نص كلمة بعنوان:التقليد الممدوح والتقليد المذموم

نص كلمة بعنوان:التقليد الممدوح والتقليد المذموم

عدد الزوار: 658

2013-05-08

زهرة اللوتس ما فاحت شذاً
يوم مستها أكف الأنبياء

بينما الزهراء من أشذائها
أشرق الكون وجاء الأوصياء

يقول الحكيم في كتابه الكريم: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ([2]).

بارك الله لكم جميعاً ذكرى ميلاد الصديقة الكبرى، السيدة المرضية، الشهيدة الراضية، الزهراء بنت النبي محمد (ص).

يقول النبي (ص): «فاطمة مني»([3]). ويقول في حقها: «هي روحي التي بين جنبي»([4]). ويقول أيضاً: «فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني»([5]).

اللهم اجعلنا من المحبين لفاطمة (ع) والمنابذين لأعدائها.

على ضفاف الكوثر:

ما ذُكرت مفردة الكوثر إلا وفرضت الزهراء (ع) نفسها على المتحدث والمتلقي، وإن كان للمفردة في أحضان اللغة العربية معانٍ كثيرة.

وقد أسهم المفسرون في توسيع رقعة المستفاد من هذه المفردة، وربما يُحمَل ذلك العمل على الإثراء الفكري والعلمي والتحقيقي، وربما يُقرأ بقراءة أخرى، بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن تمييع معنى ذلك اللفظ يراد منه صرف المتبادر منه دالاً على ذات البضعة الطاهرة فاطمة بنت محمد (ص).

إننا لسنا ممن يحاكم على النوايا، ويفتش ما في القلوب، إنما نَكِلُ ذلك إلى يومٍ يُوفَّى فيه الإنسان ما عمل، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشرّ. فإن كان بمقدورنا في الدنيا أن نحمل على الخير ما استطعنا، فهو الوجه والأصل المقدَّم، أما إذا تعذر علينا ذلك، حاولنا أن نغضّ الطرف عنه قدر الإمكان والمستطاع. وأما إذا كشّر العدو المخاصِم أسنانه، وشحذ أظفاره في وجه الحقيقة، فعلى المرء أن يُظهر ما استودعه الله تعالى في داخله من علم، وإلا فسوف يكون ممن توعّده سبحانه وتعالى في يوم القيامة بالعذاب الأليم.

فالفخر الرازي، وهو أحد أئمة التفسير الكبار في المدرسة الأخرى، أجهد نفسه في تقصّي معنى هذه المفردة، وحاول أن يسبر غور كل مفردة، وأعطى لها معاني، على نحو الاجتهاد تارةً، وعلى ما هو المستفاد من نصوص أئمة اللغة تارة أخرى. إلا أن الجامع فيما بين تلك المعاني، والقاسم المشترك بين هذا التعدد والتنوع للمعاني المستفادة من لفظة (الكوثر) هو (الخير الكثير).

وعندما طرق المفسرون والباحثون والمحققون والمتحدثون باب هذا المعنى، ليستوضحوا المستفاد من الخير الكثير، قال جماعة: إنه يعني الرسالة التي جاء بها النبي محمد (ص) فهي خير كثير، حيث أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، ومن العمى إلى الهدى، فليس بعد الرسالة خير أعم وأشمل وأجمع من هذا المعطى.

وذهب جماعة إلى أن المراد هو الحوض الذي يقف عليه نبي الرحمة محمد (ص) يوم القيامة، ويسقي بيده كل وارد عليه من أمته، إلا جماعة يمنعها النبي (ص) الورود، ويمتنع أن يسقيها، وهو ما صرح به النص الذي يدلل على هذا حيث يقول: «أنا فَرَطُكُم([6]) على الحوض، ولَيُرفَعَنَّ رجالٌ منكم، ثم لَيَخْتَلِجَنَّ دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»([7]). 

وذهب جماعة آخرون في معنى الكوثر إلى أنه نهر في الجنة، ولنا أن نسأل هنا عن صفات ذلك النهر، والخصائص التي يتمتع بها، ليكون هو المعنى الأول والأخير المتبادر للذهن.

الزهراء (ع) نبعُ الكوثر:

وقد ذكر الفخر الرازي أن من المعاني التي سيقت هذه اللفظة من أجلها، فاطمة بنت محمد (ع) وعلى هذا القول أيضاً علماء الطائفة، رحم الله الماضين منهم، وأيد الله الباقين، فالكوثر فاطمة (ع)، وإن جعلها الفخر الرازي في المعنى الثالث من تلك المعاني التي أوردها.

