نص كلمة: الإمام علي (ع) سيرة وعطاء مجدد
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على اشرف أنبيائه ورسله حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
بارك الله لنا ولكم هذا المولد السعيد
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «لو أن الغياض أقلام والبحر مداد والجن حساب والانس كتاب ما احصوا فضائل علي بن أبي طالب»[2]
عليٌ (ع) في عالم الأنوار
عليٌ مدرسة العشق الإلهي، في بيت الله الحرام كانت البداية وفي جامع الكوفة الكبير كانت النهاية وبين المسجدين حياة طافحة بالعطاء والدروس والعبر في المبادئ والقيم، من أين ابدء معك يا علي وأنت علي، وما عساني ان اختم به والخاتمة لا تحلو إلا بك يا علي، عليٌ (ع) في عالم الأنوار يتلفت لنفسه فلا يرى حوله إلا نور النبي محمد (ص) ويتطلع إلى العرش من حوله فيجد في ساق العرش مقروناً اسمه باسم النبي محمد (ص)، وعندما أراد الله لذلك النور ان يأخذ موقعه ويترشح على العالم من حوله اختار له اطهر موضع وأشرف مكان ألا وهو البيت الحرام الكعبة المشرفة الرخامة الحمراء، موضعٌ لم يشارك علياً فيه احدٌ، هو امتياز على نحو الاختصاص:
أنت العلى الذي فوق العلى رفعا *** ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
وأنت أنت الذي حطت له قدم *** في موضع يده الرحمن قد وضعا
المولد في بطن مكة
في بيت الله كانت البداية، لم تكن بدايةً طبيعية بكل المعطى وإنما كانت السماء تتدخل في كل واحدة من آناتها، الطبيعي من الأمر ان تدخل من باب الكعبة ولكن ما أرادته السماء هو ان تلج هذه المرأة الجليلة العظيمة الكبيرة والتي لو لم يكن من شرفها وعلو مقامها إلا أنها مثلت الحضن الطاهر والظرف المصفى لأفضل ذات بعد ذات النبي محمد (ص) لكفى، الباب توصد في وجهها لكن السماء تتدخل وتفتح الباب من الاتجاه المعاكس لتجسد من خلال ذلك آيةً وشاهداً يضرب صماخ التاريخ ويقض مضاجع من لا يعجبه ذلك، دخلت إلى جوف الكعبة، وضعت مولودها، أخذت فرصتها في عوالم خاصة ليس فيها إلا التهليل والتسبيح والتكبير والحمد لله سبحانه وتعالى على النعمة، نعمةٌ ليس فوقها شيء.
علي (ع) الاذن الواعية للوحي
خرجت المرأة الهاشمية الجليلة مجللة بأنوار الوصاية من وصية من جميع جوانبها، النبي الأعظم (ص) يستقبلها تدفع له وليد أبي طالب الأسد الذي لا يشق له غبار، النور الذي لا يجاريه نور إلا النور الذي التقى به بادئ ذي بدء ألا وهو النور النبي محمد (ص)، ويسير النبي وعليٌ بين ذراعيه والهاشمية الجليلة من وراءه حتى دخل في بيت عمه أبي طالب مؤمن قريش، الرجل المظلوم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وليد ملأ البيت بشرى، وليدٌ ملأ البيت فرحةً لم تكن معهودة، وتمضي الأيام بعد الأيام ويهبط الأمين جبرائيل على قلب الحبيب المصطفى في غار حراء ليتلو عليه النص القرآني الأول، رسالة السماء للأرض، الواسطة جبرائيل الأمين، المتلقي الحبيب المصطفى، الأذن الواعية، الأذن المصغية هي أذن علي (ع)، الولد الذي ـ الولد مع التسامح في العبارة لأنها لا تفي إلا في هذا الحد ـ دون عشر سنوات، يستمع الوحي ولم يسمع الوحي احد إلا هو والنبي الأعظم محمد (ع)، اقرء مفتاح العلوم ليأتي بعد ذلك النبي ويقول: أنا مدينة العلم وعليٌ بابها فمن أراد المدينة فاليأتها من بابها[3]، عليٌ (ع) يستمع إلى الوحي من السماء بالواسطة، الأمين المؤمّن المؤتمن للنبي الأعظم(ص)، الشاهد الأول، المستمع الأول، المتلقي الأول هو عليٌ (ع).
