نص كلمة بعنوان:الإمام الصادق ماذا أراد وما الذي تحقق

نص كلمة بعنوان:الإمام الصادق ماذا أراد وما الذي تحقق

عدد الزوار: 957

2016-12-31

كلمة في خميسية أبو عبدالمنعم الحبابي

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أيامنا وأيامكم في ذكرى المولدين السعيدين، نبي الرحمة الحبيب المصطفى محمد (ص) وحفيده الإمام الصادق (ع) رزقنا الله وإياكم في الدنيا زيارتهم، وفي الآخرة شفاعتهم، وأعاد الله علينا وعليكم المناسبة نحن وأنتم والأمة قاطبة، بل الإنسانية قاطبة في أحسن ما ترغب إليه وفيه.

الشمولية والانفتاح:

الإمام الصادق (ع) ماذا أراد؟ وما الذي تحقق؟

الحديث الشريف عنه (ع): «معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً. قولوا للناس حسناً. احفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول»([1]).

وعنه (ع) أيضاً: «رحم الله عبداً حببنا إلى الناس ولم يبغِّضنا إليهم»([2]).

الفاصلة بيننا وبين الإمام جعفر بن محمد (ع) قرون، لكن إشراقات نوره وعطائه لا زالت تملأ الكون في جميع جهاته، لأنه وإن استخدم بعض المفردات الدالة على بعض التشكلات خارجاً، إلا أنه استخدم أيضاً مجموعة من المفردات السيارة التي لها القدرة على الانبساط في أكثر من مساحة ومساحة.

فقد استخدم مفردة (الإسلام) وهي مفردة فيها شمول ودائرة أوسع من مفردة (شيعة) ومن خطاب موجه منه لشيعته. كما أنه استخدم مفردة (الإنسان) وهي الأكثر شمولاً وسعة لأن محمداً وآل محمد، إنما بعث منهم من بعث، ونصب للإمامة من نصب، للإنسان بما هو إنسان، لا لأن يحدَّد المعصوم من خلال الجهة التي اعتقدت فيه. لذلك نحن عندما نسافر بفكر محمد وآل محمد (ع) لا بد لنا من فك حالة السر التي قُيِّدَت بها مدرستهم، مدرسة الإسلام الخالدة.

إن الإضافات دائماً وأبداً تضيّق دائرة المفهوم، وتوجد حالة من الربط، على أساس منه تضيق الحركة من قبل ذلك المضاف إلى ما أضيف إليه. لكن الإسلام باعتباره الرسالة الخالدة، وباعتبار النبي وآل النبي (ع) هم الأمناء على هذا الدين، وحيث إنه الخاتمة للرسالات السماوية الموجهة إلى عالم الأرض، لا بد أن يأخذ مساحته بعيداً عن حالات الإضافة التي نعيشها، فأنا المسلم المضاف لهذا الدين علي أن أسافر به على أنه يخاطب الإنسان بما هو إنسان، حتى يأخذ الإسلام مساحته الطبيعية التي أرادته السماء له.

والأمر كذلك في الإضافات إلى المذهبيات، إذ يستدعينا أن نحلّق خارج هذا الظرف في جميع الفضاءات من حولنا. والإمام الصادق (ع) هو أول من يأخذ بأيدينا لهذا الفضاء، حيث إن مدرسته كانت الأشمل والأكثر رعاية لجميع ألوان الطيف من حوله.

ظروف وحيثيات نشوء المذاهب:

ربما يتصور البعض أن المذاهب الأربعة التي جاءت بعد الإمام الصادق (ع) أو معاصرة له لم تكن مسبوقة بحركات مذهبية وفكرية، وفي هذا إخفاقة كبيرة في القراءات. فمنذ أن توفي النبي (ص) وعرجت روحه إلى الملكوت الأعلى انشق الصف الإسلامي، وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهنا بدأت الإضافات تلقي بظلالها على بعض المساحات، غير أنها لم تكن تأخذ مدىً واسعاً، على العكس من ذلك بعد فترة عقود من الزمن، إذ بدأت تتسع رقعتها، ويظهر الحراك المذهبي. والمذهب يعني التوجه والطريقة، فالخوارج أصحاب مذهب، بل حتى السقيفة كانت تشكّل مذهباً، والكيسانية والزيدية كلها كانت مذاهب سبقت الإمام الصادق (ع).