ولكن، هل هناك مناسبة للجمع بين الخير الكثير وبين فاطمة (ع)؟ إنني أعتقد أن من أجلى المصاديق التي يمكن أن يُحمل عليها لفظ الخير الكثير هو فاطمة (ع). ويساعد على هذا أحد أمرين:

الأول: أن جماعة من مفسري العامة ذهبوا إلى أن سبب النزول كان في حق النبي (ص) عندما عيرته قريش بأنه أبتر، وكان المولود الذي بُشر به النبي (ص) بعد نزول هذه السورة هو الزهراء (ع) لأن أبناءه الذين سبقوا فاطمة (ع) من خديجة لحقوا بربهم، ومن هنا عيرته جماعة من قريش بأنه أبتر، ولم يكن المعيِّر هو العاص بن وائل فحسب، إنما كانوا جماعة ممن نذروا أنفسهم لمحاربة النبي (ص) ومنابذته ومنازلته والسعي لتصفيته، حيث كانوا يجتمعون فيما بينهم وينبزونه أنه أبتر، تعييراً له بذلك، إلا أن العاص كان الأكثر بروزاً فيما بينهم، لما كان يتمتع به من خصائص عند قومه من المشركين.

 الثاني: مناسبة الحكم للموضوع، فالعاص بن وائل يعير النبي (ص) أنه أبتر لا عقب له، والسورة المباركة تبشر النبي (ص) أن ثمة خيراً كثيراً ينتظره، وليس ذلك النبوة والرسالة، لأن نزول السورة كان بعد النبوة. فلا النهر في الجنة يقطع الطريق على العاص بن وائل، ولا الحوض يوم القيامة، إنما هو بشارة فقط تمثل إحدى مفردات الخير الكثير، ولا يمكن أن يكون جامعاً لكل المفردات. فالمفردة التي يمكن أن تكون جامعة للخير الكثير هي فاطمة (ع).

وقد أخذ النبي (ص) بأيدينا ـ ولله الحمد ـ لفك الإعضال في هذه المساحة، حيث قال: فاطمة مني. فبمقدورنا إذن أن نجمع معطى النبوة والرسالة في ذات فاطمة (ع)، أما أن نجعل النبوة والرسالة في الحوض، أو في نهر في الجنة، فلا سبيل إلى ذلك، ولا يساعد على ذلك ما يمكن أن يساعد. فيبقى المختار الأقرب والأوضح والأقرب والأسرع تبادراً لمفردة الكوثر، وما تعنيه سورة الكوثر حصراً، لا شريك لها فيه، هو البضعة الطاهرة السيدة الزهراء (ع) بنت النبي الأكرم محمد (ص).

قطوف من الكوثر:

وقد يسأل سائل: إذا جعلنا الكوثر فاطمة، وفاطمة هي الكوثر ـ وهو الحق ـ وإذا ما قلنا: إن الكوثر يعني فيما يعنيه (الكثرة)، فهل ثمة مصاديق لذلك؟

لا شك أن هناك مصاديق متكثرة ينطبق عليها نور السيدة الزهراء (ع) ولا ينحلّون إلا عن مكمن العظمة المستودع فيها، وهو السر المخزون في ذات البضعة الطاهرة (ع). وتتمثل تلك المصاديق بما يلي:

1 ـ الذرية الطيبة من نسل فاطمة (ع)، فنسلها على الأرض هو الأكثر كمّاً وعدداً، ويمكن أن ندّعي أنه الأكثر كيفاً أيضاً، سواء ضممنا إليهم الأئمة (ع) وهم الأنوار الطاهرة المشرقة بنور الإمامة، أم لا، فلا شك ولا ريب أن نسل فاطمة (ع) هو الأكثر ثراءً وغنىً وعلماً واستقامة وإشراقاً؛ لأن ما من نور أشرق على هذا الكون إلا من وجه فاطمة (ع). والذرية هي الامتداد الطبيعي للإنسان، سواء كان ولداً أو بنتاً، فالمرء يُحفظ في ولده كوجود جسدي في عالم الوجود والشهود والخارج الذي نتعاطاه. فالحسن (ع) ابن فاطمة (ع) وهي بنت النبي محمد (ص) وكذلك الحسين (ع) والسلالة الطاهرة التي تتفرع في أبناء كثيرون، يثبت كوكب الأرض بوجودهم.

