نص كلمة بعنوان:أهمية الاستفادة من ذكرى ميلاد نبي الرحمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله لنا ولكم ذكرى المولدين السعيدين العظيمين الجليلين الرفيعين، ذكرى ميلاد منقذ البشرية الأعظم الحبيب المصطفى محمد (ص) وحفيده البار الإمام الصادق المصدق جعفر بن محمد (ع).
بارك الله لنا ولكم الفرحة الكبرى بهذين المولودين السعيدين العظيمين، وأعاده الله علينا وعليكم بكل يمن وسعد وبركة، والأمة الإسلامية في أحسن حالها، والإنسانية في طريق رشدها إن شاء الله، وجمعنا الله وإياكم تحت قبة النبي (ص) النَّورى وفي روضته المقدسة، ورزقنا الله وإياكم الشفاعة على يديه وعلى يدي حفيده الإمام الصادق (ع) عندما نكون بين يدي الله تعالى في عالم الآخرة، وأطال الله أعمارك وأعمار المؤمنين، وأمدنا وأمدكم بالصحة والعافية الدائمة إن شاء الله تعالى، والأمن والأمان في هذا الوطن الغالي.
مسؤوليتنا في حمل الأمانة:
قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾([1]).
النبي محمد (ص) جاء بالرسالة الخاتمة، وحيث إنها الخاتمة لا بد أن تكون فيها عناصر القوة التي تعطيها المدد للحفاظ على بقائها وتلبية الحاجيات التي تعرض لحياة البشر. فقد وُجد الإنسان ثم تكثّر، وعندما تكثر كانت ثمة مصالح تفرض نفسها على واقعه، تواصلت في مرحلة وتقاطعت في مراحل أخرى، ولا بد من وجود من يسيرها في المسار الصحيح ويضعها في الوجهة الصحيحة.
والتحق النبي (ص) بالرفيق الأعلى، وكذلك الأئمة (ع)، ولم يبق من تلك الكوكبة النيرة في عالم الوجود الذي نعيشه إلا الخلف الباقي من آل محمد (عج). وهو الذي يرقبنا ويضبط حركتنا، فهذا الإمام العظيم هو الذي بين يديه الأمانة العظمى، ورعاية الأمانة على وجه الأرض إلى حين الإذن بالفرج والظهور في عالم الشهود والخارج والممكنات المادية، عندها يكون الإنسان في قبالة تلك الإشراقة العظيمة، فنرى مجتمعاً يعيش حالة العصمة المتنقلة بين جنباته.
ما هي الأمانة؟
والأمانة أمر خطير، ومفهوم جليل عظيم. فالجميع يعرف الأمانة ويسمع عنها، لكن المتبادر إلى ذهنه هو ما يستخدمه من الاستفادة من هذه المفردة، وهي بمعنى أن يأتمنك أحد على شيء، وعليك أن تعيده إليه، فتقول: أرجعت الأمانة لأهلها. إلا أن الأمانة أكبر من ذلك بكثير.
فمن الأمانة الوجود، أي وجودي ووجودك ووجود الآخر، وكذلك ما خلقه الله تعالى وهيأه من أسباب ونعم، فالعمر أمانة، والأرزاق التي فتح أبوابها علينا من كل جهة هي أمانات بين أيدينا، فكيف نتعامل معها؟ هل نحسن التعامل معها؟ أو نتعامل معها على العكس من ذلك، فنشتتها بالكفران؟ فالنعمة تدوم بالشكر وهو عنوان أداء الأمانة في هذا الجانب.
وكذلك الرسالات التي جاء بها الأنبياء كانت أمانات في أعناق الأمم التي خوطبت بها. والحضور المقدس للرسول أو النبي في تلك الأمم هو أمانة في أعناق البشر أيضاً.
والأنبياء لم يكونوا بمنأى من طائلة التعدي على ذواتهم المقدسة، فبعضهم نشر بالمناشير، وبعضهم قُطّع إلى قطع، وبعضهم عرض على النار كإبراهيم (ع) ولولا تدخل السماء بقوله تعالى: ﴿يَا نَارُ كُوْنِيْ بَرْدَاً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيْمَ﴾([2]) لأحرقته تلك النار، وانتهت حياته.