ومما لا شك فيه أن الإمام علياً (ع) عندما انتقل من المدينة إلى الكوفة، أحدث نقلة نوعية بما تحمل الكلمة من معنى، فهو بانتقاله للكوفة لم يدر ظهره للمدينة المنورة العاصمة الأم للدولة الإسلامية، إنما كانت محط نظره. والتاريخ لا ينصفنا في هذه المرحلة ولا يعطينا ما نستحق في ما قدمه علي (ع) من جهد فيما يتعلق بالمدينة المنورة. فالمدينة المنورة مغيبة إلى اليوم وبشكل غير طبيعي عن تشكيل المنظومة بأكمله، حال أنها تمثل حجر الأساس في بناء هذا المذهب الشريف الذي نتبعه ونسير عليه.

فالمدينة المنورة لها خصائصها المميزة، فهي عاصمة الإسلام الأولى وفيها المحدثون الذين سمعوا من النبي (ص) مباشرةً، ومدرسة الحديث لا يمكن أن تلغى بأي وجه من الوجوه، فقد قيدها الخليفة الثاني في حياته، إلا أنها بعد مقتله نفضت الغبار عن ثيابها، وبدأ أصحاب النبي (ص) ممن سمعوا منه يذيعون بعض تلك النصوص التي تلقوها عنه بالمباشرة دون واسطة، أما من لم يسعفه الزمن أن يعيش في دائرة الحضور للنبي (ص) وهي الطبقة التي يعبر عنها بالتابعين، فهؤلاء بدأوا يتهجّون الحروف الأولى في مدرستهم، ويشكلون نواةً هامة لها انعكاسها القوي على البناء الفكري في منظومة الإسلام في جميع تشكلاته التاريخية والتفسيرية والفقهية وحتى الرجالية، وعلى أساسها جاء تاريخ الحروب.

لقد أراد الإمام علي (ع) أن يجعل من الكوفة منارة علم ومعرفة وأن يفرغ فيها من العلوم ما تلقاه عن النبي (ص) الذي قال فيه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»([3]). وأراد أن يدخل الأمة برمتها من هذا الباب لمدينة الرسول، وكان هذا الباب قد أغلق لمدة ربع قرن من الزمن، فسعى إلى أن يفتحه على مصراعيه، وبطبيعة الحال أنه لم يتسنَّ له ذلك، إذ وقعت الحرب الأولى في البصرة وهي معركة الجمل، وما كاد يلملم جراح الكوفة لينصب منبره في مسجدها الأعظم، إلا وأدخل في حرب ثانية، كي يشغل عن الهدف الأسمى.

وكانت مدرسة الصحابة في المدينة المنورة أعلى كعباً، وأقوى على تحريك المناخ من حولها وفي داخلها، أما في الكوفة فالأمر مختلف تماماً، إذ يفترض أن يكون مؤاتياً من جميع حيثياته، إلا أن معركة الجمل كان لها انعكاسها السلبي على المشهد الكوفي، فالباب الذي أراد له الإمام علي (ع) أن يفتح على مصراعيه بالكاد استطاع أن يفتح منه كوةً صغيرة أبصر منها بعضُ الراغبين في العلم والمعرفة والسمو والرفعة الهدي والنور.