ثم هنالك امتداد من نوع آخر، وهو امتداد لرسالة النبي (ص) ونحن ـ بحمد الله ـ  على طريق اختطته السماء، وبينت معالمه النبوة، وأخذ بأيدينا إليه الأئمة (ع)، طريق حافظ على وجودنا وثباتنا وبقائنا واستدامتنا فيه علماءُ أجلاء، كان البعض منهم من تلك السلسلة الطاهرة، والبعض الآخر ممن اقترب منهم.

2 ـ سلسلة الأئمة (ع) من الحسن والحسين (ع) ثم الأئمة واحداً بعد الآخر، حتى خاتم الأئمة والأوصياء الإمام الخلف المهدي من آل محمد (عج).

3 ـ العلماء والمصلحون من ذريتها، وهم من الكثرة بمكان، ولكن نُشرِّف أسماعنا، ونربي أرواحنا على طرف يسير من سير أولئك الأعلام الذين يضافون إلى الزهراء (ع)، في بعد الامتداد الجسدي، لأنهم من أبنائها السادة، وكذلك الامتداد الرسالي، لأنهم حملوا الأمانة، وكانوا أماناً لأهل الأرض، وأفضل من أنبياء بني إسرائيل، على حد التعبير النبوي الذي يؤكد ما للعالم من أهمية وقيمة وأساس في حركة المجتمع صوب الهدف.

فمن هؤلاء السيدان الشريفان المرتضى علم الهدى، وأخوه الرضي (رضوان الله عليهما) وهما من سلالة فاطمة (ع). وقد سُئل عنهما أحد العظماء: أي الرجلين أعلم، وأيهما أشعر؟  فقال: إن قلت: الرضي أشعر وأفقه فقد أصبت، وإن قلت المرتضى أشعر وأفقه فقد أصبت. أي أنه تعذر على ذلك العالم الجليل الكبير أن يُحدث مائزاً بين الشخصيتين الكبيرتين فيما امتازتا به من العلم والأدب، وهما من الكوثر، من نسل فاطمة (ع).

ومن هؤلاء أيضاً السيد محمد مهدي بحر العلوم، وهو رمز أصيلٌ ومؤصِّلٌ للكثير من الفتوحات الفقهية على الطائفة، كما أنه رجل نسك متعال جداً. وهو أحد الشُّعب التي تنحلّ عن ذلك الكوثر.

ثم السيد المير داماد، وهو رمز الحكمة والإشراق في مدرسة الفكر الإنساني. وقد عمد إلى مشربين، هما الإشراق والوراق، وامتاز فيهما، وتخرج على يديه من يمكن أن يدلَّل من خلاله على عظمته، وهو صدر المتألهين، صاحب الحكمة المتعالية، الذي طأطأ فلاسفة الغرب رؤوسهم إجلالاً لعلو مقامه.

ثم السيد المجدد الشيرازي، صاحب الفتوى الشهيرة، الذي استطاع أن يغرس بذور حوزة علمية في سامراء، وأول من شخص الخطر المحدق بضريح الإمامين العسكريين (ع)، قبل قرابة قرنين من الزمن، بينما بقيت الأمة تتلكأ في قراءة ما شخّص، وترتيب الأثر على ما أراد، حتى حصل ما حصل، وكلّنا سمع ورأى وتألم لما حدث، ولو أنهم امتثلوا أمره وتشخيصه لما حصل الذي حصل.

ومن خلال ذلك ندلل على أن علماء الأمة يرون بعين الله، وأن ثمة إشراقاً خاصاً من قبل الله سبحانه وتعالى في قلوبهم وعقولهم، يوصلهم إلى استكشاف ما وراء الأمور التي ربما يُتصور فيها الحاجز.

ومن هؤلاء السيد محمد كاظم اليزدي، صاحب العروة الوثقى، الذي خلّف رسالة عملية في مجلدين، وأشغل علماء الطائفة ومجتهديها بها منذ أبرزها إلى عالم الوجود في الحوزة العلمية حتى يومنا هذا، فما من فقيه كبُر أو كان في بدء مشواره إلا وهو بمسيس الحاجة أن يعرض نفسه على هذا الكتاب، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الرجل قد أمسك بأسباب الاستنباط في حالة لا تجارى، ونزل إلى الواقع العرفي المعاش في حالة لا يمكن أن يتمثلها الآخر.