علي (ع) وحديث الدار
وينحدر عليٌ من جبل النور إلى بيته وتتلقاه خديجة أم المؤمنين الشرف في الدارين والنبي (ص) بأمر من السماء يجمع قرابته واجتمع الجميع من حوله ومنهم علي الاستثناء، عليٌ الاختصاص، عليٌ العظمة، عليٌ الاشراق التي من خلالها تطل الأمة على مستقبلها، قام فيهم خاطباً: من منكم يؤازرني على ان يكون أخي ووصي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني ـ وقيل وقاضي ديني ـ ولم يقم أحد كررها ثلاثا وقام عليٌ (ع) بعد ان أجلسه مرتين قبل ذلك قال هذا أخي ووصي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني.[4]
علي (ع) الزم للنبي (ص) من ظله
عليٌ (ع) في هذه المرحلة وتتبع المراحل الواحدة تلو الأخرى، عليٌ (ع) إلى جانب النبي في عالم الأنوار عند العرش في جبل النور غار حراء في الكعبة المشرفة عند البيت الحرام وفي يوم الدار وبعد ذلك أيها المؤمنون عليٌ الزم للنبي من ظله كما يقول الامام علي (ع)، وتبدء الدعوة وينادى بالشعار الأبدي «واصباحاه» وتجتمع قريش من حوله عند الصفا ولم يكن إلى جانب النبي عن يمينه إلا عليٌ (ع) وللظرف خصوصيته وللوضع تداعياته، لكن علياً (ع) هو علي، عليٌ هو اليمين الذي لا يقبل لنفسه ان يكون يسارا، عليٌ (ع) الصديق الأكبر، عليٌ (ع) فاروق هذه الأمة،[5] عليٌ (ع) ذو النورين في النشأتين، عوالم النور أو الأنوار وعوالم الذر، وان أردتها خذها دنياً وآخرة فلا دنيا تستحق ان يعتني بها الإنسان إلا ما دارت في فلك علي، ولا قيمة لآخرة لا يكون فيها علي، نحن من علي ولعلي وفي علي وسنبقى مع علي، لان علي هو محمد ومحمد هو علي.
علي (ع) وتعبده مع النبي (ص)
ويتبتل النبي ولم يقف إلى جانبه إلا علي وخديجة ويدخل أبو طالب ذات يوم على ابن أخيه النبي الأعظم يتعبد وعليٌ عن يمينه وجعفر إلى جانبه، دفع به أبو طالب وقال له يا جعفر صل جناح ابن عمك[6]، النبي بين علي، النبي بين جعفر، كيف لا يحسد أبي طالب على هذه المنقبة وكيف لا يهمش وكيف لا يحارب كرامةٌ ليس بعدها كرامة، علي الشموخ والفضيلة، وجعفر النصر والاقتدار، اجتمعا في ابي طالب لذلك عزّ نظيره وقلّ على صفحات التاريخ، وما ضرّ هذا الرجل ان يقال فيه ما يقال، لأنه ارفع من ذلك بكثير، ارفع من ان يهبط إلى مستوى أراده البعض لنفسه ان يكون فيه هو، ليس هو هو، وإنما هم.
قتاله وحسم المعارك بسيفه
وتسير في النبي قافلة الإسلام هو الهادي لها، هو الآخذ بزمامها، النبي يبلغ وعليٌ يجاهد بين يديه، في بدر لم تحسم مطاوي هذه المعركة إلا بسيف علي، وفي أحد لم يذب الكرب عن وجه النبي إلا علي، وفي خيبر لم تحسم الأوضاع الا بسيف علي، وفي الخندق لم يتم النصر لولا علي .. وخذها معارك وغزوات كلها فاصلة ولكنها ما كانت تدرج في قائمة الفصل لولا سيف علي (ع).