وما إن فتحت تلك الكوة حتى وقعت حرب صفين، التي كانت أصعب من معركة الجمل، فالأولى كان طابعها دينياً صرفاً، أما الثانية فقد مزجت بين الدين والسياسة، واختلط الملفان، وتعتبر الحرب الأولى التي يبرز فيها العنصر السياسي، وبطبيعة الجال أن إرهاصات الملف الديني بحد ذاتها كانت كافية أن تجهض كل مشروع يراد له النجاح، خصوصاً إذا كان يؤسس لمرحلة متقدمة، فكيف لو أضيف إليه ملف في منتهى التعقيد، والقائم عليه معاوية؟ وهو ابن أبي سفيان، رأس الشرك في مكة المكرمة قبل الفتح، ومعاوية لديه من التجربة والخبرة ما يكفي، كما أنه واحد من دهاة العرب، وقد ساعده أمر ثالث على ذلك وهو أن الضابطة لم تكن موجودة لديه، فليس لمعاوية مقيِّد أن يستخدم الدهاء في أكثر الأمور سوءاً. لذلك ندّت عنه كلمات معروفة ومشهورة تركت أثراً واضحاً، وصفّي على أساسها الكثير من الرموز، من حملة العلم عن رسول الله (ص) مباشرة أو بالواسطة، من صحابة وتابعين.

وأخطر ما قام به معاوية إبان خلافته هو تصفية الصف الأول من صحابة النبي (ص) ووضع حجر الأساس لتصفية الصف الثاني منهم، فقرّب من أمكن أن يقرَّب منهم بالعطاء، وتخلص ممن لا جدوى معه في الاستمالة، وكان من جنوده (العسل) كما أثر عنه.

وفي صفين بدأت المشكلة بالانشقاق عن علي (ع) ودخل في معركة النهروان، ودواعش اليوم هم أبناء تلك المدرسة ومن تلك السلالة وثمرة من ذلك الغرس.

ثم رجع أمير المؤمنين (ع) إلى الكوفة وهي مهلهلة وممزقة ومنهارة. فالإمام علي (ع) لم يُشتم في الشام فقط كما يتصور البعض، إنما كان يشتم حتى في داخل الكوفة، فكانت بعض النساء تقول له: قتلت ولدي، قتلك الله، حال أن القاتل معاوية.

ورغم ذلك اعتلى علي (ع) منبر الكوفة، وصلى بهم الجمعة والجماعة، وبث بعض العلوم والمعارف، فكان يقاطَع أثناء كلامه، ويُشغل ويعترض عليه بما لا منطق فيه، فكان الأهم لدى هؤلاء أن يُشغل علي (ع) كي لا يفضي ببعض الأسرار التي حملها عن النبي الأعظم محمد (ص).

وبالنتيجة تمت تصفية علي (ع) بعد المؤامرة التي حيكت في بيت الله الحرام! وتصوروا أن الخليفة الراشد الرابع بناء على مدرسة المسلمين العامة، والإمام الأول المنصب من قبل الله تعالى بناء على مدرسة الخاصة، تحاك المؤامرة عليه في ليلة من ليالي شهر رمضان في بيت الله الحرام! هذا هو حال الأمة وواقعها.

كان الإمام علي (ع) يرتقي منبر الكوفة فيقول: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فأنا أعرف بها من طرق الأرض. فيقوم إليه أحدهم وهو يقول: كم شعرة في رأسي؟!.

كان علي (ع) يريد أن يغزو بهم الفضاء، ولكن ليس فضاء المركبات اليوم، إنما يريد توسيع آفاقهم المعرفية.

كان في الكوفة مساجد، فمن هم أئمتها؟ ولماذا بنيت واستحدثت؟ فهناك مسجد يؤم به الجماعة شَبَث بن رَبْعي، وآخر شمر بن ذي الجوشن، وهكذا كان حال الكوفة، فالدم يرخص فيها في سبيل من تحب، كما أنها مفرطة في الاتجاه الآخر في بغضها، فهي تنصر وتقتل.

