نص كلمة بعنوان : الزهراء عليها السلام مدرسة الهدي المحمدي

نص كلمة بعنوان : الزهراء عليها السلام مدرسة الهدي المحمدي

عدد الزوار: 509

2014-05-06

ميلاد أم أبيها:

في الحديث الشريف: «فاطمة مني»([2]).

كلنا عاش الذكرى وخرج منها بما فتح الله عليه، فمنا من عاشها في حدود ضيقة، ومنا من عاشها في فضاء مفتوح. فلهؤلاء أجر، ولأولئك أجر أيضاً، ولكن الموازنة بين الأمور خارجاً تحتاج إلى الدقة في الكثير من الأحايين.

إن العاطفة سبيلٌ، والعقلانية سبيل آخر، ثم المعاضدة ـ وهي طريقة مهمة ومغفلة في أوساطنا ـ تشكل طريقاً هاماً للوصول إلى الهدف والمبتغى من إحياء ذكريات آل بيت محمد (ص).

فالشعراء يحلِّقون، والخطباء يُبحرون، والكتَّاب يحبِّرون، والنُّقّاد يَسبرون، أما الجمهور فهو المساحة التي يتنقل عليها هؤلاء كلهم.

ومن الظلم أن نقصر الزهراء (ع) على جانب معين، فهي كالشمس، لا يمكن أن نستفرغ منها مساحة إلا وعادت بالسلب على مساحة أخرى، أما إذا تركنا الفضاء مفتوحاً أمامها لتباشر الأرض في جميع جوانبها ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ([3]).

بالزهراء (ع) تحيا النفوس، وتزكو، وتطهر، وتسمو، وترتقي، ومن دونها لا نستطيع أن نصل أو نتصل بالحقيقة المطلقة، لأنهم نصبوها واسطة بيننا وبين تلك الحقيقة.

أبدأ حديثي بهذه المقطوعة الشعرية تيمناً بها، وقد كتبتها للزهراء (ع) في هذه المناسبة. أقول في أمي الزهراء (ع):

بنت    الرسالة   كعبةٌ   وسماءُ
والكون  فيضٌ  أصله الزهراءُ
والنور  في  قلب  العباد أساسه
نور   البتول  وسرها  المعطاءُ
وعوالم  الأسرار حدَّث سحرها
هديُ  البتول  ونهجها  الوضاءُ
وعقيدة  التوحيد  أصّل  فكرَها
قولُ   البتول  وذاتها  السمحاءُ
وتفرقت  كل  النجوم  وما  بها
لولا  البتولُ  لضاقت  الأرجاءُ
من وجه فاطمَ إذ تشعشع نورها
والليل   تبدي  حسنه  الجوزاءُ
هذي الحقيقة والرسول أصابها
بالنص    لـما   هـلت الزهـراء   

 

العلم والعلماء:

من هنا أنتقل إلى ما وددت الحديث عنه، وهو إشراقة من إشراقات الزهراء (ع): العلم، العلماء، المعلوم.

في مثل هذا اليوم كان رحيل المرجع الديني في وقته آية الله العظمى السيد الكلبايكاني (رحمه الله) وقد رأيت من الجميل أن أتحدث عن العلم والعلماء وما لذلك من أثر، وما هي الدائرة التي يتحرك فيها هؤلاء جميعاً.

قال النبي الأعظم محمد (ص): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض، حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء»([4]).

العالم هو من أراد أن يسير وفق الطريق الذي رسمه أهل بيت النبوة (ع) فلا يأخذ يميناً فيفرِّط، ولا ينتحي يساراً فيقع في التقصير.

والعلم في محوره الأول هو القرآن الكريم، الوحي الصادق من السماء الذي نزل به الوحي الأمين على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص). ثم السنة الطاهرة المطهرة، وأصلها النبي والآل (ص)، فالقرآن أصَّل، والسنة فرّعت. ثم العلماء الذين ائتُمنوا على هذه الأمانة، وهي الوديعة من أهل البيت (ع) للعلماء، التي تعني فيما تعنيه الأيتام من آل محمد (ص) في زمن الغيبة.