وما من نبي إلا وصبت البلوى على رأسه صباً، لذلك لم يعطوا الامتيازات إلا بعد أن تجاوزوا أكثر من قنطرة وقنطرة. لكن النبي الأعظم (ص) كان الأكثر ابتلاءً، فكان في ما بلي به أكثر من غيره، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فقد ابتلي في ذاته، وحديث مكة طويل عريض، وابتلي في رسالته، وحديث الحروب في المدينة طويل عريض، وابتلي في أهل بيته (ع) من بعده، وابتلي في نفسه، إذ أريد له التصفية الجسدية، وابتلي في مفاهيم رسالته، إما بالتمرد أو بالتحريف أو بالارتداد الذي حصل، وهو أمر واقع لا ينكره أحد، لكن حدوده وسعته وأماكنه وظرفه الزماني والشخوص الذين تحركوا في فتح هذا الباب على الأمة في وقتها شابته بالكثير من الشوائب.
والنبي (ع) في عالم الغيب يشهد ما يحصل في عالمنا، وهذه عقيدتنا. لذلك جاء الحديث عن الإمام الصادق (ع): «وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً»([3]). وفي بعض الروايات عن الإمام الرضا (ع): «يا موسى بن سيار، أما علمت أنا معاشر الأئمة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً...»([4]). فما يصدر مني ومنك من قول يبلغهم، وما أقوم به من فعل يصل إلى حضراتهم أيضاً، وهم يشرفون على ذلك، لذلك يدخل عليهم السرور إن كان العمل حسناً، ويسوؤهم إن كان قبيحاً.
أمانة الدين:
فالأمانة مع النبي هي الرسالة، وهي أمانة في عنق كل من بلغته من بني البشر، فرسالته عامة للناس كافة، وليست للمجتمع المدني أو المكي أو الجزيرة العربية أو للأمة الإسلامية، إنما هي للإنسانية بما هي إنسانية. فهنالك عموم في الرسالة، ومن جزأ الإسلام وحصره في زاوية ضيقة ليس الإسلام بما هو هو، وما كان ذلك مراد النبي (ص) وأهل البيت (ع) والصحابة الصالحين من حول النبي (ص) وإنما هم أولئك الذين وجدوا أن ما لهم وما عليهم لا يتحقق إلا بناء على الإضافة الضيقة، فأضافوه إلى ذوات وأشخاص معينين وأوردوا على الرسالة الكثير من المصادرة.
أيها الأحبة: إن الأمانة كما نرعاها في جانبها المادي، كما في إرجاع القرض لصاحبه، لا بد أن نرعاها في جانبها المعنوي، وهو الأهم. فالإسلام أنا الذي خوطبت به وكل إنسان على وجه هذا الكوكب بلغته الرسالة، فكيف نؤدي تلك الأمانة؟
إن الجهة التي نتعامل معها في هذا الصدد هو الرسول محمد (ص) وهو الأمين الأعظم، تحمل الأمانة وأداها، ومن بعده أهل بيته الذين تحملوا الأمانة وأدوها. ولا يتصور في الأمانة أن تبقى مطروحة على الأرض من بعدهم، إنما هي في أعناق بني البشر ﴿وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ﴾ وبما أنه تقبل حمل الرسالة فلا بد أن يقوم بجميع تكاليفها وأعبائها وأحكامها.
ولسائل أن يسأل: هنالك تكاليف تحكي واقع الأمانة مع الله سبحانه وتعالى، فكيف حالنا مع هذا البند وهذا اللون من ألوان الأمانة؟
بيننا وبين الله تعالى حقوق وتكاليف كثيرة، وواجبات كثيرة، وهنالك محظورات كثيرة أيضاً افترضها الله تعالى علينا، فهل رعينا حدود الله التي قال فيها: ﴿تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوْهَا﴾([5]). فهنالك أكثر من قنطرة وحاجز يتخطاها الإنسان تمرداً على ميزان أداء الأمانة لصاحبها.
فلا بد إذن من المحاسبة والمراقبة، وقد ورد عنهم (ع): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله؛ وإن عمل سيئاً استغفر الله منه، وتاب إليه»([6]). والإمام الصادق (ع) ينتدبنا أن نعرض عند المنام ما جرى منا وعلينا، وهل نحن في جانب الأمانة مع الله تعالى كنا كما يريد؟ أو أننا قصرنا في ذلك؟ سواء في واجب لم نأت به، أم محرم آتيناه وتجاوزنا الحد فيه.
