نص كلمة:الاطمئنان من أبرز ركائز الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على اشرف أنبيائه ورسله حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[2]
معنى الاطمئنان واثره على النفس
الاطمئنان من المفاهيم الكبيرة الجليلة العظيمة التي متى ما استقرت في نفس الإنسان وتجسدت خارجاً أعطته الشيء الكثير في تقطيع أوصال الحياة حسب المبتغى، الطمأنينة أو الاطمئنان من المفاهيم العالية الجودة، الأنبياء عليهم السلام كان الاطمئنان يملأ جوانحهم وجوانبهم، لذلك كان الاستقرار والثبات والقناعة هو عبارة عن أجنحة يرفرفون من خلالها في الكثير من المساحات، الطمأنينة أيها الأحبة في اللغة هي الثقة وعدم القلق ونحن في هذه الأيام في مسار حياة يفرض القلق وجوده في الكثير من المواقع مما ينعكس على النفسيات، فأنت تواجه ذلك في البيت أي في عالم الأسرة الصغير، وفي المدرسة، وفي حياض العمل، وعند الاندفاع للاختلاط بآحاد المجتمع هنا أو هناك، وعندما يقوم الواحد منا بقراءة سريعة وتتبع يصطدم بالأرقام التي تعنى بجمعها وترتيب الآثار عليها المؤسسات الخاصة المهتمة في جانب التربية والنفس علماً، حيث ان هناك أرقام مرعبة مخيفة مربكة تنذر بمستقبل لا تحمد عواقبه ما لم ترتب الأوراق من جديد وما لم ينهض الطيبون أمثالكم في جمع المعلومات الكافية، ثم الغربلة والجمع، بعد ذلك التجزئة والتركيب، يليها الانطلاق إلى ميدان التطبيق كي يتخطى المجتمع هذا الشبح القادم الذي ما لم نتحرك في وضع السدود أمامه والحلول من أجل تجاوز هجمته الشرسة علينا فلم نكون في حال نحمد عليه، قد نكون وقتها ممن أتيحت له الفرصة كي يوجه اللوم لنفسه ولكن ولات حين مناص، الطمأنينة أيها الأحبة في النفس هي عبارة عن الرضا والسكون والثبات أيضاً فما أحوجنا جميعا ان نعيش حالة الرضا وحالة السكون وحالة الثبات في داخلنا كأفراد كي ينعكس ذلك على الدائرة الصغيرة ـ أي العائلة ـ التي سرعان ما تكبر وتتسع من حولنا وبقدر ما يكون الإنسان على درجة عالية من الاطمئنان بقدر ما يستطيع ان يمد بساطه للآخرين من حوله وبالطبع فان ذوي القربى هم أولى بذلك أيها الأحبة، البعض يقول ان الطمأنينة تعني السعادة لكن الأمر على خلاف ذلك تماماً منطقياً وفق معطى اللغة أيضا فالنسبة بينهما نسبة عموم وخصوص لإمكان اندراج احدهما في الآخر واعني بذلك السعادة ضمن إطار الطمأنينة في عنوانها العام، لان السعادة أيها الأحبة لا تتماشى الا مع مجال المسرات ومساحاتها، على العكس من ذلك الطمأنينة تفرض وجودها وان لم تكن المناسبة تعني الفرح بل حتى في حال الحزن ونزول المصائب والكوارث وفي طليعتها الفقد المر للأعزة والأحبة علينا ـ حفظ الله الجميع ـ
روافد الطمأنينة