أيها الأحبة: هنالك بعض الأمور السهلة في ظاهرها، إلا أنها ممتنعة على المرء إذا ما أراد أن يستنسخ نسخة ثانية، ومنها هذا الكتاب العظيم، لذلك السيد الكبير، وهو الآخر من ذرية فاطمة (ع) ومن الكوثر.

ثم إمام المجاهدين السيد محمد سعيد الحبوبي (رحمه الله)، الذي أدخل الرعب على بريطانيا صاحبة العرش والدولة العظمى، فقد أزعجهم وأربكهم وخلط الأوراق فيما بينهم، وهو فقيه وأديب ومجاهد ومفكر ومصلح، وهو نسمة طيبة طاهرة مصفاة من أريج الزهراء (ع).

ثم من عشتموه أو عاشه الكثير منكم، ألا وهو السيد الخوئي (قدس سره) زعيم الحوزة العلمية في عصره، والرجل الذي تخرّج على يديه الكثير الكثير من المجتهدين الذين أشرقت شموسهم بعد غيابه، ليتصدى الكثير منهم، من موقع اقتدار، للمرجعية في واقع الأمة.

ولو أردنا أن نقرأ السيد الخوئي (قدس سره) فعلينا أن نقرأه من خلال صبره، الذي حاكى فيه صبر أمه الزهراء (ع) حيث تحمّل الكثير الكثير.

ثم الإمام الشهيد السيد الصدر الأول (قدس سره) الرجل الأعجوبة في علمه وعبادته وجهاده وتحمله، حيث لاقى ربه مضرجاً بدم الكرامة، دم الشهادة، ليقف يوم القيامة بين يدي الزهراء (ع) وهو يبرز لوناً من ألوان الظلامة.

ثم السيد الإمام (قدس سره) الرجل العظيم الذي جدّد ونفث في الأمة روحاً من جديد، فاستطاعت من خلاله أن تعود إلى مواقعها الطبيعية. فقبل أن يتحرك الإمام ويحدث التغيير، لم يكن الحال كما هو عليه اليوم، وقد عاش بعضنا تلك الفترة وما تلاها بعد التغيير، حيث كانت المساجد لا تحظى بأكثر من عدد أصابع اليدين من المصلين، في أفضل التقادير، أما اليوم فمساجدنا عامرة بهذه الوجوه النيرة، وكم من أمثالكم في أكثر من موقع وموقع. فحسينياتنا باتت عامرة، وهذا يعني أن الناس رجعوا إلى ربهم من خلال بيوته، فالمساجد بيوت الله في أرضه، كما يعني أن المؤمنين رجعوا للأئمة (ع) من خلال أماكن الذكر في الحسينيات والمساجد.

أيها الأحبة: إن العظماء لا يعرفهم إلا العظماء، وإذا أردنا أن نتعرف علمائنا، فعلينا أن نسأل علماءنا، لأنهم الأعرف بدقائق الأمور.

شفاعة الزهراء (ع):

بعد هذه المقدمة الطويلة أسأل الله تعالى أن تكون نافعة لنا، وأن تمهد طريقنا نحو هدف سامٍ، وهو أن نسهل المهمة على الزهراء (ع) يوم تبحث عن الواحد منا في عرصات القيامة.

والبشرى لنا أن الزهراء (ع) سوف يُضرب لها ستار من نور، ثم تأتي على كرسي هو أشبه بعرش العظمة، ثم تنشد في ذلك الموقف ظلامتها وما جرى عليها، وهي أحداث طويلة عريضة. ولكم أن تتصوروا أنها لا يشغلها في ذلك الموقف شاغل إلا أنتم، يا من آمنتم بها واعتقدتم بحبها، وتفجعتم لما جرى عليها، وبكيتم في سبيلها، ورفعتم ظلامتها، وسافرتم بفكرها، وهاجرتم بعطائها، فهي تلتقطكم كما يلتقط الطير الحبَّ الجيد من الحب الرديء، ويا لها من كرامة!

تصوروا أنها تشير إلى الواحد منا بإصبع من نور، وإذا بالملائكة يأخذونه فيضعونه على الطريق، وقد فتحت أبواب الجنة. إنها كرامة عظيمة، لا تتطلب منا إلا أن نصبر، لأن الموالي مبتلى.