فالعلماء أمناء، وهم المعنيون في الحديث، إذا ما نهضوا بالمسؤوليات وقاموا بها، وإلا فالعلم علمان: علم في القلب، فذاك العلم النافع المستقر، فأنت تسمع بالكثير من الأخبار والحوادث والقصص والذكريات، لكنها لا تستقر كثيراً، على العكس من ذلك الروايات التي تطرق أسماعنا على لسان الكثير من خطبائنا أيدهم الله، فإنَّ لها انعكاساً وانطباقاً ونورانية على قلب الإنسان وسلوكه يختلف عن الكثير من المُلقى.

وهناك علم على اللسان، فذلك حجة الله على بني آدم، فالرواية التي نطرحها، والحديث الذي نسرده، والخطاب الذي نتعرض من خلاله للكثير من القضايا، هي سبل ومناهج، وهي الموعظة التي أُمرنا أن ننهض ونقوم بها كمسؤولية، وإن كان لكل واحد منا المسؤولية الخاصة به، إلا أن المسؤولية أولاً وبالذات موجهة إلى أهل الذكر، وهم العلماء الذين نذروا أنفسهم من أجل الحفاظ على أيتام آل محمد (ص) من الضياع هنا أو هناك.

ثم إن الفتن تتتابع كقطع الليل المظلم في كل زمن من الأزمنة، فلا ينبغي أن نتصور أن الفتن والمشاكل وليدة الساعة والعصور المتأخرة، جراء وجود الأجهزة الحديثة، والتقنية العالية، فهذه الأمور كانت تقع منذ زمن الرسول الأعظم، وما المؤامرة على الرسول الأكرم (ص) في دحرجة الدباب إلا واحدة منها، ناهيك عن الكثير من الأمور المماثلة.

كما أن التشكيك في النص لم يكن وليد الساعة، إنما كان موجوداً حتى في زمن النبي الأكرم (ص) ساعة العسرة والارتقاء الروحي للنبي (ص) في عالم الملكوت، حيث كانت كلمة التشكيك حاضرة، يوم قال من قال: إنه يهجر. بل إنه لم ينعته بالنبوة والرسالة حين قال ما قال، وفي هذا دلالة واضحة على أن تعامل البعض مع النبي (ص) لم يكن مرتقياً إلى مستوى النبوة والتصديق، والتسليم والطاعة والانقياد المطلق، إنما كانت مساحة التحفظ موجودة.

وبالنتيجة لم يخل قرنٌ من القرون، ولا عقد من العقود، من وجود رمز تلتف الأمة وتتمحور من حوله. فالعلماء النخبة، الذين هم كالقمر بين الكواكب، هم الذين ينهضون بالمسؤولية ويحافظون على النشء، حتى يأذن الله تعالى للفرج من آل محمد (ص).

لذا يقول النبي (ص): «يحمل هذا العلم من كل خلف عدول، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»([5]). فليست هنالك فرقة واحدة، إنما هي مجموعة من التيارات والاتجاهات، ومنذ ذلك اليوم كان النبي (ص) يحذر من وجود تلك الطبقات في وسط الأمة، فهنالك طبقة يأخذها الغلو إلى مسافات بعيدة، بحيث تقترب بالمعصومين (ع) من مقام الألوهية، بل تجعل منهم آلهة، وهي طبقة منبوذة ومرفوضة بالمطلق في مدرسة أهل البيت (ع)، ولا يعني ذلك أن إعطاء الأئمة المعصومين (ع) بعض الصفات الثابتة للمطلق غلوٌّ، بل إننا نعتقد فيما نعتقد أن جميع ذرات الكون هي في مدار دار عليه لطف محمد وآل محمد (ص).

إن حمل الرسالة الإصلاحية في وسط الأمة من قبل رجل الدين هي المسؤولية الأولى، بل لا ينبغي لرجل الدين أن ينهمك في الكثير من المسارات، بحيث يقتل الوقت في ما لا جدوى من ورائه، إنما عليه أن يفرغ نفسه في تحصيل ما يمكن أن يقدمه دواء وشفاء للأمة في الكثير من معضلاتها.

فالرسول (ص) هو القدوة، وليس ثمة قدوة مقدمة على الرسول (ص)، وأما علي (ع) فهو نفس النبي (ص): ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ([6]). وأما آل علي (ع) فهم من هذا النور، لذا نبدأ بهم بنور النبي (ص) ونمرُّ حتى نصل إلى الخلف الهادي من آل محمد (ص).  

