نص كلمة بعنوان: أنوار البعثة الشريفة

نص كلمة بعنوان: أنوار البعثة الشريفة

عدد الزوار: 431

2013-06-16

أنوار البعثة:

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيْ بَعَثَ فِيْ الأُمِّيِّيْنَ رَسُوْلاً مِنْهُمْ﴾([1]).

قال المولى علي أمير المؤمنين (ع): «كنت مع النبي (ص) بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله»([2]).

بارك الله لنا ولكم ذكرى المبعث الشريف، وذكرى الإسراء والمعراج، وأعاد الله علينا وعليكم هذه المناسبات الفضيلة، ونحن وأنتم وعموم المسلمين في أحسن حال نصبو ويصبون إليه.

المكان هو مكة ... والزمان هو شهر رجب... والقضية هي الأكبر على وجه الأرض، وهي الرسالة الخاتمة على يدي خاتم الأنبياء، النبي الأعظم محمد (ص) بعد مسيرة من المولد إلى التكليف بإبلاغ الرسالة، وقد مرت بمحطات كثيرة تستوجب الوقوف عند كل واحدة منها، لما لها من دلالات ومعطيات، غير أن الوقت يضيق بذلك.

فالنبي الأعظم (ص) فيه من الخصائص ما يختصر لنا جميع مثيلاتها التي تمتع بها الأنبياء والرسل قبله. ففي رسالته ما في الرسالات وزيادة، لأن حلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

أيها الأحبة: عندما يرغب أحدنا أن يستنطق مفردة مضافة لذاته المقدسة، فعليه أن يقترب منه شيئاً فشيئاً، ولا أظن أن مسافة الاقتراب تكلفنا كثيراً إذا ما كانت لدينا الرغبة الجادة أن نستنطق بعض المفردات، ونستجلي بعض المفاهيم، ونتحرك على أساسٍ من تلك الإرشادات.

لقد اختيرت مكة المكرمة لما فيها من الخصائص، فما من نبي إلا وقدم العهد والميثاق عند بيت الله في مكة، وما من نبي أو رسول إلا صافح الحجر بيمينه. وهذه القضية تعطي مؤشراً على أن ما تقدم لا يتجاوز حدود المقدس، لنتيجةٍ خططت لها السماء، وأرادتها أن تكون موقَّعة ببصمة أشرف وأكمل إنسان، ألا وهو النبي الأعظم محمد (ص).

ويرتقي النبي (ص) الصفا، ويخاطب قومه، وأبناء مجتمعه، والقبائل من حوله، والأمة المتطلعة: ما تقولون لو أنني أخبرتكم أن وراء هذا الجبل قوم يريدون غزوكم؟ قالوا: كنا نصدقك؛ لأنك الصادق الأمين. وهذا أسلوب تقريري لم تنته إليه المدارس الحديثة في مساراتها حتى يومنا هذا.

ويرفع النبي (ص) يده قائلاً: أدعوكم إلى كلمة واحدة، إن قلتموها دانت لكم الأرض شرقاً وغرباً: «قولوا لا إله اإلا الله تفلحوا»([3]). وهي كلمة خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، غيرت مسار حياة الأمم في شرق الأرض وغربها، ولا زالت تُحدث التغيير لمن أراد أن يحدث تغييراً في ذاته كفرد، أو في محيطٍ ضيق كمجتمع، أو في أمة بأسرها، فلا وقود يدفع الحركة إلا ذلك الموروث الطيب الطاهر النقي الواصل إلينا من طريق العصمة، عن النبي محمد (ص).

وتناول عمه حجراً وأصاب جبينه (ص)، ليشكل ذلك انحرافاً في التوجه العام عند قوم ما انفكّ يدعوهم لأنهم الخاصة والقرابة، والعشيرة الأقربون.

ويمسح النبي (ص) الدم عن وجهه الأنور، ويهبط عليه الأمين جبرئيل مطمئناً بسورة تعطي بياناً له من الديمومة الشيء الكثير: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِيْ لَهَبٍ وَتَبَّ﴾([4]).

النبي (ص) في مواجهة الشرك:

وحُسم الموقف في صفحته الأولى، وواصل النبي (ص) دعوته بين السر والعلن، فحيث أمكنه أن يتموضع كان يُفرغ من النَّفَس اللاهوتي جرياناً على لسان الناسوت الأقدس.

وتشرَئِبُّ أعناق الأمة تبحث عن مزيد من ذلك المعين الصافي الذي سطرته رسالاتٌ تعاقبت، ونبوات ترتَّبت، وربط بينها في مسمى الوصاية على الأمة.

