نص كلمة بعنوان :أصناف الناس في إتباع أهل البيت (ع)

نص كلمة بعنوان :أصناف الناس في إتباع أهل البيت (ع)

عدد الزوار: 666

2013-02-13

يقول (ع) وهو يقسم الأتباع إلى شرائح ثلاث: «افترق‏ الناس‏ فينا على ثلاث فرق: فرقة أحبونا انتظارَ قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا وحفظوا كلامنا، وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار. وفرقة أحبونا، وسمعوا كلامنا، ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا، فيملأ الله بطونهم ناراً يسلط عليهم الجوع والعطش. وفرقة أحبونا وحفظوا قولنا وأطاعوا أمرنا ولم يخالفوا فعلنا فأولئك منا ونحن منهم»([1]).

فالفرق الثلاث افترقت فيهم (ع)، وليس عنهم، بمعنى أن الجميع يدَّعي أنه من شيعة أهل البيت (ع) وأتباعهم، إلا أنهم على ضروب ثلاثة، فهناك من يحفظ كلامهم، ويستظهر رواياتهم، ويتشوق لظهور الإمام المهدي (عج)، لكن الهدف قد يكون للدنيا. فلا يتطابق قولهم مع فعلهم. والنتيجة ستؤول بهم إلى النار، وهؤلاء شيعة كما هو صريح الرواية.

وهناك أيضاً من يحبُّ أهل البيت (ع) ويحفظ أقوالهم، ولم يقصر في فعل تجاههم، فهو يحضر المجالس، ويشارك ويبذل ويفعل ما يفعل في تعظيم الشعائر، وهو أمر مطلوب، إلا أن هذا الطقس الظاهري ليس هو كل شيء إن لم يكن المحرك فيه ابتداءً ومسايرةً وخاتمةً هو الإخلاص لله تعالى.

فلا قيمة لعمل دون النية الخالصة لوجه الله، فكم من قائم بعمل ليس له من عمله إلا الجهد والتعب، فقد وردت العديد من الروايات في هذا الشأن، منها مثلاً قوله (ص): «ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه»([2]). فهذا يقرأ القرآن، وربما يقرأه بجوار الكعبة المشرفة، لكن ذلك لا يشفع له ما لم تكن هنالك استجابة لمنطوق الآيات الشريفة، وأثر في سلوكه، قولاً وفعلاً.

ومنها قول الإمام الصادق (ع): «لا تنظروا إلى طول ركوع الرَّجل وسجوده، فإن ذلك شي‏ء اعتاده، فلو تركه‏ استوحش‏ لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»([3]).

ويقول (ص): «في الإنسان مُضغة إذا هي سلمت وصحّت سلم بها سائرُ الجسد، فإذا سقمت سقم لها سائر الجسد وفسد، وهي القلب‏»([4]).

فهذا الصنف من الناس يسعون من خلال حبهم لأهل البيت (ع) وعملهم إلى استئكال الناس باسمهم، وسيكون مصيرهم أن يملأ الله بطونهم ناراً.

فمن مظاهر الاستئكال، أن يقترض أحدهم من المؤمن الموالي، فيقرضه حباً في أهل البيت (ع) لكنه يأكل ما أخذه فلا يفي بدينه.

يحكى عن أحد المصريين أنه أتاه مقترض أراد منه مبلغاً من المال، فقال له: أعطيك المبلغ شرط أن تقبّل يدي، فقال الرجل: ولم؟ قال: لأنني سوف أتيك يوماً أقبّل رجلك فلا تفي بحقي.

وهناك فرقة ثالثة، ـ وهم أنتم إن شاء الله تعالى ـ وهم الذين أحبوا أهل البيت (ع) حباً واقعياً، ليس فيه متاجرة أو مزايدة على أحد.

يقول الإمام الصادق (ع): «إنّ الإيمان‏ عشرُ درجات‏، بمنزلة السلَّم، يُصعد منه مِرقاةً بعد مِرقاة فلا يقولَنَّ صاحبُ الاثنين لصاحب الواحد: لست على شي‏ء، حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تُسقِطْ من هو دونك فيسقطَك من هو فوقك. وإذا رأيت من هو أسفلُ منك بدرجة فارفعه إليك  رفق، ولا تحملَنَّ عليه ما لا يطيق فتكسرَه، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره»([5]).