أركان القدوة:

وهنالك أركان أربعة تمثل القدوة في شخص النبي (ص) إذا ما تحققت في شخص العالم أصبح يمثل القدوة، بل يمثل مرآة لرسول يسير على الأرض، ومرآة لواقع الرسالة الحقة:

1 ـ الإخلاص: وهو ركنٌ أصيل، فما يقوم به من العمل يبتغي به وجه الله سبحانه وتعالى، لا أن يرضي طرفاً على حساب طرف، أو يقترب من شخص على حساب الآخر، أو يقدم طبقة على حساب الآخرين من المؤمنين، كما في تقديم رجال الدين مثلاً، إنما يكون الجميع في نهج بيت النبوة في ميزان واحد، من حيث احترامهم وتقديمهم وتكريمهم والتودد لهم والقيام بخدمتهم، فهو المشروع الذي نادت به الرسالة الحقة، والمبتغى في ذلك هو الله سبحانه وتعالى. فإن نحن دخلنا في عبادة فهو طريق الله، وإن دخلنا في مجلس ذكرٍ، أو نهضنا بمشروع اجتماعي، أو تعاونّا على البر والتقوى والإحسان، فهي طرق للوصول إلى الله سبحانه وتعالى. والخاصية الخاصة في كل ذلك هي الإخلاص.

2 ـ العلم: بأن يكون المرتقي للأعواد، أو المتصدر للمجالس، أو من يعرض نفسه للفتيا، من أهل العلم والدراية، وأن يكون محيطاً بأسباب الأحكام الشرعية، وأن لا يكتفي بساحة النقل التي تشكل في الكثير من الأحيان واحدة من المرديات.

كما ينبغي أن ينتزع هذا العلم من مظانّه المعهودة المعروفة، المتمثلة بحقيقة المرجعية، وهي الأمينة المستأمنة بالدرجة الأولى، ثم الأمثل فالأمثل من أصحاب الحظوة من العلم. ونحن اليوم في مجتمعاتنا في مسيس الحاجة أن ندفع برجال العلم في أوساطنا بهذا الاتجاه، أي في تحصيل المزيد من العلم والمعرفة، فرجال الدين في مجتمعاتنا من الكثرة بمكان، لكن النخبة والصفوة المتقدمة هي القلة.

ومما يغرق المركب أكثر، أن النخبة التي تقدمت في علومها هي الجماعة المقصيّة، على العكس من ذلك تماماً، تجد أن المقدَّم في الكثير من الأماكن هو من لا يتناسب مع حقيقة ذلك الموقع مع شديد الأسف، وهي حالة من الإخفاقات في مجتمعاتنا، يؤمّنها موروث توارثناه عن آباءٍ بنوا قضاياهم على حسن الظن المطلق، أما واقع الشيء وحقانيته فعليه أكثر من علامة استفهام.

3 ـ الحلم: فلا يكفي أن يتعلم الإنسان ليكون مخلصاً، إنما عليه أن يكون حليماً، فالحلم سيد العلم، ومقدم عليه، فلا قيمة للعلم بلا حلم، وهذا ما يستفاد من الكثير من الأحاديث الشريفة. فلو أن شيخاً كبيراً سألك مسألة فأدرت له ظهرك، فأنت في الواقع لم تدر الظهر له، إنما أدرته لمن هو مسؤول عنك، ألا وهو الإمام الغائب، المتمثل اليوم بالمرجعية الدينية الحاضرة.

فما دخل الحلم في شيء إلا زانه، سواء كان المرء عالماً أم لم يكن، إذ إن أهم الصفات التي يُمتدح بها الإنسان أن يكون حليماً، والشواهد على ذلك كثيرة، لو أردت سردها لخرجنا عن حدود الوقت. سواء مع النبي (ص) وآله، أم مع العلماء والأتقياء والصالحين والأولياء.