علي (ع) مدرسةٌ في التربية
واستمرت المسيرة مع علي (ع)، عليٌ مدرسةٌ في التربية وما أحوجنا اليها أيها الأحبة! أيها الجيل الطيب الذي نقرأ فيه الشيء الكثير ونعلق عليه الكثير من الآمال والطموحات، أهم شيء أيها الأحبة ان نتمسك بثوابت ديننا ومعتقداتنا وما يرتبط بهما من قريب او بعيد ثم نعمد لتهذيب أنفسنا كي نرتقي في سلوكنا، لنجعل السلامة والمحبة الحبل الممدود فيما بيننا، علينا ان نتعالى على الصغائر، كما تعالى عليها علي (ع) الذي نجتمع في ذكرى مولده هذه الليلة في هذه القرية المباركة بأهلها.
علي (ع) مدرسةٌ في العلم
عليٌ مدرسة تربية ومدرسة علم ومعرفة ايها الأحبة نحن في مسيس الحاجة اليوم اذا ما أردنا ان ننتقل من مربع إلى مربع وان ننتقل من مساحة إلى أخرى على ان تكون هي الأفضل والأكمل والأجمل والأكثر سعادة فعلينا ان نتسلح بالعلم، علينا ان نتسلح بالمعرفة، علينا ان نرفع من رصيدنا الثقافي، علينا ان نقرأ النصوص الأدبية ونتقلب في معطياتها، أيها الأحبة إذا مزجنا بين هذه العناصر الأربعة بين هذه الروافد الأربعة كملنا وإذا ما كملنا أيها الأحبة رسمنا الطريق سهلة أمام نشء يأتي من بعدنا، أيها الأحبة! أيها الشباب الطيب المبارك أقول لكم كلمة ثقوا واعتقدوا إن ما تعيشونه من حب وولاء لم يأتيكم كشربة ماء أبدا، وإنما ضحّى من اجل ذلك آباء لنا وأجداد وآخرون انتقلوا إلى عوالم الآخرة، بذلوا الكثير وتحملوا الشديد من المصاعب والمخاطر لكنهم أوصلوها أمانة في أيديكم، عليكم ان تتمسكوا بها، عليكم ان تعضوا عليها بالنواجذ، عليكم ان لا تفرطوا في مفردة من مفرداتها مهما كانت تلك المفردة صغيرة أيها الأحبة، لان المنعطفات خطيرة والتقاطعات اشد خطورة فما لم ننتبه لهذه الأمور سوف نقع في المحذور لا قدر الله ذلك ولا كتب.
علي (ع) مدرسةٌ في العبادة
الإمام علي (ع) مدرسة العبادة والعروج، عليٌ (ع) تعبد ورسم الطريق للأمة في طريق العبادة لله سبحانه وتعالى لا في طريق العبودية في معنى الرق، وإنما أراد لنا عبادة تعرج بنا إلى عوالم الكمال وتربطنا بالمطلق المطلق، أيها الشباب! أيها الأحبة! أيها الآباء! العبادة غسيل للداخل، العبادة عاملٌ فاعلٌ في بسط الطريق أمامنا وإضاءة المعالم على جانبيه، أيها الشباب الطيب ان الاختلاء في ساحة القدس في ليلة واحدة، في ساعة واحدة يخاطب الإنسان فيها ربه، يفرغ نفسه مع الله سبحانه وتعالى، يستعرض ما قدم بين يديه، ربما تحدث في حياته انقلابا وتغييرا لما هو الأفضل، وكم هي الساعات التي تتصرم من أعمارنا دون ان نستفيد من ورائها، حان الوقت أيها الأحبة لان نقتصر من أعمالنا ونختزل سويعات يسيرة، اقول سويعات، بل ربما ساعة واحدة، حيث ان ساعة تفكر خير من سبعين سنة عبادة[7] العبادة تثقل ميزاننا نعم لكن التفكير يصحح لنا مسار العبادة، العبادة الناطقة لا العبادة الصامتة، العبادة المتحركة لا العبادة التي يكتنفها الموت من جميع جوانبها
علي (ع) العطاء الدائم
ثم علي مدرسة العطاء الدائم، أعطى وانتقل إلى جوار ربه لكنه خلف وراءه روافد كلها عطاء، هل قرأنا علياً (ع) من خلال نهج بلاغته؟ هل قرأنا علياً (ع) من خلال القرآن الذي اعتنى بعلي كثيرا ﴿عَمَّ يَتَساءَلون * عَنِ النَّبَاِ العَظيم﴾[8]، هل قرأنا علياً من خلال ما تحدث في حقه نبينا الأعظم محمد (ص)؟ هل قرأنا عليا بما تحدث به خصومه، لم تجمع كلمة على ان رجلا هو الأفضل بين محب ومبغض، مريد وكاره إلا في علي (ع).