أيها الأحبة الارتباط بالطمأنينة أمرٌ مهم الروافد التي تساعدنا على تحقيقه كثيرةٌ أرسلها إرسال جدولة كي احتفظ بشرف الوقت وأهميته لكم جميعاً:
الركون الى الله من خلال تعاهد القرآن الكريم
الرافد الأول الركون إلى الله سبحانه وتعالى من خلال تعاهد القرآن الكريم، ومن الصفات الجليلة التي كان يتحلى بها الفقيد الكبير الحاج مرهون رضوان الله تعالى على روحه الطيبة المباركة المطمئنة وهذا ما يعنيني «الطمأنينة»، كانت العلاقة الخاصة مع كتاب الله في حضره وفي سفره، كان الأكثر حرصا على تلاوة القرآن في المناسبات المختصة بها، كان يعيش رمضان ربيعا قرآنيا، كان يأنس بالقراءة الجمعية والفردية للقرآن الكريم، ومما لا شك فيه ان قراءة القرآن تنمي في داخل الإنسان الشعور بالطمأنينة التي يتولد عنها القناعة، والقناعة وكما تعلمون أيها الأحبة أمرٌ مهم خصوصا ونحن نستشرف آفاق عالم جديد، إذن قربه، ركونه، سكونه، التجاؤه إلى الله سبحانه وتعالى من خلال القرآن كان يمثل الرافد الأول للطمأنينة، لذلك كان في أدبه وسلوكه وأخلاقه وتعاطيه ومحبته ينطلق من خلال معطيات كتاب الله العزيز المنزل من قبل الله تعالى على روح حبيبه المصطفى محمد (ص).
الاندكاك في مدرسة اهل البيت عليهم السلام
الرافد الثاني الاقتراب بل الاندكاك في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولهذا مسارات متعددة الأمر الأول أنه نذر نفسه ان يكون خادما للإمام الحسين (ع) حيث ما استدعاه الإمام الحسين (ع) للقيام بمسؤولية الخدمة تشرفاً به، كانت يده البيضاء ممتدة دون شح ولا بخل، بل جود وكرم، عطاء لا محدود في عمارة مجالس الإمام الحسين (ع)، عطاءٌ بلا حدود في إقامة مجالس العزاء، عطاءٌ بلا حدود في تهيئة الأسباب للراغبين في الوصول إلى العتبات العالية والتشرف بلثم عتبة الإمام الحسين (ع) التي ما كان يدخر وسعا بان يذلل الصعاب أمام الفقراء من المؤمنين الذين تتقطع أنفسهم حسرةً على ان يصلوا إلى تلك الأماكن كان يهيئ الأسباب، كان يبذل من جيبه الخاص ويتنازل عما يترتب على زيارته بعض الأموال، أيضا ثمة أمرٌ آخر يتعلق بالإمام الحسين (ع) لا يستطيع احد ان يسبقه في إرسال الدمع في مجلس الإمام الحسين على الإمام الحسين (ع) والمصاب الذي جرى عليه وعلى أهل بيته فهو لا ينتظر ان ينصهر في الجو من حوله فينتقل للعقل الجمعي وانما كان يحدث حالةً من استجلاب الاندفاع للعقل الجمعي بناءا على منطلقه من خلال عقله الشخصي، انصهاره واستعداده المسبق هو الذي يعطي للعين الاشارة وربما تكون من عوالم خاصة كي ترسل دمعها، ذلك الدمع الحار الذي اذا ما اندفع على صفحات وجهه غسل الكثير الكثير وأرسل الكثير الكثير ومن ذلك ان تستقر حالة الاطمئنان في نفسه التي اشرنا إليها.