4 ـ العطاء: فالنبي في آخر لحظة من لحظات حياته، لم يشأ أن يخرج من هذه الدنيا حتى يعطي الأمة هديها، فقال لمن حوله: «ايتوني بكتف، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً»([7]). وهذا ما يمثل قمة العطاء في آخر لحظات الحياة، وفي أشد المواقف حرجاً، إذ إنه كان في أشد حالات النزع، لكنه مع ذلك يأمر بكتف ودواة ليكتب لهم ما يعصمهم من الضلال، فلم يتخلَّ عن مسؤولياته الربانية، إلا أن الأمة بسوء تقديرها رفضت ذلك العطاء، ولو أنه كتب ذلك واتبعوه، لكان ذلك يوازي ما قدمه النبي (ص) خلال ثلاث وعشرين سنة.

فالأمة هي التي رفضت، واختارت لنفسها أن تحرم من ذلك العطاء الثرّ، وأن تنهل منه.

النصح لأئمة المسلمين:

والسؤال هنا: أين يقف رجال الدين اليوم من هذا المربع؟ في إخلاصهم وعلمهم وحلمهم وعطائهم؟ وكم هي النسبة المتوافرة؟ وهل هي نسبة مرضية مقنعة؟

لا شك أن المجتمع هو الذي يخلص إلى النتيجة، وهو الذي بيده أن يقدم أو يؤخر، وأن يضع ويرفع.

أيها الأحبة، من الشباب والأبناء والآباء والإخوة: المسؤولية ملقاة على المجتمع أكثر منها على رجل الدين، فرجل الدين لا يتحرك في وسط الأمة بصفة المعصوم، فربما يخطئ أو يخفق، فمن هو الرقيب عليه في هذه الفترة؟ إنهم أنتم يا أبناء الأمة، فأينما كنتم فأنتم مسؤولون عن رجال العلم؛ لأنهم إذا استشعروا أن المجتمع من ورائهم يتابعهم في جميع ما يقولون ـ لا على نحو التسقيط، إنما على نحو المتابعة التي يرفع من خلالها مقام العلم، ويحفظ رجال الدين ـ فلا شك أنهم يحسبون لذلك حسابه، وسوف تنحسر أخطاؤهم وتصحح، فما نريده هو التحسس لأوضاعهم، وليس التجسس عليهم، فو تحسسنا ارتقينا، أما إذا نشرنا روح التجسس فيما بيننا ضعنا، لأن التحسس بحثٌ عن الكمال، أما التجسس فإنه نزول إلى حالة النقص والعياذ بالله.

ولكن من هو الرقيب على هذه الشريحة التي تتصدر الأمة في جميع الميادين الدينية والاجتماعية والرياضية والثقافية والتجارية وغيرها؟

لا شك أن من حظ هذه البلاد (الأحساء) المحروسة بعين الله تعالى، أنها لم تخل في عقد من الزمن من رجال العلم، الذين هم أشبه ما يكونون بالنجوم في السماء دلالة لمن يمشي على وجه الأرض، قدس الله أرواح الماضين، وحفظ الموجودين منهم، وأمد في أعمارهم، ونفع بهم.

لكن السؤال: من هو الرقيب على رجل الدين، الذي يؤم الجماعة ويمارس النشاطات الدينية المختلفة؟ فالنفس الإنسانية معرضة للجموح والجنوح.

لا تخلو المسؤولية أن تقع على عاتق مجموعة من الأصناف في المجتمع، منها:

1 ـ عموم الناس، فعليهم أن ينهضوا بمسؤولياتهم، ولا يأخذهم في ذلك لومة لائم، فربما لا ترضي المراقبة والنصح أقرباء الإمام، لكن هذا ليس هو الملاك، إنما المهم في الأمر رضا الله تعالى.

2 ـ المؤسسة الدينية: وعلينا هنا أن نسأل أنفسنا: أين هي المؤسسة الدينية لكي نحملها المسؤولية؟ فإن وجدت تلك المؤسسة فهو المطلوب والمأمول، ونحن نساعد ونعين ونرغب أن تنهض بمسؤولياتها. وأما إذا نأت بنفسها عن الساحة ومتطلباتها، فعلينا أن نقرأ الفاتحة مبكراً عليها، لنحمل المسؤولية منها إلى مربعنا الأول، ألا وهو العامة من الناس، لا سيما الوجهاء، ومن سبروا الحياة.

