نص كلمة بعنوان: أهل البيت طريق الأمة للهداية والرُشد
في الحديث الشريف عنهم (ع): «إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق»([2]).
أسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى ميلاد الكوكب الحادي عشر من كوكبة الإمامة، الإمام المظلوم، صاحب القبر المهدوم، الحسن بن علي العسكري (ع) رزقنا الله وإياكم جميعاً شرف المثول بين يدي عتبته الطاهرة، والتضرع تحت قبته النيرة، والشفاعة على يديه يوم الورود.
الحديث الشريف الذي استهللت به الكلام يستطيع المرء أن يلج إلى معطياته من أكثر من مسار. وكلنا يعلم أن كلام أهل البيت (ع) كالقرآن الكريم، لأنه توأمه، وبالنتيجة له القدرة على أن يتعاطى مع جميع الجزئيات التي يحتاج إليها البشر مع مرور الزمن.
والناس يتفاوتون فيما بينهم في فهم النص القرآني، فللعالم آلياته ومنهجه وأساليبه، التي يستنطق من خلالها معطيات النص القرآني، فهناك مساحة للتدبر والتأمل والاستنباط، ثم تأتي مرحلة الخلوص إلى النتائج. وكلام أهل البيت (ع) كذلك، فالناس يتفاوتون فيما بينهم في فهمه، فللعلماء طريقتهم، حسب ما في أيديهم من مقدمات موصلة إلى نتائج مرضية، ثم يأتي الأمثل فالأمثل، وقد تصل النوبة إلى أضعف الناس في استنطاق النص، فربما يقف حائراً إلا أنه لا يخرج خالي الوفاض، إنما يخرج في الحد الأدنى بنيل البركة والثواب، وإن لم يتعمَّق في معطيات المفاهيم، التي تتصف بطابعها العام بالكلية.
وبناء على هذه المقدمة فإنّ الناس يتفاوتون فيما بينهم بحسب ما فتح الله عليهم، وما أعدوا له أنفسهم من الفيض الإلهي، كي تأخذ الإشراقة الرحمانية مكانها من هذه المضغة في جسد الإنسان ألا وهو القلب، فالعلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء، كما هو وارد عن أهل البيت (ع). وفي نص آخر: «نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه»([3]). أي قلوب الخاصة من أوليائه. ولكي يصل الإنسان لنيل الخصوصية والفيض الإلهي، فإنه يحتاج لمجموعة من الأمور لا بد من تأمينها وتحصيلها، كما هو الحال في حياتنا المادية، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تعد وتحصى، فمن يؤسس لبناء أسرة كريمة مثلاً، لا بد أن يُعد العدة كما ينبغي بما يتوافق وتلك النتيجة المتوخاة، فالطريق الطبيعي أن يتعلم ويعمل، وأن يكون محافظاً على ما بين يديه من ثروة، وأن يكون قد رسم خطةً عملية للخلوص إلى ذلك الهدف، وأن يستعين بالآخرين، لأن الإنسان اجتماعي بطبيعته، يألف ويؤلف، والأوراح جنود مجندة، كما في الحديث الشريف([4]). وبعد ذلك كله وغيره، يخلص إلى البناء.
وبدء البناء لا يكون على وجه الأرض، بل لا بد أن ينزل في مساحة معينة حتى يصل إلى أرض فيها القدرة على تحمل البناء، ثم يرفع القواعد ويؤسس وينتهي إلى بيت. وهذا كله في الجانب المادي.
أما الجانب الأهم، وهو الجانب المعنوي، فيتعلق بمن يكون في هذا البيت، ويحظى بالسكنى فيه، وهم الزوج والزوجة والأبناء الذين يُنتظر مجيئهم، وما يمكن أن يقدَّم لهم من زاد في هذه الأيام، وإن كان العذر يلتمس للآباء في الأزمنة السابقة فلم يعد يلتمس للابن الذي أعد نفسه اليوم لمرحلة الأبوة والإشراف على أبناء سيكونون روافد للمجتمع في يوم من الأيام. فكل تلك الآليات والمسارات لها أثرها في وضع حجر الأساس للبناء المهم، ألا وهو الأسرة.
