نص كلمة بعنوان:الإمام العسكري عليه السلام ودوره في التمهيد لغيبة الإمام المنتظر

نص كلمة بعنوان:الإمام العسكري عليه السلام ودوره في التمهيد لغيبة الإمام المنتظر

عدد الزوار: 545

2013-01-27

تعتبر الفترة الزمنية التي عاشها الإمام العسكري (ع) من أشد الفترات على أهل بيت النبوة، وأكثرها صعوبة وحرجاً، والسبب في ذلك يعود إلى ترقّب الدولة العباسية لمولد الخلف الهادي من أهل بيت النبوة (عج) الذي كانت الدولة العباسية تخشى ميلاده، وما يترتب عليه من آثار، وكان أقرب المتضررين هم أركان تلك الدولة، لذا ضيّقوا الخناق، وشددوا على أتباع مدرسة أهل البيت (ع) بصفة عامة، أما أهل البيت (ع) فكان الأمر فيهم أشد ضيقاً وتضييقاً وحرجاً.

وقد مهد الإمام الهادي (ع) لدور ما بعد الحسن العسكري (ع)، عندما عمد إلى إخفاء ابنه الإمام العسكري (ع) عن أنظار شيعته بين الفينة والأخرى، ليألفَ أتباعُ مدرسة أهل البيت (ع) ظروف الغيبة التي لا بد منها، لأنها من الأمور الحتمية التي أمضتها السماء، فهو قدرٌ لا بد من تحققه، وهو يعني ـ فيما يعنيه ـ أن تدخل الأمة في امتحان صعب وحرج، لذا لم يغفل الأئمة (ع)، لا سيما الإمام الهادي (ع) في تلك المرحلة، عن صعوبة القادم، وأن أسلوباً من التحصين لا بد أن يُنتهج، في سبيل أن تسير القافلة نحو الهدف المرسوم لها.

أما الإمام العسكري (ع) فمع أنه خضع لهذه الممارسة من الإمام الهادي (ع) في التغييب تمهيداً للغيبة الصغرى للخلف الباقي، ثم الغيبة الكبرى التي تكون بعد مرحلتين من التهيئة والتوطئة لها، إلا أن ما ترشح عنه في أبواب العلوم كان فيضاً لا حدَّ له، وفيه مدٌّ لا جزر فيه، خصوصاً في جانب التفسير، الذي يشكل حاجة ماسة في الوسط الإسلامي آنذاك، وذلك لسببين:

1 ـ النقص الواضح والبيّن في الروايات التي تؤمّن عطاءً في هذا الجانب.

2 ـ ما ترتب على فتنة خلق القرآن من إشكاليات، بحيث نأى الكثير بأنفسهم عن ذلك الباب، وولج فيه آخرون، ولم يسلم الأول منهم ولا الثاني.

كانت الأجواء بهذا الشكل، وكان المجتمع مزيجاً من عرب وغيرهم، فالعرب بعنصرهم وخصائصهم، والفرس كذلك، والروم مثلهم، وهم المتمثلون بالمد التركي الذي بات يتحكم بمفاصل الدولة العباسية، وبالتالي أجهزوا على المتوكل وغيره، ثم المد الشمالي الذي جاء من المغرب وتوابعها.

كل هذا النسيج كان له بناء وتكوين وتشكّل وخصائص تمازجت فيما بينها. والإمام (ع) باعتباره إماماً لطائفة تشكل النسبة الثانية بين مجموع الطوائف من حيث العدد، كان من المتحتِّم أن يقوم بدور كبير.

فكان من معالم نهوضه الدفاع عن القرآن الكريم، وبيان أسباب النزول، وكشف حقائق بعض الآيات. وفي تفسيره للقرآن الكريم يمكن للمرء أن يهتدي إلى مجموعة من المفردات المقفلة التي لولاه لبقيت على ما هي عليه.