علي (ع) مدرسة العطف الروحي
ثم مدرسة العطف الروحي وهذا الدرس الذي أود ان اختم به، لان الوقت على وشك ان يتقضى، قاتلٌ علي علي في محراب عبادة، الليالي؛ واحدة من ليالي القدر، الناس، صيام، في حال جلوس وقيام، في حال ركوع وسجود، في حال تلاوة وتتبتل، رجلٌ أعرابيٌ بوالٌ على عقبيه يأخذ من المسجد ملاذاً وما يجري على أيدي الدواعش اليوم وهم سلالة أمثال ذلك الرجل الذي جعل من المسجد ذريعة له ليشفي صدره ويحقق مراد غله وحقده في أرواح بريئة في أكثر من مكان ومكان على وجه الأرض، عليٌ يصلي ورده، والرجل في زاوية المسجد، عليٌ يدخل في صلاته وابن ملجم يتوثب لقتل علي، وقتل عليٌ (ع) من خلال الضربة لكن ما الذي جرى بعد ذلك! هذا الدرس الذي نريده، جيء بابن ملجم واجلس بين يدي علي، والحسن واقف على رأسه، التفت إليه علي (ع) العطف الحنان الرحمة الرقة الشفقة وقال له يا عبد الرحمن: ما الذي فعلت معك حتى تضربني هذه الضربة؟ الم اطعمك من طعامي؟ الم اشربك في شرابي؟ قال بلى ولكن ماذا تصنع يا علي ﴿أفأنت تنقذ من في النار﴾؟! لاحظوا العبارة التفت الإمام علي (ع) للإمام الحسن وقال له: يا أبا محمد الله الله في أسيركم أطعموه من طعامي اشربوه من شرابي فإن أنا قضيت من ضربته هذا فضربةٌ بضربة وإلا فأنا أولى بالعفو منكم، أنا صاحب الدم وأنا أعفى،[9] لنأخذ نحن الدروس، لنرى ما الذي يجري فيما بيننا، أحيانا محور خلافنا يكون على متر من ارض على حائط بين بيتين أو على مجرى ماء بين نخلتين أو ... عليٌ بقيمة الإنسانية بعد النبي ويتنازل عن حقه، نحن أبناء علي، نحن شيعة علي، نحن العشاق لعلي، نحن من في رقابنا بيعةٌ لعلي، لا يكتفي ان نجتمع ونحتفل وإنما علينا ان نتشخص وان نقلب الوريقات من حيات علي كي نختزل الدروس منها ونجعلها مسيرة حيات، اضاءات في حياتنا، علينا ان نجعل الحب والعفو والصفح والتعاون فيما بيننا، هو المدرسة التي نتفيؤا ضلالها ونتنقل بين جنباتها. شكري لكم، شكري للآباء الأعزاء الذين تجشموا العناء، شكري للأبناء والأخوان الذين شرفوني بصمتهم وتوجههم واستماعهم، وشكري الخاص للجنة القائمة واخص منهم الأخ الأستاذ ناصر الوسني الذي شرفني في المثول بين أيديكم، تقبلوا مني هذا، وفقنا الله وإياكم بفضل شرف الصلاة على محمد وآل محمد.