نص كلمة: العقل الشاهد الحاضر
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على اشرف انبيائه ورسله حبيب اله العالمين ابي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
غفر الله لنا ولكم وتقبل الله منا ومنكم
وقفة قصيرة عند المحكم والمتشابه
جاء في الحديث الشريف عن المولى علي (ع): «إذا وقع الأمر بفصل القضاء ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى وسلم من علائق الدنيا»[2]
القرآن الكريم هو حجر اساس للمعارف الاسلامية وهو هبة السماء لأهل الارض، هبط به الامين جبرائيل (ع) على قلب حبيب الله المصطفى محمد (ص)، فيه آياتٌ محكمات وأخر متشابهات، المحكم منه يستوي الناس فيما بينهم بالاستفادة منه والاقتراب الى معطياته، أما المتشابه فيرد للراسخين في العلم.
من هم الراسخون في العلم
«الراسخون في العلم» هذه المفردة جاء بيانها في مواطن عدة: اختلفت من خلالها القراءات، قول قال بان هؤلاء الراسخون هم اولئك الذين شرفوا بمحضر النبي الاعظم محمد (ص) وسمعوا منه فيكون محصوراً في من عاشه من آله واصحابه؛ جماعة آخرون قالوا: الراسخون في العلم هم اولئك الآل الذين عاشوا النبي (ص) والصحابة الذين عاشوا والتابعون لهم؛ قولٌ آخر يقول بان المراد بالراسخين في العلم هو عموم من امسك بقواعد العلوم واصولها، بعد ان يقطع مسار التحصيل لتلك القواعد والاصول، لكن القول التي ترشد اليه الروايات الخاصة لمدرسة اهل البيت عليهم السلام هو ان المراد هم عبارة عن اهل بيت النبوة، اصحاب العصمة، اصحاب الامامة الخاصة من علي الى الخلف الباقي من آل محمد صلوات الله عليهم اجمعين، السنة المطهرة في عمومها في ما ورد عن النبي وآله هي بمثابة المفاتيح لمن اراد ان يستنطق تلك الآيات التي ليست من الوضوح كما هو الحال عليه في المحكم منها، باعتبار ان القرآن ارشدنا للراسخين في العلم ولا يوجد من يمسك بأسباب العلم في المطلق دون تقييد الا هذه المنظومة النورانية الخاصة المتفرعة عن محمد وعلي (ع).
أهل البيت عليهم السلام هم الراسخون في العلم وليس مطلق العلماء
العلماء لهم قيمتهم لكنهم لا يتمتعون بتلك القدرة الذاتية التي اوجدها الله سبحانه وتعالى في هذه المنظومة يوم اوجدها بغض النظر عن الحديث عن العوالم التي تقدمتها من الذر والانوار.. العلماء اصولهم، قواعدهم، عناصر الاستنباط عندهم هي عبارة عن دورة تحصيلية يعني لا تخضع لناموس التكوين وانما هي خاضعة لناموس التحصيل الذي يشترك فيه جميع الناس، اذ بمقدورك ان تلج حياض الحوزات العلمية او معاهد التعليم الديني ومن خلال ذلك تصل الى نتائج، لكن ليس تلك النتائج الكبرى التي افاضها محمد وآل محمد (ص) على هذا الوجود وانما محدودة الدوائر محسوبة بالنقاط مقننة الحركة، عقيدتنا في اهل البيت عليهم السلام انهم يمثلون منظومة واحدة وان منبع المعرفة عندهم واحد، هذه عقيدتنا جراء ما جاء من النصوص المؤكدة من قبل اهل البيت عليهم السلام لهذه الحقيقة، علومهم ايضا تحتاج الى الكثير من الآليات كي يقف الانسان على معطياتها، لا من باب انها ليست محكمة وبينها وبين لون آخر من الخطاب متشابه ابدا، وانما هم حدثوا الناس على قدر عقولهم فيما امكن الزمان والمكان والحيثيات المصاحبة، لذلك لاحظوا مثلا الامام علي (ع) لم يروى عنه انه وقف في مسجد الرسول الاعظم (ص) في المدينة المنورة ـ رزقنا الله واياكم شرف الوصول اليه ـ ليقول لجمهور المسلمين من حوله «سلوني قبل ان تفقدوني» بينما عندما وقف في مسجد الكوفة وعلى منبر الجامع الكبير التفت الى الجمع بين يديه وقال لهم: «سلوني قبل ان تفقدوني» طبعا الامة قدمت اخرت هذا ما لها وما عليها كتبته بقدرها، لم تكره عليه، كان بمقدورهم ان يسالوا الامام علي (ع) من الذرة الى المجرة ويريحوا انفسهم ويريحوا البشرية من ورائهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك، كان قصار الرغبة والجهد عندهم ان يسأل أحدهم عن كم شعرة في طاقة رأسه! بحيث يتسبب بحرمان البشرية من تلك الفيوضات الكبرى، بحيث وصل بالإمام علي (ع) في لحظة من اللحظات أن يقول لهم «لقد ملأت قلبي قيحا»[3]، هناك رواية منقولة عن الآل عليهم السلام تقول: «ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه غبار ولا يقرء فيه»[4] والامام علي (ع) ابرز مصداق لمعطى هذا الحديث «عالمٌ بين جهال» ممن جهله قومه واضاعوا حضهم فكانت الخسارة عليهم ومن جاء بعدهم والا فعليٌ هو علي، عليٌ من النبي (ص) بمنزلة النور من النور، هذا علي (ع).