فقد دخل رجل على الإمام الصادق (ع) فقال له: والله إني لأحبكم أهل البيت. قال (ع): «فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه أسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدأ البلاء ثم بكم، وبنا يبدأ الرخاء ثم بكم»([8]).

التقليد الممدوح والمذموم:

إن الزهراء (ع) حذرتنا من أمر واحد، وهو التقليد على غير بصيرة، بل إن خروج الزهراء (ع) كان تمرداً على هذا الواقع المر، وهو تقليد الفرد لمثله، لا على هدى، إنما على ضلال وظلام.

يقول النبي (ص) في حق أهل البيت (ع) ومنهم الزهراء (ع): «هؤلاء أهل بيتي» ومع ذلك كله كان جزاؤها ما تعرفون.

إن القرآن الكريم يذم هذا الواقع، وحالة التقليد الأعمى فيقول: ﴿وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون‏([9]). ولا فرق فيما أنزل الله أن يكون قرآناً أو حديثاً على لسان النبي (ع) على نحو السنة المطهرة من حيث وجوب الاتباع.

فهناك من جلس مع النبي (ص) وسمع منه وتقلب بين يديه لكنه لم يعِ ولم يفهم. ونحن اليوم نعيش بين علماء وتحت منابر خطباء، لكننا لا نفقه أحياناً، ولا نريد أن نفقه في أحيان أخرى، فإن بلغتنا معلومة لم تصل حد الانكشاف التام، فعلينا أن لا نتركها تتحرك في داخلنا، وأن نسأل عنها من مصدرها، فهو أعرف بمعطياتها، لا أن نستجدي من فلان وفلان ليبين لنا معطيات تلك المفردة، التي ربما تكون قد صدرت في موقف معين، وقد تكون لها مستوجباتها التي يغفلها المتلقي والسامع، فيما يكون القائل على بصيرة بها.

فالآية الشريفة تردعنا عن التقليد الذي يصطدم مع الأسس والقيم، أما التقليد الذي لا يصطدم مع ذلك فهي تدفعنا باتجاهه.

فهناك إذن تقليدٌ إيجابي وآخر سلبي، والشريعة تدفع باتجاه الإيجابي، وتردعنا وتمنعنا من التقليد السلبي، وتنهانا أن نقع تحت طائلته.

لذا يؤصّل القرآن الكريم للتقليد الإيجابي بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ([10]). فنحن مدعوون للتقليد بناء على معطى هذه الآية، ولكن لنتقدم معها قليلاً.

فالتقليد: هو المتابعة أو محاكاة الغير في قول أو فعل. وهو على أربعة أقسام، لا ينبغي الخلط فيما بينها، لأنه يوقعنا في المهالك، وفرزها وترتيب الآثار على ما دعانا الشارع إليه، وهو التقليد الإيجابي، يجعلنا نخلص إلى النتيجة المنشودة، ألا وهي الفوز بصكّ الغفران والرحمة والتوجه إلى الجنان من كفِّ السيدة النوراء فاطمة الزهراء (ع) بنت النبي محمد (ص).

وأقسام التقليد المشار إليها هي:

1 ـ أن يقلد الجاهل جاهلاً مثله، ولهذا مصاديق كثيرة في المجتمع، فتجد من يتوجه بالسؤال عن مسألةٍ شرعيةٍ ما إلى جاهل مثله، وتجد الجاهل الآخر يجيبه؛ لأنه لا يدرك أنه جاهل. وكثير من السلوكيات والتصرفات الخارجية إنما هي وليدة هذا الواقع المرير، فالجاهل يأخذ من الجاهل حتى في الأحكام الشرعية، مع أن الله تعالى يقول: ﴿وَقِفُوْهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُوْلُوْنَ([11])، والسائل والمسؤول يدركان هذه الحقيقة، وسوف يسألان يوم القيامة عن الإفتاء بلا علم، وعن السؤال من غير أهل الذكر.

فهذا النوع من التقليد مرفوض بجميع أشكاله وصوره وميادينه. 