فاختيار الزوجة لا ينبغي أن يكون على أساس عشوائي، بأن يكون الهدف الأول والأخير منه هو عنصر الجمال، وإن كان الجمال هدفاً في نفسه، فالله تعالى جميل يحب الجمال، لكنه ليس منتهى المطاف، إنما هو واحدة من المفردات التي من مسؤولية الإنسان أن يبحث ويفتش عنها، ويستعين بالآخرين للوصول إليها. فليس الجمال هو القضية الأولى والأخيرة، إنما هو جزء من القضية، وفي الحديث عن النبي (ص): «وعليك بذات الدِّين تَرِبَتْ يَداك»([5]).
فقد يتزوج الرجل المرأة لجمالها فيحرم ذلك الجمال، ولو لعارض سماوي أو أرضي، وهذه الدنيا أمامنا، والشواهد فيها كثيرة، فكم هناك ممن كُنَّ على درجة عالية من الجمال، ولكن لعارض أو حادث أو لأمر ما، تحولت تلك الصورة الرائعة من الجمال إلى أحد مستوجبات التنفير للطرف الآخر.
وكذا الحال فيمن يتزوجها لمالها، ففي الأحاديث الشريفة أنه يحرم مالها، فقد يتزوج الرجل المرأة لراتبها الشهري، على أمل أن تؤمن له حياةً أفضل، وهو ما نرى له شواهد في واقعنا اليوم، ولكن نرى أيضاً أن هنالك الكثير من الأمور التي تشكل سبباً مفاجئاً غير مترقب، فيحرم الزوج من تلك الثروة.
فالأصل في التزويج هو الدين، لأنه صمام الأمان، فيما إذا تمسك الإنسان بالعروة الوثقى، والحبل المتين، والرابطة الأصيلة بين العبد وربه، وهو القرآن الكريم، وكذلك معطيات مدرسة أهل البيت (ع) والاستنارة بنورهم، والاهتداء بهديهم، والسير على منهاجهم، فمن كانت هذه حاله استطاع أن يصل إلى الهدف. ومن يجمع العناصر الضرورية في بناء الأسرة فإنه يُبرز للمجتمع رجالاً يمثلون تلك الطبقة التي فصل بيننا وبينها الزمن، ويبقى الميزان أيضاً يتناول الأمثل فالأمثل.
فالمشروع الطبيعي هو أن نقرأ في الإنسان المسلم مجسمة صغيرة تتحرك على الأرض لتلك الطبقة الأولى التي تمرست على يدي النبي محمد وآل محمد (ص).
إن قَيد المؤمن متينٌ محكَم، ففي الحديث الشريف: «الإيمان قَيدُ الفتك»([6]). فالزوجة إذا قرأت في زوجها الإنسان المؤمن أمنت بوائقه، فلا تنالها الشتائم، ولا تمتد إليها الأيدي، ولا يكون باب الدار أقرب إليها من باب غرفة نومها، لأن الإيمان يحجز الزوج عن اللجوء إلى مثل هذه الأمور.
وكذا الحال مع العامل ورب العمل، فلا بد أن يتحرك كل منهما في دائرة الإيمان حيث الهدوء والسكينة والاستقرار، فإذا كان رب العمل يتعامل مع العامل على أساس البعد الإيماني الذي اكتسبه بسبب القراءة والمتابعة والسماع، على بساط الصفاء والاصطفاء والتصفية، فعليك أن تتوقع منه كل الخير.
وكذلك أصحاب المال الكثير، الذين يُسمَّون اليوم برجال الأعمال، فإن كان الإيمان قيداً لهؤلاء فلا شك أننا سوف نجني الثمار من ورائهم، لأن المجتمع سوف يرشد، ويغادر الفقير مساحة الفقر. أما إذا كان عنصر الإيمان متخلِّفاً في وجدانهم، لا يسوس حركتهم، ولا يوجه أموالهم في المسار الطبيعي، فسوف تحصل الكارثة.