وهكذا فتح النبي (ص) مع الأمة صفحة أخرى، وكان يدعوهم في خطاب ليِّن، لكن القوم انتقلوا إلى مربع آخر، فكانت المقاطعة للنبي (ص) وآله وأصحابه الذين آمنوا به مبكراً ولم يتأخروا أن ينطقوا كلمة العصمة والإيمان (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

وحصلت المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، وحصر النبي (ص) في شعب أبي طالب، ونصت اللائحة على عدم التعامل التجاري مع النبي (ص) وأنصاره بأي شكل من الأشكال. وهكذا اليوم، فالقوم أبناء القوم، والمسيرة هي المسيرة، والتاريخ يعيد نفسه، ولكن لا يصح إلا الصحيح.

ومما نصت عليه تلك اللائحة عدم التزاوج معهم ومنهم، بأي شكل من الأشكال، ويكاد هذا الأمر يُحدث شرخاً كبيراً في البناء الذي ينسجُ على أساسه المجتمع الراشد.

ثم لم يكتفوا بهذا، حتى عمدوا إلى عدم السماح بالحديث مع أحد منهم، وكلنا يعلم أن المقاطعة في هذا الجانب أشد خطراً منها في بنديها السابقين.

بل تعدَّوا ذلك إلى عدم السماح بالاجتماع معهم على مأدبة طعام واحد، وإن كان للأسباب ما يستوجب. ثم ختموها أن تكون يد قريش المناهضة للنبي (ص) في رسالته يداً واحدةً عليه وعلى أهل بيته وأنصاره. لكنه استطاع أن يتجاوز بالرسالة حدود هذا المربع، وأن يسقط أضلاعه الأربعة بتسديد من السماء.

وطويت صفحة الشِّعب بما اكتنفته من مشاهد مأساوية، ولو لم يكن إلا فقدان الكفيل لكفى، وهو مؤمن قريش، ووالد مولى المتقين. ولو لم يكن إلا غياب أم المؤمنين (ع) لكفى.

لماذا واجه

فما هي الدوافع والبواعث التي دعت هؤلاء أن يتقاطعوا مع الصادق الأمين، وهو صادق أمين بحسب وصفهم وإقرارهم؟

هناك مجموعة من الدوافع والأسباب التي لا ترتقي بمجموعها إلى ما يشكل سبباً مقنعاً، إنما هي حالة نفسية فرضت وجودها على المشهد ورجالاته، وتتلخص بما يلي:

1 ـ لماذا لم ينزل القرآن على واحد من أثرياء مكة، ونزل على فقير من فقرائها؟ وهذه إشكاليات لا يمكن أن يتوقف عندها المرءكثيراً؛ لأنها لا تستحق ذلك، فضعفها فيها، وإلا فإنها تسير بجريان الزمن وتمتد معه. والفضل الإلهي بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء، والخلل في الوعاء الصالح القابل للاستقطاب، والمستقطَب هنا ليس أمراً مادياً، إنما يعني رسالة السماء لأهل الأرض قاطبةً.

2 ـ لماذا لم ترسَل الملائكة معه أو إليه؟ وكأنهم كشفوا ما وراء الستار، فحركة النبي (ص) منذ اليوم الأول الذي أنار بطلعته الوجود، والملائكة عن يمينه وشماله، وبين يديه ومن خلفه، ومن فوقه، يحفظونه:

         بلغ العلا بكماله                 كشف الدجى بجماله

         حسنت جميع خصاله               صلوا عليه وآله

  وحيث إنه لا سبيل لإقناعهم، لأن ثمة مقدمة لم تكن مستحكمة وثابتة في البين، ومستقرة في ذهنياتهم، لأن مسألة الملائكة من الأمور المعنوية التي لا تُلحظ بالبصر المادي، إنما لها ظرفها المعنوي، ودون أن يستقر هذا المعطى في ذهنية ذلك الجمع خرط القتاد.

3 ـ مطالبة النبي (ص) بوحدة الإله وإلغاء الآلهة المتعددة، فكلنا يعلم، من خلال ما ورد في التاريخ، أن على الكعبة من الأصنام ما يلبي الحاجة عند شيوخ العرب وزعمائها، فلكل قبيلة إله، لا ينفع نفسه فضلاً عن غيره، لكن الذهنية هي الذهنية، وهي عدم التعاطي مع إله واحد للجميع.

4 ـ أن النبي (ص) دعاهم إلى عالم الغيب، ومنه عالم الآخرة، الذي كان يقضّ مضاجعهم إذا ما قرأوه في بيت من الشعر حفظته الذاكرة أو سجله ديوان عام.

