نص كلمة بعنوان:أهمية الرجوع إلى موروث أهل البيت عليهم السلام
قال الإمام مالك، إمام المذهب المالكي من مذاهب العامة، في حق الإمام الصادق (ع) كلمةً تُعدُّ بمثابة الحجة على قائلها، أضف إلى ذلك ما لها من الدلالة الكافية على ما كان الإمام الصادق (ع) يفرضه من وجود على أبناء المذاهب الأخرى، يقول: ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد الصادق، علماً وعبادة وورعاً.
ربما يقول القائل: نحنُ لا نحتاج للغير كي ندلل على عظمة أئمتنا (ع) لكن الواقع وإن كان كذلك، لكنّ ما يؤخذ حجة على الآخر ينبغي أن يؤخذ به، فأن يوصف المحبوب من محبه أمرٌ طبيعي، لكن أن يوصف المحبوب لحبيبه من قبل من يحمل فكراً خاصاً عن المحبوب، لا يتوافق مع ميوله ورغباته، فهو أمر له الكثير من الدلالات فيما يتعلق بالواصف ومن يسير في ركبه.
نحن لا نشكُّ قيد أنملة في كون الأئمة (ع) هم أكمل من عرف الوجود بعد النبي محمد (ص) فهناك سورة الدهر وآية التطهير وغيرهما، وسيلٌ من الروايات التي تؤمّنُ حدَّاً تواترياً في أعلى درجاته، وفي هذا كفاية في بيان حقيقة موقع أهل البيت (ع) عند الله تعالى وعند أنفسهم وعند الناس، بل إن حقيقة المعرفة متعذرة إلا لمن خُص بحقيقتها، وهم محمد وآل محمد (ص). يقول (ص): «يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا»([2]). فهنالك حصر في المعرفة الحقيقية المطلقة، أما المعارف النسبية فكلٌّ يأخذ بقدر ما تؤمِّن له المقدمات الموصلة للنتائج.
فلا إشكال أن معرفة المتقلب في مدرسة أهل البيت (ع) يُفترض أنه أكثر اقتراباً وأعلى نسبة في المعرفة، وبقدر ما يبتعد الإنسان عن مناهلهم العذبة الروية، بقدر ما يتعذر عليه رفع الرصيد النسبي في المعرفة.
والأئمة (ع) أعانونا على معرفتهم من خلال الروايات، وهي من الكثرة بمكان، والزمن اليوم يختلف عما كان عليه بالأمس، فاليوم حان الوقت لكي يعرف العالم من هم محمد وآل محمد (ص). ولا كلام في أن من لا يعتقد في الأئمة (ع) كما نعتقد، هم النسبة الأكثر والعدد الأكبر، ولكي نُقنع طرفاً بما نحنُ عليه، فلا بد أن نُلزمه الحجة من عنده، فإن قلنا: قال الصادق (ع) في حق الرضا (ع) أو السجاد (ع)، فلا شك أنهم لا يقبلون ذلك، لأن أساس البناء الفكري لا يتوافق مع هذه المنظومة من هذا الكيف، ولكن إذا قلنا: قال إمام المذهب الفلاني، اشرأبت أعناقهم، وتفتحت آذانهم، وأقبلوا علينا بكل حواسهم.
ومن كان قوياً في ثوابته لا يخشى الرياح العواصف، أما المتأرجح فيها، فإنه يخشى تقلب اتجاه الرياح. ونحن أتباع مدرسةٍ، هي من القوة والاستحكام بمكان، بحيث لا نخشى على أصغر واحد في حدِّه المعرفي إذا ما كان البناء سليماً، والرعاية حاضرة، والتوجيه مفعَّلاً. بل إن الأئمة (ع) راهنوا على ذلك.
يقول صاحب المناسبة، الإمام الصادق (ع): «رحم الله عبداً حبَّبَنا إلى الناس، ولم يبغضنا إليهم، أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ، وما استطاع أحدٌ أن يتعلق عليهم بشيء، ولكنَّ أحدهم يسمع الكلمة فيحط إليها عشراً» ([3]). فلأن الناس لم يعرفوا محاسن كلامهم لم يتبعوهم، إلا من حظي بعناية خاصة، فرصيدنا الذي على أساس منه أرسيت القواعد، هو عبارة عن الصلب الطاهر وهو الأب، والحِجر المطهر وهو الأم، وهي نعمة كبيرة علينا، ويدعم هذا المشرب، منبر المسجد والحسينية، فلم يكن غير هذين في وقتٍ ما، فقبل عقود قليلة تم تفعيل منبر المسجد، ليبين الحكم الشرعي، ويؤصِّل للقضية الفكرية، ويقترب من مساحة المجتمع. أما قبل ذلك فكان منبر الحسينية هو المفعَّل، إلا أن حاله آنذاك ليس حاله اليوم، إنما هو عبارة عن شجرة طوبى، والدروع الداودية، ومنتخب الطريحي، وقصص الأنبياء للجزائري، ولا شيء بعدها. أما اليوم فإن المجتمع يختلف عما كان عليه آنذاك، في بنائه الأسري والاقتصادي والعلمي والعملي والسلوكي وعلاقته مع المجتمعات الأخرى، فكان الفرد آنذاك قد يعيش سبعين عاماً وهو يسمع باسم قرية قريبة منه دون أن يراها، وكأنها واحدة من منظومة المجرات السماوية. فكان من يزور الدمام مثلاً، ويعود إلى منزله، فكأنه قام بعمل كبير، أما اليوم فقد اختلف الحال.