3 ـ أن يكون الرقيب هو الله سبحانه وتعالى، فهدف رجل الدين عندما يأتي إلى المسجد، هو أن يصل بمن يصلي وراءه إلى ساحة المطلق، سواء كان في المسجد شخص واحد يأتم به، أم أنه اصطك من أوله إلى آخره، فهذا لا يقدم ولا يؤخر لديه، لأن الملاك هو القرب، وأن ينغمس المرء وينصهر في عالم الوحدة والوجود الخاص، أما عالم الكثرة فهذا لا يقدم ولا يرفع رصيداً للإنسان إلا في حدود دائرة الناس فقط، أما في عالم الموازين فلا قيمة لذلك، بل ربما يكون على العكس من ذلك.

يُذكر أن الشيخ عباس القمي ـ صاحب مفاتيح الجنان، الذي لا يخلو منه بيت، وما من مؤمن إلا ويتصفح هذا الكتاب ويقرأ فيه، ويتبتل به ـ انتقل من قم إلى مشهد، فقدَّمه علماء مشهد للصلاة جماعة في مسجد كوهر شاد، فعندما تقدم للصلاة ازداد عدد المصلين، وفي الأسبوع التالي امتلأت جنبات الجامع، ثم في الأسبوع التالي بات من العسير عليه أن يخترق الصفوف ليصل إلى المحراب.

وفي ليلة من الليالي جاء إلى لصلاة، وكان من عادته أن يمشي وهو مطأطئ الرأس، فلا يشعر بمن في المسجد، لكنه في تلك الليلة رفع رأسه وهو يدخل المسجد، رغبة منه في السلام على المولى ثامن الحجج (ع) فوقع بصره على المصلين خلفه، فرجع القهقرى، ورفض أن يؤم الجماعة، وقدم أقرب المقربين منه.

ولما سئل عن ذلك أجاب: عندما وقع بصري على المصلين، دخل في نفسي شيء، فرأيت أن ذلك يبعدني من الله سبحانه وتعالى.

هذا هو المعهود من العالم الرباني، أما في مجتمعاتنا اليوم، فإننا نجد أن هناك تسابقاً للمحراب، بل ربما يصل إلى الصراع.

وقد يرى المرء في نفسه أنه لو صلى خلفه مئة أو مئتان، أو ألف أو ألفان فإنه يصل مرحلة متميزة، لكن الحال على العكس من ذلك، فهذه كلها علامات مسجلة في رقبته وميزانه، ويوم القيامة سيكون هو المدافع عن الجماعة من خلفه، فلو أن أحداً كان في صلاته مشكلة، فإنه يجيب عندما يُسأل عن ذلك، بأن إمام الجماعة يتحمل المسؤولية.

فأين نحن اليوم من مثلث المراقبة: الناس، المؤسسة الدينية، ورب العالمين؟

ذكرى المرجع الكلبايكاني:

لا يفوتني بهذه المناسبة أن تحدث يسيراً عن ذكرى رحيل المرجع الديني آية الله العظمى السيد الكلبايكاني (رحمه الله)، وهو مرجع رجعت إليه الأمة في هذه البلاد في فترة من الزمن.

فهذا الرجل كان من بيت علم وتقى وورع وعبادة وصلاح وخدمة، وكانت مرجعيته متنورة، تمتد في عمقها وجذورها إلى رحيل السيد البروجردي إلى جوار ربه، حيث أصبح أحد المراجع الأربعة المعروفين في قم.

وقد كانت له اليد الطولى في حياض العلم والمعرفة، له كتاب اسمه درر الأصول، الذي قرر فيه أبحاث أستاذه الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه الله)، مؤسس الحوزة العلمية في قم، وهو كتاب لا يُستغنى عنه لأهل البحث والنظر والدقة في علم الأصول.

ولكي ننهل من تجربته، ونجسد ذلك فيما نحن فيه، تعالوا بنا إليه وهو ينقل قصة لطيفة حصلت في حياته.

كان له زميل درب في الدراسة وتحصيل العلم، ففتح الله تعالى على السيد ليصبح مرجعاً للطائفة، أما ذلك الرجل فقد كبت به فرسه، وتوقف في مرحلة من المراحل، لأنه لم يكن يحمل في داخله درجة الإخلاص التي كان يتمتع بها السيد الكلبايكاني.

