نص كلمة بالعتبان بعنوان: نورٌ في شعاب مكة
نورٌ في شعاب مكة:
قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ~ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُوْنَ فِيْ دِيْنِ اللهِ أَفْوَاجَاً ~ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَاً﴾([2]).
ولد النبي (ص) في مكة المكرمة، وخرج منها بعد أن صدع بالرسالة متستراً، وعاد إليها بعد أن ثبت الرسالة فاتحاً. أما دينه فهو أكملها الأديان وأشرفها وأبينها وأوضحها وأسمحها وأسهلها.
إن النبي محمداً (ص) هو إشراقة السماء على الأرض، وهو النعمة المهداة، والحقيقة المطلقة التي لا تجاريها حقيقة. وهنالك موارد عدة يمكننا من خلالها أن نصل إلى مبتغانا في التعرف على النبي (ص) ولو في حدود دائرة النسبية، منها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وآل النبي (ص) والخلف الباقي من آل محمد (عج) كحقيقة.
فالنبي (ص) صدع بالرسالة في مكة، وأخذت طابعها السرِّي، ولما اجتمع عليه من اجتمع أمرته السماء أن يصدع بالرسالة، لا كما يحاول البعض أن يوهمنا، أن ثمة رجلاً أشار على النبي (ص) أن يصدع برسالته، فكلنا يعلم أنه ما من صغيرة ولا كبيرة صدرت من النبي (ص) إلا وهي بعين السماء.
أيها الأحبة: اتخذ النبي الأعظم (ص) من البيت الحرام منطلقاً لرسالته نحو العالمية، فكانت الانطلاقة الأولى من فوق الصفا، وعند الصفا أيضاً بدأت المواجهة الأولى أيضاً على نحو العلن والانكشاف.
كان النبي (ص) يتبتَّل في غار حراء، ويتحنَّث في البيت الحرام، وكانت عيون أهل مكة ترقب الوضع، بين مستغرب ومستهوٍ ومستخف. وكان (ص) يتعبد على ملة إبراهيم (ع) وهي ملة الإسلام، وهو في مجتمع يعيش النقائض، ويؤمن بالشيء وضده، لأنه عبارة عن خليط، في قبليته وثقافته ومقدراته المالية وانتماءاته.
فلكي يجمع هذا الشتات، صنعته السماء بما يتوافق ومتطلبات المرحلة، فهناك كمال مطلق، وقوة واقتدار مطلق، ومدد مطلق متصل بين الأرض والسماء، فالدين حقيقته مطلقة. وهذه الهداية والبشارة تحتاج إلى تضحية، فالذين يراقبون ويترقبون كانوا يتحينون الفرص أن يسترقوا السمع، فيما يجري على لسان النبي (ص) حال قيامه وقعوده وركوعه وسجوده.
أما طبقة النخبة من المجتمع المكي ـ بناء على النظم الطبقي في ذلك المجتمع ـ فكانت تتصيد المفردات، علها تجد تفسيراً لها. فعندما يقول النبي (ص) صادحاً بالقرآن: ﴿اقْرَأْ﴾ ثم يسكت، فإن الذين يراقبون ويرقبون، يغربون في خيالهم لينفصلوا عن الواقع الذي هم فيه، لكن سرعان ما تشتد روح العصبية والغلبة على الأنا الأعلى في داخلهم، مما يستوجب ردة الفعل القاسية، وهذا ما حصل عند الصفا، فقد بدأ النبي (ص) انطلاقته من فوق الصفا، بمفردات من السماء، هي دعوة صريحة للتوحيد: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وكانت هذه المفردة تعني إلغاء جميع ما وضعوه من تماثيل ونُصُب من هبل واللات والعزى ومناة وغيرها، حيث أسقطها النبي (ص) بهذه المفردة، فالإله واحد هو الله سبحانه وتعالى. فكانت ردة الفعل قاسية.
تصوروا أن شخصية محترمة مقدسة في الوسط الاجتماعي، يُعتدى عليها مادياً أو معنوياً في وسط المجتمع الذي تقدس فيه، فما عسى أن تكون ردة الفعل؟ لا شك أنها ستكون قاسية. فما ألغاه النبي (ص) من خلال هذه الكلمة لم يكن إنساناً، إنما كان في تصورهم ومعتقدهم، وكينونتهم الداخلية إلهاً، يرسل السحاب ويسم الأرزاق، ويقبض الأرواح. وكان لكل قبيلة صنمها الذي تعبده، ومن هنا نجد أكثر ثلاثمئة وستين صنماً على ظهر الكعبة، لكل قبيلة صنم أو أكثر، حسب ثقلهم المادي والعشائري. ثم يأتي النبي (ص) ليقول لهؤلاء: دعوا هؤلاء، فإنهم ليسوا آلهة، فما عسى أن يكون رد فعلهم. لذا نجد أنهم يقولون عن النبي (ص) مخاطبين بعضهم: إنه سفه أحلامكم.