الرقابة بين الملقي والمتلقي:

كما أنه استطاع أن يبني جيلاً يعي ما يقوله الإمام (ع) ، وهذه المسألة لا ترتبط بتلك المرحلة فقط ثم تنتهي، إنما يفترض أن تكون الأذنُ الواعيةُ حاضرةً في جميع الساحات والأزمنة، لأن نقل المعلومة، وبيان المفردة، إنما يشترك فيه طرفان: الملقي والمتلقي، فإن وضعنا حاجزاً بين الملقي والمتلقي ترتب على ذلك أثرٌ سلبي كامل. فعلى الملقي أن يقترب من المتلقي، كما أن على المتلقي أن يكون حاضراً حضوراً تاماً، ليكون على مسافة قريبة من الملقي.

ويترتب على ذلك أمور:

1 ـ شعور الملقي بالرقابة من قبل المتلقي، وفي هذا فائدة كبيرة لكليهما.

2 ـ دفع المتلقي للملقي أن يثبت الأقوال التي يصدح بها هنا ويلقيها هناك، وهي مهمة كبيرة جداً. 

3 ـ كشف الأوراق بين يدي الملقي، ليتعامل على أساس الأرض المكشوفة، والمساحة المعروفة، أما إذا كان الملقي لا يعرف مفردات المجتمع بين يديه، فمما لا شك فيه أن الموازنة بين ما يقال وما يسمع، أو ما يقال وما يراد أن يقال، ستكون صعبة، والمسافة واسعة، وضرائبها كبيرة.

إن دور الرقابة المتبادل بين الاثنين أمر مهم، يتعاون عليه الطرفان. فمن باب المثال، لو أن شخصاً دخل بلداً ما، وأريد منه أن يقرأ في أيام عشرة محرم، فإما أن ينطلق من إملاءاتٍ خاصة، وقراءات رتب أوراقها مسبقاً بنفسه، أو أن تكون هناك مسافة قريبة يلتقي عليها الطرفان، وهذا يعني فيما يعنيه، أن تكون الخطوط أو العناوين العامة موكلة للناس، الذين يقومون بإعدادها والإرشاد إلى عناصر بحثها، بحيث تتماشى وحاجة المجتمع الذي هو فيه.

من هنا نلاحظ أن الأئمة (ع) تعددت أدوارهم، بناء على حاجة المتلقي، فهدف الإمام علي (ع) هو هدف الإمام الهادي (ع) وهدف الإمام الباقر (ع) هو هدف الإمام الكاظم (ع) إلا أن الوسيلة تختلف من إمام لآخر، فما كان يقوله الإمام علي (ع) ربما كان متعذراً على الإمام الجواد (ع) لكنه غير متعذر على من جاء بعده.

والدرس الذي نستفيده من ذلك، وهو ضرورة لا بد منها، هو أن يعيش المتلقي حالة من الرقابة الصارمة على ما يقال، لأن المرحلة لا تساعد على أقل من ذلك، فلم نعُد اليوم كما كنا بالأمس، فنحن نتحدث في مدينة كبيرة، وفضاء مفتوح، والكل يلتقط الكلام، ويرتب عليه الآثار.

وما أريد أن أقوله هنا أن الملقي ربما يغيب عنه المشهد، أو جزء منه، وبيان حدود المشهد بما له من الخصائص هي مسؤولية المتلقي، وهو اليوم بحمد الله تعالى بات على درجة عالية من الفهم والإدراك والتوجه، بل إن حساسية الذهن لديه اليوم، ليست كما كانت بالأمس، بل ندعي أكثر من ذلك، وهو أن الفرد المؤمن تقدم بذهنيته من حيث الحساسية إلى الوقوف عند الحروف، ناهيك عن الكلمات، وهذه حالة صحية نحمد الله تعالى عليها، ولا يخافها إلا من لديه نقص، ومن هذا شأنه لا شك أنه يخشى رقابة المجتمع المتلقي من حوله، أما من يكون كاملاً نسبياً، أو يسعى للكمال، ويجد أن جزء علل الكمال لدى المتلقي، فإنه متى ما قدم له المتلقي نصيحة أو إرشاداً بناءً، فلا شك أن قيمة ذلك المتلقي سوف تكتمل في ذهن الملقي، ويصبح ما يقوله مقبولاً منه.