وكذا الأمانة مع الرسول وآل الرسول، فهم أيضاً أمانة فكيف نتعامل مع تلك الكوكبة النيرة والصفوة المصطفاة من قبل الله تعالى، وهم سادة البشر وأكملهم وأفضلهم؟ فهل يكون أداء الأمانة لهم في كثرة الزيارة فقط؟ أو بإقامة مراسم العزاء والاحتفال والطبخ واللطم ورفع الصلوات فقط؟ نعم، هذا جانب يحكي واقع الارتباط، ومنطلقه النفس الطيبة التي تولدت على فطرة ومحبة لمحمد وآل محمد، وهذا كلام سليم، لكن الأخطر من ذلك في الأمانة هو أن نسأل أنفسنا: هل تعرفنا محمداً وآل محمد كما أراد محمد وآل محمد؟
معرفة أهل البيت (ع):
نحن نقرأ دائماً: «اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني» فالميزان في واقع أداء الأمانة التعرف على أهل البيت (ع) إذ لا يمكن أن أقوم بشيء ما لم أعرف الطريق إليه. فلو دعاني أحد لوجبة غداء مثلاً، فهل أستطيع أن أصل إلى بيته ما لم أعرف الطريق المؤدية إليه؟
إن حالنا مع أهل البيت (ع) شبيهة بالمثال التقريبي الذي ذكرناه، وتعرف أهل البيت (ع) لا يكون إلا من خلالهم هم، لا من خلال غيرهم. فمن أراد أن يعرف الإمام علياً لا بد أن يعرفه من خلال علي وأهل البيت (ع) والحكم عين الحكم مع سائر الأئمة (ع). ولكن من يرشدنا إلى ذلك؟ إنهم العلماء المؤتمنون على أيتام آل محمد (ع) وهم أنا وأنت. وهؤلاء مسؤوليتهم كبيرة، فهل يأخذون بأيدينا أم أنهم يكتفون بتقبيل الرأس واليد والتكريم الاجتماعي؟ هنا بيت القصيد.
من يتقدم بك خطوة إلى الأمام باتجاه أهل البيت (ع) ومن يشد حبال الوصل والاتصال بينك وبينهم ومن يأخذ بيدك للتعرف على مواطن العظمة في أهل البيت (ع) هو من يساعدك على حمل الأمانة، ومن لم يرد هذا فعليه أن يفتش عن جهة ثانية.
من هنا فإننا إذا جلسنا واجتمعنا فإنما نجتمع على هذا. جاء في الحديث الشريف عن بكر بن محمد الأزدي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال له: «تجلسون وتتحدثون؟ قال: قلت: جُعلت فداك نعم، قال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا. إنه من ذكرنا وذُكرنا عنده، فخرج من عينه مثلُ جَناح الذُّبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثرَ من زَبَدِ البحر»([7]). ولا يكون إحياء الأمر إلا بتعرف ذواتهم، فهم أكمل البشر وأشرف البشر وأنبلهم، وهم من تحملوا الأمانة وأدَّوها، والفصل الأخير يختم ببصمة الخلف الباقي من آل محمد (عج).
في الختام هذه أبيات شعرية أختمها باسم النبي محمد (ص):
إذا رمتَ الصلاة بيوم عيدٍ فيوم العيد صل على محمد
وإن أسرجت في الأسحارِ ورداً فقل يا رب صل على محمد
وإن ضاقت بك الدنيا مجالاً فذلل بالصلاة على محمد
وإن عبّدت للأخلاق درباً فثبّت بالصلاة على محمد
وإن خفت المواقف يوم حشرٍ فنعم العون صل على محمد
وإن رمت الثواب لرفع قدرٍ فأكثر بالصلاة على محمد
فهل ثقلت موازين البرايا بفعلٍ كالصلاة على محمد
طريق الحق من أنفاس طه فقم يا صاح صل على محمد
إذا الأفكار دارت في حديثٍ فنورُ الفكر صل على محمد
رسول الحق نور الله فينا فردِّد بالصلاة على محمد
فنور المصطفى وجه عليٍّ لأجل النور صل على محمد
وليد البيت خير الناس طراً بهذا الأمر قد نص محمد
رضينا بالهدى حتماً رضينا فمن يرضى يصلي على محمد
إذا الشيعي عاش الناس حباً فأصل الحب صل على محمد
وإن رمت العلا في الخلد يوماً فصلّ مثلما صلى محمد
عليه خالق الأكوان صلى بجنب العرش قد صلى محمد
فأسمع كل من عاش بعقل يضاء الكون من ذكر محمد
أعيد النظمَ في سبكٍ جديد ختام القول صلوا على محمد
نسأل الله تعالى سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.