وكانت أول ردة فعل من القرابة القريبة من النبي (ص) ولم تكن بعيدة المنشأ والصناعة والتصدير، من عمه أبي لهب، الذي رفع حجراً وصك به وجه النبي (ص) وقالله كلمته الشهيرة المشؤومة: تباً لك ولما جمعتنا من أجله. ورفع النبي (ص) كمَّه ليمسح الدم.
نعم، كانت هنالك صدمة، ولا بد أن تتدخل السماء، فنزل الأمين جبريل ليهوِّن من فداحة الخطب وصعوبته على قلب النبي (ص) فنزل بقوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِيْ لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾([3]).
وتفرق القوم، ورجع النبي (ص) إلى البيت، فاستقبلته أم المؤمنين خديجة (ع) تلك المرأة الجليلة العظيمة، التي اكتسبت تلك العظمة والجلال؛ لأنها تعرفت حقيقة محمد (ص) قبل أن تعرفه سائر العرب، فكانت أسبق امرأة لمعرفته، بل سبقت الرجال لمعرفته، ما خلا علياً (ع) وأباه أبا طالب. نعم، استقبلته لتهوّن ما نزل به.
وواصل النبي (ص) مسيرة الدعوة للإسلام، فالقرآن يؤصل للعقيدة، ويربط الناس بالمبدأ وهي الذات الإلهية، وكانت الأدلة تتناسب وذهنية المجتمع، إذا أخذناها على ظواهرها، وإذا ما طرق بابها الفيلسوف المتعمق، والحكيم المتألق، وجد في عين الدليل الذي تفهّمه الإنسان العادي، ما فيه من المغلقات الذي يستوجب البحث الطويل العميق.
إن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وما فيها من الإثبات بعد النفي، أرهق علماء العربية والاعتقاد والتفسير أنفسهم كي يستحصلوا ما بين الركيزتين من الجمع والاستنطاق، وهذا ليس بالأمر السهل، فهي خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، شأنها في ذلك شأن الصلاة على محمد وآل محمد (ص).
إن هذا الدين الذي حاربته مكة منذ أول يوم من ظهوره، عاد إليها من جديد، يوم عاد إليها النبي (ص) في السنة الثامنة للهجرة، وتحقق الفتح الكبير، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فما الذي حصل؟ وكيف دخلت هذه الأمة المعاندة المقاتلة للنبي (ص) التي نصبت العداء للدين في أسسه ومبادئه، بهذه الاندفاعة الطويلة العريضة؟ بحيث وصف القرآن الكريم دخولهم في دين الله أفواجاً، لا أفراداً؟ فما الذي حصل؟ أليس النبي هو النبي والدين هو الدين؟
الدين والمجتمع:
إن علم الاجتماع لو عرضت عليه هذه القضية لأعطانا الكثير من المداليل، التي يمكن أن نستفيد منها في مسيرة حياتنا، وذلك يتمثل في عدة أمور، منها:
أن الدين للمجتمع، وعلى المجتمع أن يتعاطى الدين في حدود معطياته، ولكي يتعاطى تلك المعطيات عليه أن ينهل من منهل عذب صافٍ، لم تعكِّره ذهنية العابثين. فالأمناء على الأمة في زمن الغيبة هم العلماء، والألف واللام هنا للاستغراق، أي الشمولية لكل عالم. فمن هو العالم المؤتمن على هذه الوديعة (الدين)؟ والتي تعني منظومة القرآن والسنة المطهرة التي صدرت محمد وآل محمد (ص)؟
إن العالم هو من يخشى الله تعالى، والذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾([4]). وللخشية قراءتان: قراءة تمظهرية، وأخرى واقعية، فالأولى هي كثرة التسبيح والتظاهر بالخشوع حين المشي، وغيرها مما يتمظهر به المرء من الروحانية.
أما الخشية الواقعية، فقد لا يبدو على سلوكه ومنطقه ما يدل على ذلك، لكنه يعيش في واقعه الخشية، فإذا ما انفرد مع الذات المطلقة فإنه يحسن التعامل، وعندما يتعاطى القرآن يحسن التعامل كذلك، وكذلك عندما يتهجد في الأسحار وغير ذلك.
ولكن، متى نستطيع أن نفرق بين التمظهر والواقع؟ إنه الامتحان والتجربة، عند صدق الحديث وأداء الأمانة. فقد تجد من يكثر العبادة، ويتمظهر بالزهد، يقترض منك يوماً مبلغاً من المال، فلا يصل إلى المسجد، خوفاً أن يراك.
فالعالم الحقيقي هو من ينأى بنفسه عن التمظهر، وينصرف لبناء الذات من الداخل، وقد لا يكون كثير الزيارة للأضرحة، ولا يتردد على الحج كل سنة، وممن لا يحملون في أيديهم المسابح والمحابس. يقول الإمام علي (ع): «تَكَلَّمُوا تُعرَفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه»([5]).