وباعتبار الطابع العام في عنوانه المتسامح فيه بدأت المذهبية والحراك المذهبي، فنجد أن الإمام علياً (ع) يُقتل وينصب الإمام الحسن (ع) خليفة على المسلمين عامة، كخليفة راشد خامس، لكن محمد بن الحنفية ينفرد به قوم، فيكون مساراً جديداً في الإمامة، يعبر عنه بالكيسانية.

وإلى عهد قريب، حتى عندما كنا ندرس في الحوزة العلمية كان يقال لنا: إن الكيسانية انقرضت وبادت ولا وجود لها، ولكن تبين لنا أنها موجودة، ولها أتباعها، فربما تحركوا في خفاء، وربما في فضاء مفتوح. وهم يحركون بعض الأوراق ويقلبون بعض الملفات. وبطبيعة الحال أن لمدرسة الكيسانية أتباعها وأعوانها وأنصارها وفكرها الخاص.

في مثل تلك الأجواء جاء الإمام الصادق (ع) فأراد أن ينتشل الأمة من ذلك الوضع المرير، فبعد مقتل الإمام علي (ع) وصلح الإمام الحسن (ع) ذهبت الأمة شذر مذر، ولم تعد تصغي لقول كبير، لأن الكبير أُقصي ونُحّي. بل كان مهدداً بالتسليم لمعاوية أسيراً، أو بقتله وبعث رأسه لمعاوية.

أبرز مميزات مدرسة الإمام الصادق (ع):

من هنا جاء الإمام الصادق (ع) ليضع حجر الأساس القوي لتدعيم مسار فكر علي (ع) ومدرسة أهل البيت (ع). وقد تمتعت مدرسته بالعديد من المميزات، أذكر جانباً منها على نحو الفهرسة والاختصار والدمج بين بعضها:

1 ـ اعتماد القرآن الكريم ركيزة أولى في مدرسته: لذلك أشبع الجانب التفسيري والجانب البياني لمفردات القرآن، فهنالك ثراء كبير في هذا الجانب.

2 ـ الاعتناء بالجانب العقدي (الكلامي): باعتبار أن مجموعة من المدارس أيضاً في الطرف الآخر فغرت فاغرتها، وشط آخرون، وبدأ مسار الزندقة يفرض وجوده في بعضه المربعات. فتولى الإمام الصادق (ع) سد الثغرات.

3 ـ اعتماد السنة المطهرة: إذ جعل منها وسيلة موصلة لاستكشاف مكنون الآيات القرآنية، وهذا أيضاً مسار أعطاه الإمام الصادق (ع) العناية الفائقة، وكان له انعكاسه الكبير، إذ لم يكن معهوداً من قبل بهذه الطريقة وهذا العمق والتركيز.

4 ـ الانفتاح: ففي تعامله مع أسوأ الشرائح في ذلك المجتمع (وهم  الزنادقة) لم يكن منطوياً على نفسه أو نابذاً لهم، بل كان يقربهم ويتبسط لهم بالكلام، لأن القاعدة فيما فيه المصلحة أن الجمع أولى من الطرح ما أمكن، فلو دار الأمر بين أن أفرط بفلان أو أحافظ عليه، أقدم الحفاظ عليه أولاً. ولو دار بين أن أكسب في القضية ما نسبته خمسون في المئة أو خمس وعشرون في المئة لا بد أن أقدم النسبة الأعلى. وهذا هو منطق العقل قبل أن يكون منطق الدين.

فالإمام الصادق (ع) جمع جميع ألوان الطيف من أتباع المدارس المتقدمة عليه، من أنصار خط الصحابة والتابعين أو أتباع علي بن أبي طالب الخلّص.