روح المحبة للآخرين
الرافد الثالث روح المحبة للناس بما هم ناس وهذا ما نحتاجه اليوم، أيها الأحبة في هذه الليلة الكريمة «الجمعة» ونحن نحتفل بذكرى مرور أربعين ليلة على رحيل هذا الفقيد السعيد، روحه ان شاء الله في أعلى عليين ولا نتعالى على الله في ذلك لكن من عاش محمد وآل محمد لابد وان يحشر مع محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم، ونحن نشهد انه ممن أحبهم وذاب فيهم ولم يبخل عليهم بشيء، إذا أردت ان تعيش اطمئناناً فانشر المحبة بين الناس ولا يعنيك ان يحبك الناس أو لا، المهم ان تكون أنت من يهيئ الأسباب لمد البساط في مساحة الحب، الإسلام دين المحبة ودين السلام ودين الرحمة ودين الحنان أليس من الحري بنا ان نترك لهذه المفاهيم القرآنية المقدسة كي تحلق في جميع جنبات مجتمعاتنا، أيها الأحبة! ما الذي نجنيه من الحب لو انتشر في أوساطنا؟ وما عسى ان يترتب على الكراهية لو سادت الموقف فيما بيننا؟ انها معادلة بسيطة يستطيع ان يضع نتيجتها اصغر واحد في هذا الجمع أو ممن يصله الصوت بعد ذلك، الأمر بين الأمرين مسافة بين الأرض والسماء، فحريٌ بنا أيها الأحبة ان نجلس مع النفس قليلا وان نستفيد من كبارنا ومن وجهائنا ومن سادات المجتمع فينا الذين سبروا الحياة وعاشوا حلوها ومرها الصعب منها والسهل، ثم خلصوا إلى دروس عظيمة علينا ان نستفيد منها وإلا مجرد ان نجتمع ونقدم العزاء ثم ننصرف أو نجتمع ثم نأكل شيئا من الزاد وننصرف او نجتمع وهكذا ... الليلة هنا وغدا هناك ثم لا نخلص إلى نتيجة نستفيد منها اعتقد وقتها نصبح أصحاب بضاعة خاسرة وهذا ما لا يرضاه احدٌ منا لنفسه. فالمرحوم كان محبا للناس لذلك أحبه الناس، ولو لم يكن محبوباً لما اجتمع هذا الجمع الكبير في مجلس تأبينه، مجالس الأربعين كثيرة التي أقيمت لأشخاص ولكنها لا تحظى بهذا الجمع، هذا المرحوم فرض نفسه من عالم خاص يعيش فيه، ولا ينبغي لنا ان نعتقد بان من انتقل من هذا العالم إلى ذلك العالم الخاص ليس له هو القدرة على المؤثرية بعالمنا، نعم له المؤثرية الكبرى وخصوصا في زرع الاطمئنان في داخل النفس الذي نحن في مسيس الحاجة إليها، هذا المفهوم الذي ندور حوله في هذه الليلة. استذرك أباً ارتحل، أو أُم ارتحلت، أو عزيزاً فقدت ولو فقط في ليلة الجمعة، اقرء له سورة «يس» واتبعها بسورة «الواقعة» واشفعها بسورة الحمد (سورة الفاتحة) وكرر سورة «الإخلاص» ثلاثا، ثم اهديها ثوابا ستجد في داخلك حالة خاصة لم تتلمسها قبل ذلك جربوا هذه الليلة أيها الأحبة ستجدون ذلك واضحا جليا بينا.
الرجوع الى النفس
الرافد الآخر الرجوع إلى النفس، أيها الأحبة كان المرحوم شديد الحرص على ان يعود إلى نفسه رضوان الله تعالى عليه في الكثير من المواطن؛ عندما كان يعود من أداء النسك من بيت الله الحرام ـ بلغنا الله وإياكم ـ أو بعد ما يعفر جبينه على عتبة احد المعصومين عليهم السلام، كان يعيش حالة الرجوع لينطلق على أساس من مفهوم الاطمئنان لاستشراف العالم من حوله، كان أنيس النفس ومن يعيش حالة الاطمئنان لا يستطيع الا ان يكون كذلك أيها الأحبة، فاذا ما وجدت إنسان مقطبا أو شاحبا أو منكمشا أو منطويا على ذاته فلانه سلب هذه النعمة ـ أي نعمة الاطمئنان ـ أيها الأحبة احرصوا على هذه النعمة وينبغي علينا جميعا ان نحرص عليها، علينا ان نؤمن الروافد لها كي نسموا ويسموا المجتمع من حولنا، الرجوع إلى النفس يعني بناء الذات ويعني رعاية الأسرة كما ينبغي ويعني التطلع لعوالم الآخرة.