ومرض ذلك الرجل يوماً، فزاره السيد في آخر أيامه، وقد اتفق أن يكون ذلك اليوم هو آخر أيامه من الدنيا، وأن يلفظ فيه أنفاسه الأخيرة. وكان مسجى والقرآن عند قدميه، فلما دخل السيد اندهش لهذا المشهد، واستنكر ذلك، فالقرآن في مثل هذه الحال وغيرها لا بد أن يوضع عند الرأس. فراح السيد يلاطفه، فتحركت في داخل الرجل حسيكة النفاق، فقال للسيد: أتذكر أننا كنا رفاق درب؟ قال: بلى. قال: وكنت متقدماً عليك، وكنت أحظى بحظوة عند السيد؟ قال السيد: بلى، واليوم؟ إنك اليوم مقبل على آخرتك وعوالمك الخاصة.

فالتفت إلى غلام إلى جانبه فقال له: ناولني القرآن، فناوله إياه، ففتح القرآن (وبصق) فيه. وهي كلمة يصعب تلفظها، لكنني أقولها، كي لا يغتر المغتر. ثم قال: لقد كنت سبباً رئيساً في إخفاقي أن لا أكون مرجعاً، ثم لفظ أنفاسه على هذه الخاتمة السيئة والعياذ بالله.  

ذكرى الشيخ الخليفة:

كما تمر في هذه الأيام ذكرى رحيل العم الشيخ حسين الخليفة (رحمه الله) ذلك الرجل الذي لا يستطيع أحد اليوم أن يقول: إنه لم يترك فراغاً وراءه، لأن فالفراغ واضح وجلي، فهنالك العشرات من الوكلاء، إلا أنهم لم يسدوا فراغه، وهنالك المئات من رجال الدين، لكنهم لم يغنوا عنه في قضية الهلال، وعلى هذه فقس ما سواها.

رجل في القرن من الزمن، إلا أنه يتصل بأصغر الناس عندما تنزل بهم النازلة، ويحضر في مجالسهم، يسليهم ويطيّب خواطرهم، فلا يقول: هذا غني، وهذا فقير، إنما كان يتعامل مع الجميع على أساس أن الواحد والآخر واحد، وهذه قيمة كبيرة له.

لماذا يختلف بعض العلماء مع بعضهم؟:

يقول السيد الإمام (قدس سره): لو اجتمع ألف نبيٍّ في مكان واحد لما وقع الخلاف بينهم.

فلنطبق هذه القاعدة على العلماء، فنقول: لو اجتمع ألف عالم في مكان، فهل يقع الاختلاف أو يحصل الاجتماع؟ يفترض أن يكون التعدد في رجال عامل خير وبركة، يجمع ولا يفرق، إذا كان منطلقه الإخلاص والرغبة في القرب من الله تعالى، فلو أننا وجدنا مجتمعاً مفككاً منحلاً، بسبب تعدد رجال الدين، وعدم وجود المشروع الواضح والرؤيا الثاقبة، فعلينا أن نراجع الحسابات ونعطي لمن له الحق أن يقدم أو يؤخر.

أما عن أسباب الاختلاف بين رجال الدين، فهي عديدة، منها:

1 ـ غياب العقل عند رجل الدين: فهناك من هو عالم، يحضر البحث الخارج، لكنه ليس له عقل اجتماعي، ولا عقل نظري، إنما هو كالببغاء، يُلقَّن ويتكلم.

يقول تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ([8]). فقد يكون العالم عالماً في مجاله، يقال له آية الله، أو حجة الإسلام والمسلمين، ولكن لا عقل له.

2 ـ الحسد: وهو داهية الدواهي، بل إن البعض قد لا يجد من يحسده، فيرجع إلى نفسه يحسدها. يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ([9]). والبغي فرع الحسد، وأثر من آثاره، وهو أشد منه، لأنه تعدٍّ للحدود إلى أبعد المسافات.