5 ـ ادَّعوا أن النبي (ص) لم تكن له تلك المعجزات التي جرت على يد من تقدمه من الأنبياء والرسل، حتى تطاول بهم الأمر أن طلبوا منه رؤية الله تعالى جهرةً، وأن يكون الله ـ جل وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ـ بين أوساطهم، يتحدث معهم، ويأخذ ويعطي.

هذه الصدمات التي وجهها النبي (ص) للإنسان العربي في تلك المرحلة فجرت في داخله مجموعة من البراكين، تمّ استثمار قسم منها فيما ينبغي أن يُستثمر، والقسم الآخر تم صرفه في عرقلة مسيرة الرسالة. وأؤكد مرة أخرى أن التاريخ يعيد نفسه، والشواهد أكثر من أن تعدّ وتحصى.

ودخلوا مع النبي (ص) في مساومة على أساس من تقاسم الحصص، وهي أن يعبد النبي (ص) آلهتهم سنة، ثم يعبدون الله سنة. وقد بُنيت هذه الذهنية على مجموعة من الأسباب التي لا يفكّ شفرتها إلا من تعمق في علم الاجتماع، وغربل صفحات التاريخ الماضي ولملمها، وانتزع منها ما يمكن أن يُنتزع، ليصير بعد ذلك إلى نتيجة، يهيئ على أساس منها أرضيةً للحكم على المجتمع في ما لَه وما عليه.

إلا أن هذه المساومة وصلت إلى طريق مسدود، وأرجعتهم للمربع الأول، وهو قول النبي (ص) لهم: قولوا لا أله إلا الله تفلحوا.

ثم جاءت المساومة في بند آخر، وهي إلغاء الآيات الشاجبة للآلهة والمسفهة للأحلام، من القرآن الكريم. وهو ما نراها في واقعنا اليوم أيضاً.

كما كانت هنالك الكثير من المطالب من النبي (ص) من قبيل تفجير الينابيع على وجه الأرض، وغير  ذلك.

وسار النبي مع القوم سيراً سُجُحاً([5])، فكان رحيماً بهم بكل ما تعطي هذه المفردة من المعنى، سواء الرحمة بعنوانها العام أم الخاص، فما انحلَّ عن رحمان كان عموماً، وما انحل عن رحيم كان خصوصاً، وكان من كرمه أن جمعها للأمة، إلا أنها عاكسته في المسير، وأدارت له الظهر، وإلى يومنا هذا تدير ظهرها له، ولو أنها اقتربت منه وطهّرت داخلها وخرجت بعد التخلية إلى المقام الثاني، وهو التجلية، ثم أضافت مقام التحلية، وهو الأسمى والأهم، لما كان وضعها على ما هي عليه اليوم، حيث يقتل المسلم أخاه المسلم، فهل في ذلك نصٌّ قرآني وتلبية دعوة للنبي (ص) أو هو تمرد على الكتاب والنبي؟ بل الأكثر من ذلك بكثير، أن كتاب النبي (ص) الذي جاء به من السماء لينير للأمة طريقها ويضع لها العلامات المدللة والموصلة إلى السعادة الكبرى، ردّته عليه الأمة.

فلو أرادت الأمة سعادتها المنشودة، وهي الضالة المقصودة، عليها أن تعود قليلاً إلى الوراء، لا لتتصفح وريقات القرآن الكريم، أو تستظهر الآيات أو تحسِّن في أدائها له، أو تدخل في مسابقات هنا أو هناك، أو تتغنى به، أو تتباهى أو تتبرك، إنما عليها أن تستثيره ليوجد في داخلها حراكاً، ليصنع من كل فرد مسلم رسالياً يحمل القرآن والرسالة والهدي مشروعاً.

إننا لا نحتاج إلى مفردة تضاف بقدر ما تُبيِّن، ولا إلى معينٍ بقدر ما نحن بمسيس الحاجة أن نعين أنفسنا على أنفسنا، كي نستجلي ونستوضح.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجد هذا الحديث صدىً وطريقاً لمن يرغب في ذلك. وشكري لإخوتي الأحبة القائمين على هذا الحفل الطيب المبارك، وأسأله تعالى أن يكتبنا وإياكم من زوار النبي (ص) والسائرين على نهجه، والآخذين بمعطيات دستوره الخالد في الدنيا، وأن يجمعنا وإياه تحت ظل واحد بين يدي القدرة: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُوْنَ ~ إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ([6]).   

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.