أين نحن من جعفر الصادق (ع)؟

وبنظرة بسيطة لواقعنا اليوم، واستحضاراً لما بدأت به الكلام من قوله (ع): كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً. وقوله (ع): «رحم الله عبداً حببنا إلى الناس ولم يبغِّضنا إليهم» نسأل أنفسنا: هل يتوافق هذا مع منطق الإمام الصادق (ع)؟ وهل أن ما نقوم به اليوم في فضائنا الشيعي يجسد كلام الإمام الصادق (ع)؟ أو أنه في الاتجاه المعاكس لكلامه؟

عندما كنت في مانشستر في بريطانيا قلت لهم الكلمة التالية: إننا استبدلنا جعفر بن محمد بمرجعي ومرجعك ومرجع فلان، ونسينا أننا أتباع محمد (ص)، وصار الواحد منا ينبذ الآخر بسبب تقليده، حال أن التقليد طريق للتخلص من عهدة التكليف الشرعي فقط. فالمرجع لا يدخل قبري، ولا يدافع عني يوم القيامة، إنما يدافع عني عملي، ويشفع فيّ محمد وآل محمد (ص).

إنه مهما حصل من الخلاف وعدم التوافق ـ وهو أمر طبيعي في البشر ـ فلا يشكل مانعاً من التعاون، فسلائقنا العلمية تختلف، وقدراتنا الفكرية والعلمية والأدبية والفنية والانفتاحية تتفاوت، ولا يمكن أن ينسجم شخص مع آخر بالمطلق، فإذا اجتمعا على جميع النقاط فهذا خلل كبير، اللهم إلا في حق المعصوم. فالمعصوم لا يمكن أن يختلف مع المعصوم، أما من عدا المعصوم فالسلائق تختلف والمذاقات والمشارب تختلف، لذا ترى بين رسالة عملية وأخرى لمرجعين مختلفين أن هناك ما ينوف عن ألف فرع فقهي يختلفون فيها، وكل منهما على حق إن شاء الله، وكل منهما مبرئ للذمة لأنهم يتعبدون بذلك. فإن كان هذا سائغاً في المسار الفقهي ففي بقية المسارات يفترض أن يكون أسهل، لأننا في الأصل العقدي لا نتعبد بالتقليد، إنما نتعبد بإعمال النظر. ولا بد من استحضار الأدلة على وجود الله تعالى وعدله ورسالة النبي (ص) والنص على علي والأئمة (ع) وأن المعاد حق، وكل ذلك بالتفكّر والتدبر والدليل لا بالتقليد ولا بالتوارث ولا بالتلقين، وهي أهم بكثير من مسألة في طهارة، أو فرع في صلاة أو حكم في ميراث.

فالإمام الصادق (ع) كان منفتحاً ويفترض بنا نحن أن نتمثل طريقه وننفتح على جميع ألوان الطيف من حولنا، فلسنا مضطرين لخلق العداوات، بدل أن نغرس أصول المحبة بين أوساطنا.

لماذا بات الواحد منا لا يتحمل الآخر حتى في مصافحة؟ ولماذا باتت المقاطعة حتى على مستوى الفواتح؟ هل أن الإمام الصادق (ع) يأمرنا بذلك؟ حاشا وكلا، أم أن المرجعية تأمرنا؟ أبداً، إنما هو من اتّباع الهوى والسير وراء خطوات الشيطان، فإبليس يلبّس علينا ونستجيب، فلا نكتفي بجلسة نفرح بها ونتبادل التهاني، وإن كان الثواب محرزاً، ولا كلام في ذلك، إلا أن ولاداتهم ووفياتهم مدارس، وهذه المجالس تفتح لنستفيد منها وننهل من عطائهم، فاليوم يوم العلم والمعرفة والأدب والانفتاح، ومن أبى ذلك فإن القافلة سوف تسير، والسفينة سوف تمخر العباب، وسنبقى نحن في آخر السفينة، وليس لنا من القافلة إلا غبارها، فهل نقنع ونرضى لأنفسنا بذلك؟ إذن هي صفقة بائسة خاسرة والعياذ بالله.