فهؤلاء أحبوا أهل البيت أيضاً، وحفظوا كلامهم، وعملوا، إلا أن أعمالهم كانت طاعة خالصة لله ولأهل البيت (ع).

لقد أطبقت كلمة المسلمين من الشيعة والسنة وأجمعت على صدق منظومة أهل البيت (ع) وطهارتهم، بما لم تجمع على أحد من البشر غيرهم، وهذه قيمة سامية لا بد أن نحافظ عليها.

نظرة في حياة الإمام الصادق (ع)

 عاش الإمام الصادق (ع) ظرفاً زمنياً فيه من الخصائص الكثير مما يتميز به عن سائر الفترات التي عاشها الأئمة (ع) وهذا من البداهة بمكان، حيث إن الدولة متى ما انهارت، في أي زمان ومكان، فإنها تُخلِّف وراءها مساحة فارغة لا بد أن تُملأ من قبل الدولة التي تأتي على أنقاضها. كما أن من خصائص الدولة التي تأتي على أنقاض الدولة المتقضي عهدها، أنها في بدء مولدها لا تحمل مقومات القوة والاقتدار للإمساك بجميع جوانب الحياة لتلك الدولة التي تقوم على رعاية شأنها كحكومة مثلاً.

وفي الزمن السابق ربما لا نستجلي المصداق إلا من خلال وريقات التاريخ، لنستجلي من خلال ذلك معطيات المفهوم، أما اليوم فقد أصبحت المصاديق من الكثرة بمكان، بحيث يمكن للإنسان أن يستنطق التاريخ من خلال شواهد معاصرة. ودونكم بعض الدول التي تغيرت فيها الأنظمة، فمما لا شك فيه أن الأنظمة بما تحمله من موروثٍ وخصائص صفاتية معينة خلّفت وراءها فراغاً، ويفترض أن لا يكون القادم امتداداً لذلك الموروث، إنما لا بد أن يؤسس لدولةٍ ناهضة على خلاف ما تقدم، ففي هذه المساحة تجدون الصراع السياسي والفكري والعقدي والاقتصادي وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى أن الانفلات سيكون هو سيد الموقف، فمن يبحث لنفسه عن موطئ قدم فإن الظرف يساعده، وتبقى الحكمة، هل تسود الموقف ؟ أو أنّ ما يقابلها هو الذي يتصرف في مفاصل الأمة والمجتمع؟

كلنا يعتقد أن أهل البيت (ع) هم سادة الكون عقلاً وعلماً وحكمةً، ولكن تكالبت عليهم الظروف، وتقاطع معهم أصحاب المصالح، وناصبوهم ونابذوهم وقاتلوهم وأقصوهم واستقصوهم حتى في محبيهم ومريديهم.

وحيث إن الدولة الأموية تقضت، والدولة العباسية جاءت على أنقاضها، فإن الانفلات كان آنذاك سيد الموقف، وكان من الحتمي أن ينهض الإمام الصادق (ع) بمسؤوليات ما كان يتسنى للمعصوم من قبله أن ينهض بها، لأن الدولة الأموية كانت في أشد استحكامها، والدولة العباسية لم تقرأ مستقبلها، بل إنها لم تثبّت أقدامها بعد، فهي تريد أن تستقطب المعارضة من هنا وهناك، ولا معارضة مؤثرة في تلك الفترة إلا تلك الحركات التي يقوم بها أبناء الحسن (ع) تارة، وأبناء الحسين (ع) تارة أخرى، فحركةٌ هنا ومناوشة هناك، كانت في النهاية مزعجة مرهقة مكلفة للدولة.

وكان هدف الدولة الناشئة أن تستقطب الرؤوس المؤثرة لإخماد تلك الثورات والحركات، وكان وجه الطائفة هو الإمام الصادق (ع) ويفترض أن يُدارَى من قبل الحاكم. ثم إن مداراة العلويين كانت تتلاءم مع الشعار المرفوع، لأن العباسيين لما أرادوا إسقاط الدولة الأموية المروانية، رفعوا شعار الرضا من آل محمد (ص) ولما وصلوا إلى السلطة انقلبوا على العنوان، ولكن رغم انقلابهم الواضح البين، إلا أنهم لم يغلقوا الملف تماماً، إنما تركوا مجموعة من المساحات يتحركون على أساسها.

وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك من صالح أهل البيت (ع) أي أن الدولة عندما تقرّب أحدهم، فليس حباً فيه ولا في البيت العلوي ولا في النهج والسلوك العلوي، إنما رغبة في جلب مصالحها، وتهدئة الأوضاع لصالح النظام الحاكم، لكي تستقر الأمور وتبني بنيانها كما تريد.

والإمام الصادق (ع) عندما يلتفت من خلفه إلى التاريخ قليلاً، وهو يقدر بحوالي قرن من الزمن، فإنه يجد أن النبي (ص) ما انفكّ ينادي في أوساط المجتمع المدني من المهاجرين والأنصار: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب»([6]). وهذه أصبحت أشبه بأنشودةٍ تتردد على لسان النبي الأكرم (ص) لكن هذه المدرسة أُوصد بابها، وأغلق إغلاقاً محكماً، لا بقفل من حديد، وإلا لأمكن أن يكسر، ولم يصبَّ عليه الرصاص، لأمكن إذابته وفتحه، ولكنها كلمة واحدة، كان لها من القدرة في الفعل والتأثير أن تُدفع ضريبتها إلى يومنا هذا، لا ممن هو موالٍ لأهل البيت (ع) فحسب، ولا ممن يسير على نهج الرسول الأعظم (ص) بل إن البشرية جمعاء تشترك في دفع ضريبة تلك الكلمة. وهي أن النبي (ص) كان على فراش الاحتضار، فقال لمن حوله: «هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»([7]). فلم يكلف البعض نفسه إلا كلمة واحدة وهي: إنه يهجر، فهي كلمة لا تمحوها الكلمات، ولا تلغيها المواقف والتضحيات، ولن تُلغى إلا بيد الخلف الباقي من آل محمد (عج).

والإمام الصادق (ع) كان ممن بذل جهوداً حثيثة لإرجاع الأمة إلى مسارها الصحيح، وفي إعادة البوصلة إلى الجهة التي ينبغي أن تشير إليها، لكن الأمة ـ مع شديد الأسف ـ لم تتعاطَ الأمور كما ينبغي وما يتناسب والفرصة المتاحة والجهود المبذولة. لذا فإنه (ع) قرأ المجتمع من حوله، فرأى أنه طبقات، وليس طبقة واحدة.

ومن ذلك ندرك أنه من الظلم أن يُحكم على مجتمع بأسره أنه لا يعي دوره، كما أنني أعتقد أن من الظلم أيضاً أن يُعطى الإنسان صفة من الكمال لم يصل إليها بعد، إنما هو في طور السعي إليها فقط. يقول تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ‏﴾([8]).  فأعمالنا فيها الحسن والسيِّئ، ومن يميز بين الحسن والسيئ ليس أنا ولا أنت، لأننا لم نُعطَ الأهلية ولا السلطة لنميز بين أعمال البشر، إنما هنالك يوم يأتي فيه النداء من العرش: ﴿وَقِفُوْهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُوْلُوْنَ﴾([9]). فهناك نُسأل حتى عن جزء كلمة، لا عن كلمة بكاملها، وعن الحركة والسكون. لذا نجد في القرآن سورة كاملة تسمى بسورة الهمزة، تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزة﴾([10])، والهمز واللمز ليس كلاماً، كما هو معروف. ففي يوم القيامة توضع الموازين القسط، والأعمال هناك ترجح بأمرين:

1 ـ إذا وفد المرء إلى عرصة يوم القيامة، ووفد عند الميزان، وجاءت الولاية فحلت في إحدى الكفتين، فحينئذٍ يرجح العمل. فالمرجِّح الأول هو الثبات على الولاية لمحمد وآل محمد (ع). أما الأثر الكبير للولاية في الدنيا، فإنها تطهر الذرية، وتوسع الرزق، وتنير الوجه.