2 ـ تقليد العالم للعالم، فهذا مجتهد والآخر مثله: وهذا القسم موضع استفهام، فلمَ يُقلّدُ العالم عالماً مثله؟ إن هذا منشأ استنباط وتصحيح تكليف، فلا يجوز رجوع العالم لمثله. لذا نرى أن مشهور فتوى الفقهاء هو حرمة تقليد المجتهد للمجتهد، فلو ابتلي المجتهد بمسألة شرعية، لا يجوز له أن يرجع للرسالة العملية لمجتهد آخر كما يفعل سائر المكلفين، إنما يجب أن أن يذهب إلى مظانّ التكاليف الشرعية ويبذل الجهد قدر الإمكان، ليصل إلى حد القطع، بأن ما وصل إليه هو الحجة فيما بينه وبين الله تعالى يوم القيامة، بعد اليأس من الوصول إلى ما هو أكثر من ذلك.

3 ـ أن يقلد العالمُ الجاهلَ: أي رجوع من يمتلك الأهلية في بيان الحكم الشرعي إلى آخر لا يمتلكها، وفي هذا الفرض لا يمكن أن نعدّ هذا عالماً، حال كونه يرجع إلى من هو دونه. فهنالك حدود ومبانٍ وقواعد وأصول لا يمكن لأيٍّ كان أن يفرزها ليستنبط حكماً، إنما هو الفقيه الذي أسندت إليه المهمة.

ومع شديد الأسف، نجد لدى الفريقين العامة والخاصة لوناً من التقليد من العالم للجاهل، وذلك من خلال البطانة، فقد يتصور البعض أن البطانة تدير بعض الأمور في بلاط السلاطين فحسب، في حين قد تكون البطانة في بيت المرجع أو العالم نفسه، أو في بيت إمام الجماعة أو الوكيل الشرعي، لذا تجد أحياناً أن الوكيل الشرعي لا يستطيع أن يدبّر أبسط الأمور، رغم أنه على درجة عالية من القدرة العلمية والخبرة الاجتماعية والكفاءة، والسر في ذلك أنه أوكل أمره لجاهل من حوله، قد يكون من يقدِّم له ولضيوفه الشاي.

وهذه مشكلة لدى العامة، بل كارثة، وقد بدأت اليوم تتسلل ـ مع شديد الأسف ـ إلى بعض المواقع، ونسأل الله تعالى أن يحصّن بيوت المرجعية والعلماء وأئمة الجماعة والمأذونين الشرعيين في أي مكان كانوا، وكذلك الخطباء، الذين قد ينجرفون في التشخيص وراء من لا يملك القدرة في التشخيص. فقد تجد خطيباً يتهيأ للحديث في موضوع ما، لكنه قد يستجيب لفردٍ من أفراد المجلس يقترح عليه غيرَه. وهكذا يغرق ويُغرق غيره.

فلا بد للخطيب أن يكون مسؤولاً عما يقول وما يستنتج، وعن لسانه إذا ما انطلق في تراكيبة ومفرداته وتضميناته ونصب قرائنه.

فلو قلد العالم الجاهل وقعنا في إشكالية كبيرة.

4 ـ تقليد الجاهل بالتكليف، العالم الذي استطاع أن يبين الحكم الشرعي. ولا نعني بالجهل هنا مطلق الجهل، إنما نعني به الجهل باستنباط الأحكام الشرعية على نحو التفصيل. فلا ينبغي التحسس من هذه اللفظة، إذ العالم عندنا هو القادر على استنباط الحكم الشرعي من مظانّه الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ومن لا يمتلك تلك القدرة على الاستنباط فعليه أن يتقي الله، لا أن يجلس في المجالس فيفتي بغير علم. فلا بد من معرفة القرآن الكريم بمحكمه ومتشابهه وسائر علومه، وكذلك دراية الحديث بأسانيده ومتونه ورجالاته ودلالاته، وما إلى ذلك مما يدخل في عملية الاستنباط.

إن علمائنا لا يفتون إلا بعد جهد جهيد، وبعد عمل شاقّ في التتبع، فالفقيه يسهر الليالي الطوال كي يصل للحكم الشرعي، لأنه يدرك مع من يتعامل، ولأجل من. إنه يتعامل مع الله سبحانه وتعالى، ومن أجل نفسه، كي لا يضع حبل المشنقة حول عنقه، بأن يكون في معرض العقوبة الإلهية، وهو حبل ليس كالحبال، إنما هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً.

من هنا يُذكر عن السيد أبي الحسن الإصفهاني (رحمه الله) أنه إذا استفتي، وأراد أن يُمضي الاستفتاء ارتعشت يده، وسقط الخاتم من يده، وحصل ذلك منه أكثر من مرة. لكننا نرى البعض ممن لا يفقه أي طرفيه أطول، يفتي ويبين التشريعات والأحكام، وقد يوهم الآخرين أن هذا هو رأي المرجع وليس رأيه الخاص، لكنك لا تجد في الرسالة العملية عيناً ولا أثراً من ذلك.