إخلاص النية في العمل:
يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَهْوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ﴾([6]) وذلك إذا كنا نتعاطى الدين على نحو الحقيقة الإلهية، أما إذا كان بمثابة المتاع، يدور مدار الاستفادة الخاصة أو الشخصية، فإن حصلت حملته على ظهرك، وإلا طرحته أرضاً، فهذا ليس بدين.
وإن كان الدين ما يبرر لنا ويفتح لنا آفاقاً للتخلص من الدين نفسه، فهو ليس بدين. فالدين معنا، والقرآن معنا، لأن الله سبحانه وتعالى معنا في جميع حركاتنا وسكناتنا، وأقوالنا وأفعالنا، وهنالك ملائكة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، وسوف تنشر الصحف في يوم يختم فيه على الأفواه، وتتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل، وعندئذ لا يدفع أحد، لا من صديق ولا من قريب.
ثم يقول تعالى: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ﴾ فهو معنا، بصيرٌ بما نعمل، والقدرة السماوية تلاحقنا في المواطن التطبيقية للدين، سواء على نحو التمظهر الشكلي، أو الواقعي الثابت المستقر المستودع. فإن حصل التطابق بين الدين وتطبيقه سعد المجتمع، فهنالك حسابات ومراتب في الدنيا، وحسابات ومراتب في الآخرة.
إننا نجد البعض يمر بمنزل فخم من حيث البناء، فيتمنى أن يكون له، وهذه ليست حسرة، بل حتى في القيامة، ليست الحسرة أن تفوته القصور والحور والأنهار، إنما الحسرة أن يضرب بينه وبين أنوار محمد وآل محمد (ص) حجاب. وتلك هي الحسرة الكبرى. والحسرة أن يبكي الباكي على الإمام الحسين (ع) ويزوره وينفق في إقامة شعائره، لكنه يحرم من رؤيته يوم القيامة. يقول تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوْا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوْرَاً﴾([7]). والسر في ذلك، أن من عمل العمل، لم يُرد به وجه الله سبحانه وتعالى. لا في الزيارة ولا في صلاة الجماعة ولا غيرها.
ويقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُوْنَ خَبِيْرٌ﴾([8])، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت التجارة مع الله، أما مع غير الله سبحانه فهي صفقة خاسرة، لا نتيجة ولا محصلة ولا طائل من ورائها. ففي القيامة نرى أناساً يسعى نورهم بين أيديهم، فالأيدي مادية، والنور معنوي، فمعنى ذلك أن الله تعالى يشق لهم الطريق في عرصات القيامة، وذلك هو نور القرآن المنزل على النبي الأعظم (ص) ونور محمد وآل محمد (ص).
فالحسابات يوم القيامة تختلف عما هي عليه في الدنيا، فمن السهل عليك في الدنيا أن توهم صاحب الحساب وتُخطّئه، إما باليمين أو بغيره من الطرق، أما يوم القيامة فلا يمكن أن يحدث شيء من ذلك، إذ لا يمكن لأحد أن يتكلم مطلقاً.
وبهذه المناسبة الطيبة، والحفل الكبير، أود أن أذكر بضرورة إقامة مثل هذه المجالس المباركة بهذه المناسبات العظيمة، التي تترك الكثير من الأثر في النفوس، وتبعث البركة في الأماكن التي تقام فيها، وتدخل السرور على أهل البيت (ع) فنحن نعتقد أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، يشرفون على عوالمنا، فهذا المجلس يضيء لأهل السماوات، لأن من نستحضر ذكره هم محمد وآل محمد (ص).
وفي ختام حديثي أقول: إننا في زمان هرج ومرج، وزمان الثورة المعلوماتية والاتصالات الهائلة، وأكثر ما يدخل الناس النار حصائد ألسنتهم كما في الحديث الشريف، وليس من يسمع أقل خطراً ممن يتكلم، لأنه بعد سماعه سوف يتكلم. لذا أوصي الجميع، لا سيما الشباب، أن يحذروا ويحتاطوا وينتبهوا، فمعظم ما ينشر لا أساس له، إنما هو مجيَّر وموجَّه، فلا بد من الحذر، لأن هذا العصر الذي نعيشه هو أقرب من العصور السالفة لظهور الإمام المهدي (عج) والأجيال التالية سوف تكون أقرب منا، ولكننا قد نُشرَّف بخروجه في هذا الزمان، فلا بد أن نعد أنفسنا لخروجه، أما نشغلها بالقيل والقال، فهذا خلاف الانتظار الحقيقي.
أمسية النورين
كيف تبدو الأمسيات
أشكركم جميعاً على حسن الإصغاء، وأعتذر عن الإطالة.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.