3 ـ الابتعاد عن دائرة الحق والحقيقة، المتمثلة بمحمد وآل محمد (ص). قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ([10]). فلا جماعة المرجع ولا المرجع الفلاني، كل هذا من التفرق المذموم، نعم، هذا يرجع لمرجع، وذاك يرجع لآخر، ولكن على نحو التأمين للتكاليف الشرعية، لا أن نجعل من المرجع رمزاً لإقصاء المرجع الآخر، فمراجعنا جميعاً يمثلون خطاً رسمه أهل البيت (ع) لنا، وهم رافد عذب، حيثما أتيناه وردنا منه، فهم يجمعون ولا يفرقون، وعلينا أن نسير بسيرهم، فنجمع ولا نفرق.

بل الأكثر من ذلك أن سماحة السيد المرجع السيستاني (حفظه الله وأدام ظله)، يتعدى دائرة المذهب الواحد إلى أبناء الإسلام قاطبة، فيقول: لا تقولوا: إخوتنا، قولوا: أنفسنا. فإن لم  نرتوِ من هذا الفرات العذب، لنروي ظمأنا، فمن أين يراد لنا أن نرتوي.

علينا إذن أن نرسم الخطوط الطويلة والعريضة، وأن نقترب من الآخر، وأن نتودد ونتحبب، ونسقط الكثير من الحواجز المصطنعة التي ليس لها في حساب الله شيء.

4 ـ عبث الأيادي الظالمة في وسط الأمة: فهنالك أيادٍ ظالمة تعبث بالمؤمنين، كما في قضية فرعون، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً([11]). وما فرعون إلا نموذج، وهنالك سيل جارف ممن يتسيدون واقع الأمة على هذه الشاكلة، فهم فراعنة مصغرون.

ومن الأيادي الظالمة أيدي المنافقين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْرًا وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾([12]). 

ومن اللطائف في هذه الآية الكريمة، أننا نختلف على الحسينية، وكذلك على مجلس الاستراحة، إلا أننا يفترض أن لا نختلف على المسجد، لذا فإنك عندما تسمع: هذا مسجد للشيعة، وذاك مسجد للسنة، فاعلم أن هذه حالة مرضية في أوساط المسلمين عامة. وكذلك عندما تسمع: هذا مسجد الحي الفلاني، وذلك مسجد الحي الفلاني، فاعلم أنها إشكالية في واقع المجتمع، فالمساجد لله سبحانه وتعالى، حتى ذلك الذي أنفق على إنشائها بالكامل، لا يملك من أمرها شيئاً، وليس من حقه أن يتقلب في جوانبها، إلا في مساحة ما يتقلب فيه المؤمنون عامة. نعم، إنه مسؤول عن الحفاظ عليها، وإصلاح أي إخلال في وضعها البنائي المادي، أو المعنوي، فعليه أن يتحرك ليدفع الغائلة.

 

وفي نهاية المطاف أختم حديثي بهذه المقطوعة للزهراء (ع):

رمقت   بطرفي  نجوم  السماء
وعدتُ   قليلاً   أعيش  الصفاء
أبرمج   عقلي   بسحر  الجمال
برفض   المسار   برفع  النداء
وجدت    النجوم    كعقد   تدلى
من اللطف أهدى أساس الضياء
هناك    عمدتُ    إلى    ربطه
بسر   الوجود   وأهل   الكساء
أصبت    المراد    الذي   دلني
لبيت    رفيع   جزيل   العطاء
به   النور   يسعى   لمن  رامه
يدير     المودة    حيث    يشاء
وحيث  تلاقت  أصول الحديث
تجسد    دوماً    ملاك    الولاء
بحيث    الملاك    الذي   عيده
يعم    البسيطة    عند   المساء
إليه   تمد   من   العرش   كفٌّ
تمضّيه    صكاً   ليوم   الجزاء
فهل  غير  فاطم  بنت  الرسول
إليها    ترد    فروض    الوفاء
فإن  رمت فوزاً بقرب الرسول
فصلّ     وسلم    ومُدَّ    الدعاء
تجد  كل  شيء  أردت  تقضّى
ولولا   البتول   لخاب  الـرجاء
  • Share on Facebook
  • Tweet
  • Post to Tumblr
  • Pin it
  • Add to Pocket
  • Submit to Reddit
  • Share on LinkedIn
  • Save to Pinboard
  • Send email