الفقيد السعيد وعلاقته بالعلماء
أيها الأحبة الفقيد السعيد وكما أشار من تقدم من الأخوة كان على علاقة خاصة مع رجال الدين من أعلى الهرم كمرجعيات إلى اصغر طلاب العلم كمبتدئين وأنا عشت هذا الرجل أكثر من ثلاثين عاماً، يعني أول لقاء جمع بيني وبين هذا الرجل رضوان الله تعالى عليه كان في عام ألف وأربعمائة وستة، في «دحلة الجن» في مكة المكرمة وقتها كان معه العلامة المقدس الشيخ عبدالحميد الجزيري رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة حينما استضافني وكنت وقتها حدث السن وأشعرني حالة من الأبوة الخاصة، حال انها كانت الجلسة الأولى الا اني تلمست فيه أباً حانياً عطوفاً محباً يرى فيك وأنت مع حداثة سنك وقلة تجربتك الا انك الكبير في نفسه، ودامت العلاقة واستمرت إلى رحيله جمع الله بيننا وبينه مع محمد وآل محمد، لان الأرواح لابد وان ترتحل ولو بعد حين سنلتقي نسال من الله سبحانه وتعالى ان يعرف بيننا وبينه، أما العلاقة الخاصة التي تحدث عنها من على رأس الهرم فلدي شاهد على ذلك عندما أرسل ورائي قبل أكثر من عشر سنوات وقال لي يا سيد: لدي حق شرعي وأريد دفعه لك، فقلت له يوجد فلان وفلان ويمكن ان تدفع له، فقال أريد ان تستلم الحق الشرعي أنت، واستطرد وقال: عندما كنت في زمن السيد الخوئي مرجع الطائفة الأعلى رضوان الله تعالى عليه في عصره استجزت منه ان اتصرف في الحق الشرعي، فأجازني، فأنا قلت له: هل من شاهد على ذلك؟ لان هذا الأمر يهمني يعني لابد ان يكون مكتوباً موثقا، فقال: نعم ودفع لي دفتره الذي يقيد فيه أموره وإذا فيه الإجازة له في التصرف في النصف من الأموال وبقلم السيد جمال نجل المرجع الكبير السيد الخوئي رضوان الله تعالى على روحه الطاهرة! وهي منتهى الوثاقة عند المرجعية بسقفها العالي. واما عند طلبة العلم فما جلس معه احد إلا واثنى عليه، وما قام من مجلسه احدٌ إلا وصحب أنفاسه معه، في ختام حديثي أتوجه للأسرة الكريمة خصوصا الأبناء الشباب منهم وأبناء هذه القرية الذين نتطلع فيهم الشيء الكثير بالتعازي والمواساة، أيها الأحبة من لا كبير له لن يهتدي الهدف ومن ينسى الكبار لا يستحق ان يعيش بين الناس، لان سيرتهم تجارب، نحن فقدنا أناس كُثر حيث طوت الدنيا الكثير وغيبت الكثير، لكن أيها الأحبة لا يغيب من يخلف وراءه ذكر طيباً، والفقيد فعل ذلك ومن خلف وراءه أبناء صالحين لا يغيب أيضا والفقيد فعل ذلك ومن ترك بصمة في مجتمعه فذكره لا ينسى والفقيد أيضا فعل ذلك، علينا ان نتعاهد الأمور، علينا ان نكون حمالين للمسؤولية مهما كلف الثمن، نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يعرف بينه وبين أولياءه، وان يجمع بينه وبين أولياءه، وان يحشره مع محمد وآل محمد، وان ينفعنا وإياكم وإياه بتلاوة القرآن، وفقنا الله وإياكم لكل خير، لإراحة روحه الطيبة المباركة بولاية محمد وآل محمد الفاتحة مع الصلوات.