ولكي لا أطيل عليكم أعيد على أسماعكم الحديث الذي استفتحت به في هذا اللقاء، فالإمام الصادق (ع) يخاطبنا قائلاً: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، بأقوالكم وأفعالكم. ولا تكونوا علينا شيناً، بأقوالكم وأفعالكم أيضاً. وفي بعض الروايات أن الإمام الصادق (ع) يقول لبعض أصحابه: «يا موسى بن سيار، أما علمت أنّا معاشر الأئمة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلو سألنا الله الشكر لصاحبه»([4]). ولا شك أن أعمالنا الحسنة تسرهم، والسيئة تحزنهم، وتُدخل عليهم الهم.

لو نظرنا إلى واقعنا، لوجدنا أننا جميعاً نتبع جعفر بن محمد إلا أن البعض يسعى جاهداً في إشاعة البغض لمن هو شريك له في جعفر بن محمد الصادق (ع) فإلى أين نحن ذاهبون؟ وماذا ستكون النتيجة؟.

ثم يستشهد (ع) بقوله تعالى: ﴿وَقُوْلُوْا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾([5])، وفي نص آخر: «أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعز»([6]). وفي نص آخر أيضاً: «فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»([7]). فما هي محاسن كلامهم؟ إنها السلام والمحبة والعلم والأدب والتعاون والصبر والجمال وأمثالها.

ويقول (ع): «احفظوا ألسنتكم وكفوها عن الفضول وقبيح القول» ولكن كم من الناس نجرحهم بألسنتنا كل يوم؟ هل رأيتم أحداً في مجلس يدافع يوماً عمن يغتاب الناس أو يتهمهم؟ أو أنه يضع الحطب على النار؟ فهل هذا يرضي جعفر بن محمد الصادق؟

لا تكاد اليوم تجد من يسعى للتقريب بين متخاصمَين، بل على العكس من ذلك تجده يصب الزيت على النار، ويشعل الفتنة بينهما، فهل هذه تربية جعفر الذي يأمرنا بحفظ ألسنتنا وكفها عن الفضول وقبيح القول؟

 هنالك ألفاظ كانت مستهجنة في يوم من الأيام، أصبحنا اليوم نسمعها. أما فضول القول فهناك من يتكلم بما يعنيه وما لا يعنيه، وهذا هو الفضول.

ويقول (ع) في النص الآخر: رحم الله عبداً حببنا إلى الناس ولم يبغِّضنا إليهم، وهذه رسالة إنسانية، لا رسالة شيعية ضيقة فقط، ولا رسالة إسلامية وإن كانت أوسع دائرة.

انظروا اليوم إلى ما يحصل من خلال قناة «صوت العترة»، أو من خلال قناة «أهل البيت» وكم فيهما من الإساءات لجعفر بن محمد الصادق (ع). فهل ترى من يشجب أو يحرك ساكناً أو من يصدر فتوى رادعة؟ أم أننا نرى ذلك وكأن شيئاً لم يكن؟.

مضى على بث هذه القنوات خمس سنوات، وحصل الكثير من التعدي على عرض النبي وشرفه، والتجاوز على حياض مرجعياتنا الرشيدة المقدسة بمرأى ومسمع الجميع، ولا من مستنكر، والقادم أسوأ.

ففي سفرتي الأخيرة إلى مانشستر عرفت أنهم يخططون للانتقال إلى ألمانيا وتأسيس مركز جديد، وكذلك الانتقال من لندن العاصمة إلى مانشستر لأن دائرة استقطابها أوسع. بل إلى مراكزهم بين العتبتين، ومكتبهم في شارع الرسول في النجف، في دائرة علي (ع).

كل ذلك مسيء لجعفر بن محمد، وما يسيء له يسيء للنبي الأعظم (ص) وما يسيء للنبي (ص) يسيء لرب العالمين سبحانه وتعالى.

أسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.