الإمام العسكري (ع) يواجه التضليل:

كان الفيلسوف الكندي صاحب ذهنية متقدمة، فقد درس الفلسفة، والكشف عن الحقيقة، ووصل إلى مقام كبير. ثم طرق سمعه بعض الآيات القرآنية، من قبيل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ([3]) من جهة، وقوله تعالى من جهة أخرى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيْهِمْ([4])، فعلقت الشبهة في ذهنه أن هناك تعارضاً وتناقضاً في القرآن الكريم. فلم يذهب مع مفردة اليد مثلاً إلى ما وراء مُعطى اللغة على نحو التبادر الأولي.

وهذه ـ أيها الأحبة ـ كارثة، بأن يستمع الإنسان إلى مفردة، ثم لا يسبر غورها، أو يبترها عما تقدمها وما تلاها، أو يلبسها حالة من الضبابية فسوف يدخل في إشكال، فمن حق الإنسان أن يستشكل ويستوضح، ولكن بشرط أن لا يترك المساحة لذلك الدخيل ليتفاعل في نفسه، بحيث يبتعد عن طلب الحقيقة.

وكان الفيلسوف الكندي ممن خضع لتلك الحالة مع شديد الأسف، وتمكن منه ذلك الدخيل، فظن أنه قمة علمية كبيرة، وأنه فيلسوف الإسلام، فعزم أن يجمع ما على شاكلة الآيتين المذكورتين، وظن أنه عثر على تناقضات القرآن. فأعلن تعطيل الدرس، وجلس في بيته وعكف على جمع المتفرقات والمجتمعات في هذا الجانب، بحسب إدراكه واستنتاجه العقلي.

وكان أحد أصحب الكندي يتردد على الإمام العسكري (ع) فبادره الإمام (ع) قائلاً: «أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن‏؟

وهنا لا بد من الإشارة إلى علم الإمام (ع) باعتبار أنه كان هو المبادر بالسؤال، فعلم الإمام لا يخلو من اثنين: إما روى أبي عن جدي، أو إلهام من الله تعالى، فليست هناك تلمذة طبيعية على يد أحد، ولا يستطيع أحدٌ أن يثبّت أن أحد أئمتنا تتلمذ على يد أحد من الناس، ولو كان ذلك موجوداً لتفاخروا وتباهوا به. كما أن ما جاؤوا به من خوارق العادات في كثير من المواطن يؤكد أنهم لم يأخذوا علمهم إلا عن الله ورسوله.

فلما سأل الإمام ذلك الرجل عن الكندي، أجابه أنه منصرف لجمع متناقضات القرآن، فقال الإمام (ع): «فصِرْ إليه، وتلطف في مؤانسته([5]) ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت المؤانسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك. فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك، لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعاً لغير معانيه([6])؟!‏

هذا هو المنطق السليم في التعامل مع القضايا ومنها معاني القرآن الكريم والمراد منه، فليس هناك من واسطة مباشرة بين هذا الفيلسوف والمصدر الذي صدر منه القرآن، فلا يمكن أن يحمله المعاني التي فهمها هو، وأن يجزم بكونها هي المراد، لا سيما أن القرآن حمّال ذو وجوه، كما يقول أئمتنا (ع).

فلما وصل هذا الكلام إلى الكندي انتبه له وتفكر فيه، وقال: أعد عليَّ، فلما أعاد عليه ذلك، رأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، ثم سأل ذلك الرجل قائلاً: أقسمتُ عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شي‏ء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرِّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت.

ثم إنه دعا بالنار، وأحرق جميع ما كان ألفه([7]).

أنظر إلى هذه الحالة من الرقابة، ومن تسخير الواسطة الواعية، كيف تفعل فعلها، بحيث كبحت جماح الرجل عن مشروع كبير، لو كتب له أن يتم لعصف بالمجتمع، على الأقل في تلك المرحلة.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.