولنسأل أنفسنا من هي؟ هي بنت عمرها سبعة عشرة سنة يأتي إلى ضريحها الشريف مراجع الطائفة يتبركون بترابها، فما هو السر والعظمة الكامنين وراء ذلك، وهذا السيد الامام (رحمه الله) الذي اقام الدنيا ولم يقعدها وغير المعادلات وبدل الحسابات، واذا به يأتي في كل تواضع امام ضريح هذه السيدة ويلتمس الدعاء من خلال قبرها فأي عظمة حازتها هذه السيدة! ومن قبله كان الشيخ الصدوق وقبله كان زكريا بن آدم وقبله وقبله...
نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يفتح علينا وعليكم فيوضات هذه السيدة الجليلة وان يرزقنا كرامتها في الدنيا وشفاعتها في الآخرة فإن لها شأناً من الشأن، ومن زارها عارفاً بشأنها وجبت له الجنة في الحديث عن محمد وآل محمد([6]).