من هنا فإن فكر أهل البيت (ع) يدعو أتباع هذه المدرسة أن يقدموا هذا التراث صافياً مصفىً، لأن من يشتري اليوم أكثر ممن يبيع، فإن كان عدد أتباع مدرسة أهل البيت (ع) اليوم حوالي 300 إلى 400 مليون، فإن المليار الآخر ينتظر هذا الزاد.
فمحاسن كلام أهل البيت (ع) طريق سالك معبَّد إلى الله تعالى، يقول الإمام الحسين (ع): «رضا الله رضانا أهل البيت»([4]).
إننا عندما ننقل كلاماً لطرفٍ ما، فليس أكثر من أن يكون حجةً على الطرف الآخر. فنحن اليوم نتحدَّث في هذا المسجد العامر بأهله، إلا أن الكلام اليوم لم يعد محصوراً في المسجد أو الحسينية التي نحنُ فيها، أو المجلس والحفل الذي نقيمه، إنما يسافر إلى مسافات لا تخطر على بال أحدنا.
لذا يفترض أن يكون في الكلام ما يؤمِّن الاقتراب من الدعوة إليهم استجابة لهم (ع) وبذلك نساعد على تعريف الأمة من حولنا، ممن لا يتفقون معنا في المشرب المذهبي، بزاد أهل البيت (ع) وعطائهم.
انظروا اليوم إلى الكثير من نصوص الصحيفة السجادية التي تملأ المساحة العظمى في قنوات الدعاء عند الطرف الآخر، مع حذف العبائر الدالة على صاحبها، فلو كان عند ذلك الطرف من يحمل روحاً كروح علي بن الحسين (ع) سيراً وسلوكاً وعرفاناً وذوباناً وانقطاعاً، لما قصدوا علي بن الحسين (ع). وعلى هذا فقس ما سواه.
إن إظهار الفرح أمر مطلوب، دفعنا أهل البيت (ع) باتجاهه، حيث قالوا: «يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا»([5]) وهذا فعل مضارع يفيد الديمومة والاستمرار، لكن علينا أن لا نستغرق في هذا النص وحده، لأن هناك مئات من النصوص التي تواكبه، وهي تدعو للتأمل والتدبر في معطيات ذلك المعصوم الذي نجتمع من أجل الاحتفاء به، والتشرف بذكراه.
ولكن، لنسأل أنفسنا: ما هي الحصيلة من عشرات، بل مئات المجالس التي حضرناها؟ وما هو الأمر الذي يؤثر فينا في مسيرتنا المستقبلية.
نسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يقترب من مساحتهم أكثر فأكثر، وأن يجعلنا وإياكم ممن يسافر بفكرهم وعطائهم، لأنه الأطهر والأصفى والأنقى.
ولدي همسة خفيفة أودُّ أن أهديها لكم بهذه المناسبة، وهي: هنالك تيار لا نستطيع أن نوزّع عليه التهم جزافاً كما يفعل البعض، إلا أنه يريد أن يرفع الوتيرة من حالة البيان وكشف المستور من حقائق أهل البيت (ع) إلى مساحة التعدي على الطرف الآخر، بالسب واللعن والتشهير، وهذا فكر دخيل على مدرسة أهل البيت (ع) فالإمام علي (ع) كان يقول: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»([6]). وهذا مع شر خلق الله، فقد مرّ بجماعة ينالون من فلان وفلان، فعاب عليهم ذلك، ونهاهم، وأمرهم أن يصفوا أعمالهم، ويذكروا حالهم، فهو أصوب في القول، وأبلغ في العذر، على حد تعبير أمير المؤمنين (ع).
كنت اليوم أشاهد إحدى القنوات الفضائية، فقفَّ شعري، واقشعر بدني مما كنت أسمع، فهؤلاء الذين تسبهم، إن كانوا لديك ليسوا بعظماء، فهم عند الآخر عظماء، ولك أن تضع نفسك في هذا المربع، وتنظر ما الذي تشعر به؟ فلو وقف أمامك شخصٌ تجرد عن الضوابط الدينية والمسوغات الشرعية، وبدأ بسبِّ أو لعن أحد المعصومين (ع) فماذا يكون شعورك؟
إنهم يرون خلفاءهم كما نرى نحن أئمتنا، فلا يسوغ اللعن والسب بهذه الطريقة.
ثم انظر إلى حجم الخطر والضرر المترتب على ذلك، أضف إلى ذلك روايات التقية التي تؤكد أن من لا تقية له لا دين له([7])، وكذلك مصير الجيل القادم، وما يمكن أن يُلحق ذلك به من الضرر.
إن الطريقة الصحيحة، والسلوك السليم، أن نبين محاسن كلام أهل البيت (ع) وفكرهم، كأصولهم، وفلسفة الأخلاق عندهم، وضوابط الاستنباط في مدرستهم، وحدود مدرسة التفسير عندهم، وما إلى ذلك مما لم يُعرض على الطرف الآخر، أما أن نَظهر في برنامج تلفزيوني مثلاً، ونبدأ بالتصنيف، هذا بكري، وهذا كذا أو كذا، فليس أمراً سائغاً أبداً.
ثم إن مثل هؤلاء المتكلمين ليسوا في خضمِّ الأحداث، إنما يعيشون في لندن وأمريكا وغيرها، ولا يعيشون ما نعيش.
بل إنهم لو كان لديهم شعور بما قد يترتب على كلامهم من الخطر، لما نطقوا حرفاً واحداً، فلمَ لم نشاهد أحداً منهم أيام الطاغية الأرعن؟
جعلنا الله وإياكم من السائرين على نهج محمد وآل محمد، وممن يدعو إلى طريقتهم بالتي هي أحسن، ومن يمتثل قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾([8]).
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.