وهكذا تسير الأمور مع الأمثل فالأمثل، حتى نصل إلى رجل الدين، إذ إنه يمكن أن يصبح مجتهداً، لكن ذلك ليس نهاية المطاف، بل إن الاجتهاد ليس من الأمور المتعذرة، ولو كان كذلك لما شقَّ رجال الدين طريقهم في سبيل الوصول إليه. صحيح أنه لا يناله إلا ذو حظ عظيم، وفي طريقه الكثير من الجهد، ففي الحديث القدسي: «وضعت خمسة في خمسة، والناس يطلبونها في خمسة، فلا يجدونها: وضعت العلم في الجوع والجهد، والناس يطلبونه بالشبعة والراحة فلا يجدونه، ووضعت الغنى في القناعة، والناس يطلبونه في كثرة المال فلا يجدونه، ووضعت العز في خدمتي، والناس يطلبونه في خدمة السلطان فلا يجدونه، ووضعت الفخر في التقوى، والناس يطلبونه بالأنساب فلا يجدونه، ووضعت الراحة في الجنة، والناس يطلبونها في الدنيا فلا يجدونها»([7]). فلا بد أن يعاني طالب العلم من الغربة والجوع، ولا بد أن يجهد نفسه، هذا كله صحيح، إلا أنه ليس مستحيلاً.
قال أحدهم لأحد الحكماء: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه ؟ فقال: لأمرين، أحدهما أنني غادرت مساحة الغرور، ولذت بكوامل النفس. والثاني أنني وصلت ليلي بنهاري حتى احدودب ظهري، ووهبت العلم نور عينيّ.
فمن الضروري جداً لطالب العلم، بل للإنسان عموماً، أن يغادر مساحة الغرور، فلا يسيطر عليه الغرور في أقواله وأفعاله، وأن يرجع إلى كوامل النفس. فمن يعيش حالة من الغرور، لا يرى أحداً من الناس بشراً مثله، في حين أن المرء لو التفت إلى نفسه لرأى ما بداخله وما يتحرك معه، بل إنه يرى مبدأه بوضوح، فقد خُلق من نطفة مذرة، ثم يأخذ نصيبه من الدنيا وهو يحمل ما يحمل في داخله، ثم يعود جيفة قذرة، يهرب منه حبيبه هروب المعزى من الذئب لشدة ما يجد من ريحه.
مرّ أحدهم بآخر فلم يبدأه بالسلام، وتنكب طريق السنة المحمدية الأصيلة، حيث كان النبي (ص) يبتدئ الصبية بالسلام، بل إن أحد أصحابه يقول: ما كنا نسبقه بالسلام. فقال له ذلك الرجل: علامَ تصعر خدك وقد نهاك الله عن ذلك؟ هلا التفتَّ إلى نفسك؟ أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت ما بينهما تحمل العذرة.
وقيل لابن سينا قبل موته: ماذا علمت؟ قال: علمت شيئاً فيه الكثير، فقد جئت إلى الدنيا وأنا لا أعلم، وسعيت من أجل أن أعلم، وها أنا ذا أخرج منها وأنا أعلم أني لا أعلم!.
هذا هو ابن سينا، الذي لا زالت نظرياته منذ القرن الخامس إلى يومنا هذا فاعلة، يحني العلماء رؤوسهم احتراماً لنظرياته، يرى في نفسه أنه خرج من الدنيا وهو لا يعلم شيئاً.