وهذه القيمة السامية العالية للولاية، لم ترد فيها آية ولا رواية ولا قول ولا فتوى من عالم، تمنح زيداً من الناس أن يصف عبداً من عباد الله يوالي علياً وآل علي (ع) بأنه موالٍ أو خارج من الولاية، وليس بيد أحد أن يخرج أحداً من شيعة علي (ع) ومواليه من ساحة الولاء والولاية، حتى المرجع نفسه، ليس بيده أن يقول: فلان موالٍ، وفلان ليس موالياً، لأن الولاية في القلب، وإبرازها يكون من خلال الأقوال والأفعال، بل إن المرء قد لا يستطيع أحياناً أن يبرز شيئاً من علائم الولاية بالأقوال والأفعال.

2 ـ الدعاء الذي طالما تردد على ألسنتنا، وربما لم نوله شيئاً من العناية، لكنه خفيف على اللسان، ثقيل في الميزان، بل أثقل شيء في الميزان بعد الولاية لهم (ع) ذلك هو الصلاة على محمد وآل محمد (ع) .

ففي الحديث الشريف أن أعمالنا كلها سوف تجمع، من الصلاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين والإحسان للجيران والتعاون مع أفراد المجتمع والنهوض بالمسؤوليات والمشاركة في الجنائز وغيرها، فيبقي الميزان متأرجحاً، لأن الكفة الأخرى منه أُثقلت أيضاً بالكذب والنميمة والبهتان والغدر والمحاربة والتسقيط، فالعمل السيئ ثقيل، بل ربما يكون أثقل أحياناً، فلو أنني دخلت مجلساً، وصليت على النبي (ص) فإن تلك الصلوات تحفظ في ميزان العمل، ولكن لو اغتبت أحداً من الناس، ثم نَقل أحد الحاضرين تلك الغيبة إلى مجلس آخر، ثم انتقلت إلى مجالس أخرى حتى بلغت ألفاً أو أكثر من الناس، فإن ذلك العمل سيكون عبارة عن سنّة سيئة، والنبي (ص) يقول: «من سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»([11]). وذلك ليس في فترة عمره فقط، إنما إلى يوم القيامة، ولا ندري كم بيننا وبين القيامة، وهكذا يبني الآتون أعمالهم على أساس جرف هارٍ، وهو تلك السنة السيئة. فلا ينفع بعد ذلك طلب براءة الذمة ممن اغتبته، لأن ذلك غير كافٍ، فهناك الكثيرون شاركوا في هذا العمل، ولا بد من الرجوع إليهم وتوضيح الأمر وإزاحة الشبهة عن المغتاب.

يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ‏ بَعْضُكُمْ‏ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحيم‏﴾([12]).  فلو أن أحداً دعاك إلى مأدبة، فيها قطع من لحم أخيك الميت، فهل لك أن تتصور أو تفكر ولو تفكيراً، أن تتناول من ذلك اللحم؟ إنها صورة في منتهى البشاعة، انتزعها القرآن الكريم كي يمنع ألسنتنا عن الغيبة ويردعنا عنها، أما نحن فلا نستطيع أن نرى هذه الصورة، لأن القلوب يغطيها الرين، والمرآة عندنا لا تعكس الصورة كما ينبغي، فهي مغلفة بالمجاملة والنفاق الاجتماعي والتعامل مع أكثر من طرف، لا مع الله وحده، وإدراة الظهر له سبحانه وتعالى، وإلا فإن الحديث الشريف يقول: «صانع وجهاً يكفِكَ سائر الوجوه»([13]). فلو كان التعامل مع الله وحده لكانت الأمور مختلفة عما هي عليه الآن.

لنأخذ مثلاً، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي هذه الفريضة شروط ومقدمات وضوابط، وليس هناك من يجوِّز لأحد أن يهتك حرمة الآخر بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم، يمكن لنا أن ننتقد الفعل ونناقش الأفكار، بأنها غير تامة المقدمات مثلاً، أو أن النتائج غير متطابقة مع المقدمات، أو ما إلى ذلك من نقد الأفعال والأفكار، أما الأشخاص فيجب أن نحفظ حرماتهم، فلا يجوز أن نتهم صاحب الفكرة بأنه أراد سوءاً بشريعة سيد المرسلين.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.