دور العقل في سلوك الانسان
نحن مع هذا النص الذي استفتحنا به: «اذا وقع الامر بفصل القضاء» تنزل الامر من قبل السماء على آحاد العباد من البشر خارجاً «شهد على ذلك العقل» سواءٌ مد لك بساط النعمة او طواه عنك، رفع مقامك بين الناس او كان العكس من ذلك، لذلك الحديث الشريف يقول: «من تواضع لله رفعه الله»[5]، اذن حسابات السماء تختلف تماما عن حساباتنا، قد يقول البعض انا لا اعطي من نفسي شيء، أنا أخشى ان يقولون بأن فلان زار فلان، أو أن فلان سلم على فلان، أو أن فلان دعا فلان، أو جلس بجانب فلان أو... الامام علي (ع) في الكوفة لم يكن جلساءه من الطبقة المخملية كما يعبر عنها اليوم، التاريخ لم يحدثنا حتى من الولاة ان مجلس الامام علي (ع) لا يعمر الا بوجودهم وانما كان يعمر بالحكمة التي تجري على لسانه، هذا هو الامام علي (ع) كان يدني منه الفقير ويتحبب له، كان يقرب طالب العلم، لأنه وصية النبي الاعظم محمد (ص)[6] وليس المقصود من طالب العلم هو رجل الدين في مصطلحنا اليوم الذي يلبس الصاية والعباءة والعمامة، وانما طالب العلم كل من يأتي ويسال عن مسألة شرعية سواء في الطهارة مثلا أو في الصلاة أو في سائر الابواب الفقهية وما زاد على ذلك ايضا، واما الذي يكتم علما تعلمه والتي تقول عنه الرواية «من كتم علما نافعا، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»[7] هو هذا الانسان الذي ذهب ودرس وجلس على مأدبة صاحب الزمان واكل وشرب وارتاح وانبسط واهله يتعبون ويرسلون له الأموال حتى يكمل دراسته بعدها يرجع الى بلدته ويغلق على نفسه الباب لتصنع من حوله هالة من القدسية المصطنعة التي سرعان ما تنهار لأول وهلة وعند اقرب صدمة واضعفها، الامام علي (ع) عندما يصف النبي (ص) يقول عنه بانه: «طبيب دوار بطبه»[8] أي ان النبي (ص) كان هو يبحث عن الناس يسير في الاسواق ويجلس مجالس المستضعفين، الامام علي (ع) في احد الأيام وجد امرأة عجوز في سكك الكوفة قد اثقل كاهلها ما على ظهرها، فاقترب منها والتمسها ان يعينها على حمله! هذا هو الامام علي (ع).
قصة قصيرة حول سلمان المحمدي
سلمان الفارسي (المحمدي) عليه الرحمة صنيعة الامام علي (ع) .صنيعة النبي (ص) قبل ذلك ولي من قبل الامام علي (ع) على المدائن في يوم من الايام عندما كان يسير في احد الاسواق واذا بشخصٌ من اهل الترف الذين لا ينظرون الى الناس الا من وراء الطرف وليس له استعداد ان يصلي بجانبه فقير من الفقراء الفلاحين المسحوقين خشية ان ينتقل فقره اليه يسير في السوق فيلتفت الى سلمان الفارسي المحمدي ويقول له: هلا حملت هذا عني ايها العلج! والعلج في اللغة تعني الحمار ـ اجلكم الله ـ فما كان من سلمان ـ يكرم عن هذا الامر ـ الا ان انحنى واخذ الحمل عنه، في اثناء الطريق صادفه احد العارفين الموالين فانحنى على سلمان يقدم طقوس الادب والاحترام، فقال له ذلك المترف وما عسى ان تكون؟ فبادره الشخص الآخر ـ اي الموالي ـ وقال: هذا الوالي من قبل الامام علي (ع)، هذا سلمان! فارتعدت فرائصه، لان بعض الناس لا يحترم ولا يلزم حدوده الا بعد ان يرى الشدة، فاراد ذلك المترف ان يأخذ المتاع من سلمان، فامتنع سلمان وقال: لا يحمله الا العلج! لو نقيس هذا التصرف مع حالنا اليوم حيث اننا لا نتحمل ربع كلمة! فضلا عن كلمة! بالنتيجة سلمان أوصل متاعه وقال له: تفضل، وذهب سلمان فاتبعه ذلك الرجل واخذ يقص الاثر وراءه، واذا بسلمان يعمد الى المسجد ما ان خرج من صلاته، الا وقال له ذلك الرجل: هل دعوت لي ام دعوت عليّ؟ فقال سلمان: بل صليت لك! هذا هو ادب محمد وآل محمد (ص)، العقل يحكم بذلك متى ما سلُم من خلتين العقل السليم يحكم بهذا لكن البعض قد لا يقبل بهذا الكلام، وهذا شيء طبيعي لا يقبل لسببين: السبب الاول انه لم يخرج من اسر الهوى، لأنه يتصور انه عندما يقوم بهكذا فعل فانه سيقلل من شأنه وينظر الناس اليه بعين الاستخفاف والاستحقار! هذا من جانب ومن جانب آخر هو يقول ماذا سيقول اصحابي عني لو رأوني أفعل هذا! نسال من الله سبحانه وتعالى ان يبصرنا بعيوب انفسنا وان ينور قلوبنا بنور محمد وآل محمد انه ولي ذلك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.