نص كلمة بعنوان:إشراقات شهر رمضان
رجب وشعبان: محطتا استعداد لدخول شهر الله
في الحديث الشريف: (شهر رمضان شهر الله عز وجل)([2])، تقدمت محطتان على شهر الضيافة الكبرى شهر رمضان، المحطة الاولى هي محطة التصفية ألا وهي محطة رجب، وكان في هذا الشهر الفضيل شهر رجب المرجب مساحة كافية لأن يعمد العبد المؤمن لينفرد بهذه النفس في حالة من حالات التصفية المباشرة، حيث إن فاصلة مقدارها تسعة اشهر من الزمن كفيلة بأن يعلق من خلالها بالنفس الشيء الكثير من العوالق، والعوالق اليوم تحصل لأدنى سبب، واذا ما لصقت بهذه النفس فليس من السهل ان يتخلص منها الانسان ومن تبعاتها، اكرمنا الله سبحانه وتعالى بشهر رجب شهر الولاية وشهر الامامة. ربما اجتاز بعضنا هذا الشهر كما اجتاز بقية الشهور التي تقدمت ولم يستفد من فرصته المتاحة، يعني أن ينفرد مع نفسه ويضع هذه النفس تحت طائلة التنظيف والتشذيب واماطة ما تعلق بها من اذى، ورب كلمة قالت لصاحبها دعني ولكنها علقت به فهل تخلص منها ومن تبعاتها؟ وهذه التبعات ليس بالضرورة أن تكون متعلقة بالإنسان نفسه بما هو هو حسب، فربما تعدته الى مساحات ابعد والى اطراف اخرى، كما لو كان في الكلمة او الموقف او الفعل الصادر من الانسان في قبال شخص آخر، يعني ليست حصراً في الاضافة الى نفسه وانما تتعداه، وما منا احد يستطيع ان ينأى بنفسه ويصور من نفسه تلك النفس المعصومة التي لا ترتكب خطيئة ولا تشكل مساحة تلتحق بها مجموعة من الخطايا أو مجموعة من الهفوات أو مجموعة من الزلات، وبكلمة واحدة: مجموعة من الذنوب.
فاذا اجتاز الانسان هذه المحطة الاولى التي يفترض ان يقوم الانسان من خلالها بتصفية نفسه، يقف على اعتاب مرحلة ثانية لا تقل عنها اهمية بل هي في درجة متقدمة من الاهمية حيث إن (شعبان شهر رسول الله)([3])، وامرنا الله سبحانه وتعالى ان نتخذ من رسول الله (ص) الاسوة الحسنة والقدوة في هذه الدنيا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}([4]).
وقد أتحفنا الله سبحانه وتعالى أيضاً بهذا الشهر الفضيل شعبان المعظم واعطاه قيمة خاصة حينما اضيف للنبي الاكرم (ص) فالذي يريد ان يستفيد من هذا الشهر ما عليه الا ان يلقي نظرة سريعة على ما كان يتعاهده الرسول الاعظم (ص) خلال ايام هذا الشهر الفضيل (الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، بخوعاً ...)([5])، والغرض من ذلك تعظيم ذات الله سبحانه وتعالى.
إذاً، هذه المرحلة هي مرحلة متقدمة على المرحلة التي يستفيدها الانسان من شهر رجب المرجب، حيث إن النبي (ص) ينصرف في ايام وليالي هذا الشهر الفضيل إلى اعداد النفس للضيافة الكبرى في شهر رمضان هذا الشهر.
شعبان.. شهر ولادة الأنوار
حظي شهر شعبان بأن يكون ظرفاً لمجموعة من امهات المناسبات، وواحدة من هذه المناسبات ـ وهي على رأس الهرم وتعنينا نحن اولاً وبالذات ـ هي ذكرى ميلاد الخلف الباقي من آل محمد (ص)، والوافدون على الامام الحجة في هذا الشهر يحملون بين ايديهم مجموعة من الملفات التي اصطحبوها جراء ما قامت به جوارحهم الخمس، تحتوي على ما فعلوه وما قاموا به أعمال، وكل ذلك مدون ومسجل، وتشير الروايات إلى ان اعمال شيعة اهل البيت تعرض على الخلف الباقي (ع).
حسناً، إن ليلة الذكرى هي ميعاد يلتقي فيه الموالون والمحبون والعاشقون للإمام المهدي (ع) الامام المفترض الطاعة، فهم ينتظرونه أيضاً في ذكرى ميلاده، وينتظرون الفرحة بذكرى ميلاده، يعني إن فرحتنا به أولاً هي من اجله وبالذات ومن ثم من اجل أنفسنا نحن، ففي هذه الليلة نحظر مجالسه؛ مجالس الذكر، ونحتفل بذكرى مولده الذي لف ارجاء المعمورة وتردد عليه المؤمنون والموالون والمحبون والذائبون في أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، لكن، كل واحد منا بيده ملف اعماله، والمهدي (ع) يتصفح الوجوه ويقرأ ما في القلوب بنظرة واحدة، وهذا الملف هو عبارة عما في داخل نفس الانسان وما قام به من أعمال وما تنطوي عليه نفسه في القادم من الايام.