كان سلمان المحمدي ـ وهو من أجلاء الصحابة، ومن أقرب المقربين لأمير المؤمنين (ع) وقد تولى المدائن من قبله ـ يسير في سكك الكوفة يوماً، فالتقاه رجل فقال له: أيها العلج، احمل هذا المتاع، فأحنى سلمان ظهره ليحمله، وإذا برجل آخر يمد يده قبل سلمان ليحمل المتاع، وهو يقول له: دعه أيها الوالي. فقال سلمان: والله لا يحمله إلا العلج. فلما سمع صاحب المتاع ذلك انحنى على قدمي سلمان يقبلهما وهو يلتمس العذر، فأبى سلمان، ثم دخل المسجد، وإذا به يصفُّ قدميه ويتوجه للقبلة يصلي ركعتين، يهدي ثوابهما لذلك الرجل.
نحن اليوم لا نتحمل من الآخر كلمة واحدة، وهو شريكنا في البلد والولاية، لكن سلمان المحمدي بلغ ما بلغ من درجات الإيمان، لا بصلاة الليل فحسب، ولا بأثر السجود، ولا بكثرة التسبيح، إنما قرن العلم بالعمل.
يقول الإمام الصادق (ع): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»([8]).
وقال أمير المؤمنين (ع) في وصف رسول الله (ص): «طبيبٌ دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عُميٍ، وآذانٍ صُمّ، وألسنةٍ بُكم»([9]). فقوله وصمته وفعله كله هداية في هداية.
والإمام العسكري (ع) الذي نعيش ذكراه ليلة الثلاثاء القادمة إن شاء الله تعالى، وهي الليلة الثامنة من هذا الشهر على الرواية الصحيحة، وقعت حياته في مفترق طرق صعب على الطائفة، وهكذا الحال مع جميع الأئمة (ع) فكل إمام منهم له بطاقة عمل، ينفذها في حياته قبل أن ينتقل إلى جوار ربه، وكانت البطاقة الأساسية للإمام العسكري (ع) إعداد الأمة الراشدة المؤمنة بمحمد وآل محمد (ص) وتهيئتها للنقلة الكبرى وهي الاستعداد لعالم الغيبة.
أيها المؤمن الموالي: إنك لست مغبوناً وأنت تعيش في زمن الغيبة، لأن أفضل الأعمال في زمن الغيبة انتظار الفرج، ولكن هل يكون انتظار الفرج بالوقيعة بين المؤمنين، وتشتيت صفوفهم وزرع الفرقة والسب والشتم؟ أو يكون بنشر المحبة والوئام؟
علينا أن نفتح قلوبنا للجميع، وأن نتحمّل، وهذا أمر طبيعي. يقول معاوية لعلي (ع): تُقاد إلى بيعتهم وأنت كاره كما يقاد الجمل المخشوش([10]). فيجيبه أمير المؤمنين (ع): «ولَعَمْرُ الله، لقد أردت أن تذمَّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً، ما لم يكن شاكاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه»([11]).
هؤلاء هم أئمتنا وقدوتنا. والباب الموصل المفضي لعظمة محمد وآل محمد (ص) هم العلماء المجتهدون الذين يراعون التقوى والورع، ومن أهم مساحات التقوى والورع الفتيا، لأن المرجع ليس طبيباً ولا نجاراً ولا حداداً، مع أن هذه المهن شرف وعزة وكرامة، لكن اختصاص المرجع هو الفتوى.
كان السيد أبو الحسن الإصفهاني (رحمه الله) إذا أراد أن يكتب استفتاءً ما، ارتعشت يده، وسقطت منها الورقة، وهكذا تتكرر الحالة حتى يُمضي الفتوى، وهذا يكشف لنا صعوبة الفتوى وخطورتها وعظمتها.
عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «من أفتى بغير علم، لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه»([12]).
نسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يعيش الذكرى، وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم لما فيه الخير والصلاح، وأن يجمع شمل المؤمنين في هذه البلاد وسائر البلاد، وأن يوحّد الكلمة والصفّ والموقف، وأن تكون المحبة هي سيدة الموقف، فنحن محسودون على كوننا ولدنا على الإيمان، ونسأله تعالى أن لا يزحزحنا قيد أنملةٍ عن الحب والسير على نهج محمد وآل محمد (ص).
والحمد لله رب العالمين.