إذن، تقليد الجاهل للعالم أمر طبيعي، والرسالة العملية موجودة، وكذلك المرجع ورجال الدين من وكلائه وغيرهم، ويمكن للمرء الرجوع إليهم وأخذ الحكم الشرعي من خلالهم.

كما أن التقليد في الأمور الدنيوية العامة أمر مستحسن، بمعنى الاستعانة بآراء الآخرين ومشورتهم، فقد ورد في الحديث: «ما ضلّ من استشار»([12]). ومن شاور الناس شاركهم في عقولهم، وأعقل الناس من جمع عقول الآخرين إلى عقله، لا أن يتفرد ويجعل من نفسه إمام الحكماء، وسيد البلغاء.

ولكن، من هو العالم الذي يجب أن نرجع إليه كي تبرأ ذممنا من عهدة التكليف الشرعي؟ إنه المجتهد الجامع للشرائط، فهو الذي يمكن أن يأخذ بأيدينا إلى ساحل النجاة.

ولا بد من التذكير بأمر مهم، وهو أن الرجوع للمرجع، كالسيد السيستاني (حفظه الله تعالى)، لا يعني أن الرجوع لغيره من المراجع باطل، فمن رجع لهذا المرجع لا شك أنه انتهج طريقاً، واعتمد أمارة أوصلته إلى ذلك، ومن رجع للآخر انتهج طريقاً وأمارة أخرى، وكل منهما مكلف بما انتهى إليه، وليس من حق أحد، ولا يجوز له شرعاً أن يسفّه أحلام الآخرين. فمن قلد مرجعاً وفق حجة وبيّنة شرعية، وبرهان قاطع، يستطيع أن يحتج به أمام الله تعالى، فهو معذور.

وإذا تميزت العناوين الأربعة في التقليد، فلا مجال بعدُ للخلط وافتعال الأزمات وتكذيب الآخرين ومحاربتهم وتسقيطهم، أما إذا اختلطت الأمور فلا يمكن أن نتخلص من هذه الغائلة والإشكالية، فالسبب في بقاء واستشراء هذه الحالة هو عدم وضوح الرؤية،   والضبابية التي تعمّي على أبصارنا، وتكسب أرواحنا في بعض الأحايين حالة من الظلمة، فلا نستطيع أن نستوضح الأمور من حولنا.

ومن أسباب ذلك أيضاً عدم وجود الرغبة الجادة في الشفافية فيما بيننا، فلو كان لديّ موقف من فلان من الناس، أو كان له موقف مني، فلا مانع من مصارحته، فليس هو الحجاج بن يوسف الثقفي، ولا غيره. ولو تكاشفنا فيما بيننا ـ وأعني بذلك المسلمين جميعاً ـ لما آلت الأمور إلى ما نحن فيه اليوم. تصوروا أن أغلى دم أرادته السماء أن يكون على وجه الأرض، وهو دم المسلم، أصبح اليوم أرخص ما عليها. وهذا كله من عمل أيدينا، فلا دم أغلى من دم الزهراء (ع) إلا أنه أريق في ولدها وذريتها، ولا زال إلى يومنا هذا يراق ويسفك. ورحم الله من قال:

قتل امرئ في غابة          جريمة لا تغتفر

وقتل شعب آمنٍ               جريمة فيها نظر

وكما استفتحت ببيتين من الشعر من نظمي، أختم بهذه الأبيات أيضاً:

 

 

 أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، وأن يتقبل الأعمال منا ومنكم، والحمد لله رب العالمين.  

 

هـكـذا قد خط كفي
بيت شعر في البتول
فـهـي سرُّ الله فينا
في صعود أو نزول
أشرقت كالشمس كوناً
وبـهـا جاز الحلول
هـي نـور الله حقاً
ولـهـا طـه يقول
أنـتِ مـني يا بتولاً
بُـتلت عنها العقول
مـا عسى أكتب فيها
بـعـد هـذا وأقول
غـير أن الحق نادى
معلناً فرض الوصول
أيـهـا الأكوان طُرّاً
طاعتي عند الرسول
فـلـيـصلِّ كل فردٍ
رامـها باسم البتول