احياناً، حينما الانسان يكون فقيراً يدعو الله سبحانه وتعالى بأن ينعم عليه ويعطي لله وعداً وعهداً وميثاقاً ان يرى اثر النعمة ظاهرة عليه، لكن الله سبحانه حينما يغدق عليه ويفتح أمامه ابواب الرزق من حيث يحتسب أو لا يحتسب، وينتقل من مربع الفقراء الى دائرة الاغنياء، فإذا به ينسى كل شيء وينسى ما عاهد الله عليه، فلا يقوم بواجب ألزمه الله القيام به، والله سبحانه وتعالى إذا ما انعم على الفقير المعدم لا يسأله حقاً في مال لكن الغني صاحب الثروة تفرض عليه مجموعة من الاحكام والتكاليف الشرعية بخصوص ما بيده من أموال، فلا تجب على الإنسان مثلاً النفقة الزوجية ونفقة العيال قبل الزواج، لكنه حينما يتزوج ويصبح له عيال تجب عليه نفقة الزوجة والعيال.
والانسان في كثير من ميادين الحياة هو الذي يوجد الارضية لتترتب عليه مجموعة من التكاليف، وحينما يأتي إلى الإمام المهدي (ع) ويقول له في الدعاء: عجل الله تعالى لك الفرج سيدي ومولاي، واذا به لا يدفع ما تعلّق بذمته من خمس، ولا يدفع الفلاح ما تعلّق بذمته من زكاة ويتخلّص من عهدتها، ومع ذلك يقول للإمام: عجل الله تعالى فرجك، ويقول له: هذا ملفي يا صاحب الزمان، القيه بين يديك لا انا مخمس ولا مزكي ولا قائم بواجبات النفقة مع عيالي ولا بما يتعلق بواجباتي مع المجتمع من حولي ابداً، ومع ذلك يقول: عجل الله تعالى لك الفرج! وفي المناسبة إن اعلى ما تكون عليه الاصوات في الدعاء له هو: اللهم كن لوليك الحجة، والكل يصرخ بهذا الدعاء، لكن تعالوا، إذا خرج الإمام المهدي (ع) فعلاً وطرق عليه الباب وقال له: ألم تقل البارحة: عجل الله لك الفرج، فأعطنا حقنا إذاً، فماذا سيكون جوابه له حينئذٍ؟! رحم الله الشيخ احمد الوائلي، كان يقول: اذا بكى اليوم باكٍ على الحسين وابكى الناس عليه، ورجع به الزمن وصار الحسين جاراً لهذا الشخص، وصار هناك خلاف ودعوى بينه وبين جاره على الجدار، يقول: لم يكن ليتنازل عنه، بل كان سيرفع قضية ضد الحسين! وهذا لسان حال واقع في الخارج، وعلى هذا فقس عليه ما سواه.
حسناً، نحن الآن يقدم علينا شهر الله وهذه ضيافة الله سبحانه وتعالى، وشهر الله مضاف اليه تعالى، وشرف هذا الشهر إنما هو مضاف إلى الذات المقدسة، وبذلك زاد هذا الشهر شرفاً وبهاء وجلالاً ورفعة ومقاماً.
وشهر رمضان مأدبة الله الكبرى وعلى هذه المأدبة صنوف من الامور المعنوية ايضاً يصاحبها اصناف من الامور المادية، ولنسأل أنفسنا: كم بقي علينا من الأيام حتى قدوم هذا الشهر؛ يومين أو ثلاثة أو اكثر؟ وهذا غير موجود عادة، حسناً، دعونا نرى حينما يأتي شهر رمضان هل توجد هناك اقل درجة من التكافؤ أو المناصفة بين الاصناف المعنوية والاصناف المادية؟! أم أن الأمر غير ذلك ونقول: إننا سندرك هذه الأصناف المعنوية فأمامنا احد عشر شهراً نتزوّد فيها من المعنويات، ولم نلتفت إلى أننا لا نملك زمام امورنا ولو ليوم واحد فلا يضمن أحدنا أن يتحرك من مكانه حتى يضمن انه يبقى إلى السنة القادمة ويعوض النقص والخلل الحاصل في هذه السنة، فلا تكاد ترى أحداً اليوم لم يقم بتهيئة جميع طلبات المطبخ وكأننا في مجاعة افريقيا، الحمد لله اليوم الخير موجود، ولا تكاد تخلو مخازن البيوت اليوم من شيء طول السنة، لكن تعال وانظر إلى ما يحدث في محلات المراكز التجارية وكأنما ستكون هناك حرب في الغد وتنقطع عنا الموانئ والخيرات ولا يصل الغذاء إلى البلاد، فهذا هو شح الانسان، وشح نفس الانسان هو الذي يوصله الى هذا الواقع المريض، حسناً، اشتر من الأسواق وتقلب في انواع الخير والبركة، وهنيئاً مريئاً عليكم ان شاء الله، لكن هل تُحمد النعمة؟ وهل الحمد هنا هو حمد حقيقي فعلي ام قولي لفظي؟ تعال وانظر إلى أحدهم حينما يؤتى بمائدة ممدودة من هنا الى هناك ويأكل منها يمكن أن يأكله ويغفل هنا حتى عن البسملة، ففي بعض الاحيان لا يسمي بعضهم على الاكل مع أنه من المعلوم أن الاكل غير المسمى عليه منزوع البركة كما في روايات اهل البيت (ع). حسناً، البعض يشاهد التلفاز ويظهر عليه ما لا يُحمد من المشاهد وأصوات الغناء، في حال أن لقمة البركة التي يستفتح بها الانسان اولها رحمة، فإذا بأحدهم يترزق بمجموعة من الشوائب والعياذ بالله، وقد تصل ساعات الصيام في اليوم الواحد إلى ستة عشر أو سبعة عشر ساعة وفي درجة حرارة قد تبلغ خمسين درجة ولا يتحملها حتى البعير حيث حصلت في هذه الايام حالات وفاة عديدة في الصحراء فكيف بالإنسان لا يموت؟ فهل من المعقول أن يشطب الإنسان كل هذا التحمل وكل هذه المشقة العظيمة التي تحملها صائماً بمشاهدة مسلسل واحد بعد الافطار؟! وفي المقابل فإن هناك اناساً ليسوا بيننا الآن يرحمهم الله أو ربما قسم منهم موجود بيننا الآن يحفظهم الله تعالى بركة لنا، وندعو الله أيضاً أن ينفعنا بشبابنا في الجاري، كان اولئك الأخيار يستفتحون الاكل بالدعاء أولاً وبقراءة الفاتحة على أرواح أمواتهم، وكان أيضاً من دأب الصالحين أنهم كانوا يوصلون بعضاً من طعامهم إلى جيرانهم قبل تناول الطعام، أما اليوم فلا تكاد ترى مثل تلك الحالة. وذلك النوع من الشكر شكر معنوي، وهذا النوع من الشكر شكر مادي.
تعال الآن وانظر حينما تطوى السفرة، وإذا بها تطوى عن خمسة عشر نوعاً أو عشرين نوعاً من أنواع الطعام أو اكثر أو اقل، خصوصاً أن اليوم قد دخلت الطبخات الفرنسية والامريكية واليابانية و... وصارت الاكلات أضعاف ما كانت عليه، وماذا سيكون مآلها؟ ستجمع في كيس اسود بجانب القاذورات اجلكم الله وستمتزج النعمة معها! فهل هذا العمل هو شكر لله تعالى؟! نقول: والله نحن صائمون ونتقرب الى الله سبحانه وتعالى، واليوم النعمة موجودة وقد لا تكون موجودة في الغد! لا اقول لكم لابد ان تحصل كارثة على الجميع، لكن قد تحل على دار واحد منا ـ الله يجيرنا ويجيركم ـ لكن هذا الشيء ليس ببعيد، ونحن رأينا أن هناك من اصحاب ثروة ومال وجاه قد نزلت عليهم النازلة في الاسهم وصاروا يسألون الناس، وشيعنا بعضاً منهم ودفناهم منذ زمن، لأن قلبه توقف ولم يتحمّل سقوط الاسهم، دفناه، وصار الآن رميماً بالتأكيد.
فينبغي لنا أن ندخل شهر رمضان عن طريق مجموعة من الجسور التي أقامها لنا الله سبحانه وتعالى لنتصل به لنرتبط به وننهل من لطفه وفيضه ومنها الصوم، والصوم من افضل الاعمال بطبيعة الحال، (إن الله تبارك وتعالى يقول: الصوم لي وأنا أجزي عليه)([6])، فيجب دخول هذا الشهر بنية خالصة مشذبة من الشوائب، و(لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)([7])، والقرآن الكريم من جسور هذا الشهر المبارك، أما نحن فماذا نفعل بالقرآن في شهر رمضان؟ فاذا أقضي وقتي بمشاهدة المسلسلات وبعدها بمتابعة مقابلة وبعدها الاخبار وبعد ذلك المباراة و... فماذا سيبقى من وقت للقرآن؟! حينئذٍ سيذهب القرآن ضحية تلك الامور، وسيصبح خريفاً بدلاً من أن يكون ربيعاً! مثل ربيع العرب الذي صار خريفاً! وبعد القرآن الكريم، اعطانا الله تعالى مناسبات اهل البيت (ع)، ونفس الكلام السابق هناك يجري هنا.
نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يهل علينا هذا الشهر الفضيل ونحن في حال احسن مما كنا عليه، وان يكشف لنا مجموعة من العيوب التي بداخلنا كي نعمل على تصحيحها. نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يتقبل منا ومنكم الطاعات وان يعيد علينا وعليكم الشهر الفضيل ونحن وانتم وعموم اخواننا المؤمنين والمؤمنات في لطف وعافية وكرامة.