نص كلمة:الإمام الرضا عليه السلام والحوار الفكري مع الأخر
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على اشرف المرسلين حبيب اله العالمين ابي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
غفر الله لنا ولكم، اسعد الله ايامنا وايامكم، بارك الله علينا وعليكم ذكرى ميلاد الامام الثامن من أئمة اهل البيت الامام الرضا (ع)، رزقنا الله واياكم شرف الوصول الى حضرته المقدسة.
جاء في الحديث الشريف المروي عن الامام الرضا (ع) انه قال: «من جلس مجلسا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»[2]
أدب الحوار مع الآخرين عند الامام الرضا (ع)
الامام الرضا (ع) (الامام الثامن من ائمة اهل البيت عليهم السلام)، اجمع المؤالف والمخالف على علو شأنه ورفعة مرتبته، الامام الرضا (ع) عقدت له ولاية العهد لانه الابرز بين بني هاشم، الدوافع الكامنة وراء ذلك كثيرةٌ لكن الاهم منها هو رغبة المأمون في كبح جماح الثورات التي كان يقوم بها بنو الحسن تارة وبنو الحسين تارة أخرى، الامام الرضا (ع) قَبِل الولاية بالعهد وفق شروطا ذكرت وسطرت في محلها، نتائج هذه الولاية من العهد ايضا نتائج كثيرة غاية ما في الامر ما يعنينا نحن اليوم هو تلك الارضية التي اوجدها الامام الثامن (ع) للأمة عامة ولاتباع مدرسة اهل البيت عليهم السلام بصورة خاصة هي ارضية الحوار مع الآخر وقبول الآخر.
قبول الطرف الآخر والجلوس على بساط واحد
الحوارات التي جرت ومجالس النقاش التي دارت رحاها عندما تصدى لولاية العهد كانت من الكثرة بمكان، الشيخ الطبرسي رضوان الله تعالى عليه اورد في كتابه «الاحتجاج» مجموعة من تلك الفصول الملحمية التي بنيت على اساس من تأصيل العقيدة ورد الدخيل، الامام الرضا (ع) في مجالس النقاش لا يدخل اليها من بوابة ارغام الطرف الآخر لقبول ما هو المطروح بقدر ما كان الامام الرضا (ع) يطمح في ان يكشف الحقيقة جلية واضحةً كالشمس في رابعة النهار والتي لا ينكرها اي انسان يرمى بطرفه الى السماء، من الطبيعي ان يتنكر البعض لبعض الحقائق الثابتة المستقرة والا لما دب الخلاف وتفشى النفاق في وسط الامة منذ العصور المتقدمة والازمنة البالية، الامام الرضا (ع) في الجانب الاول كان يتبسط للطرف الآخر، لا يوجد حواجز، بل يسعى لرفعها اذا ما كانت تفرض نفسها من قبيل كون الانسان الذي يشغل منصب رسمي يفرض عليه شيء من الاحساس بالرفعة، الامام كان يلغي هذا الحاجز، يتبسط لا يتحدث مع المحاور في الطرف الآخر على انه المسؤول وذلك هو التابع، وانما كان في مجال النقاش على بساط واحد.
طرح الادلة المتعددة على القضية الواحدة
الامر الثاني هو طرح الادلة المتعددة على القضية الواحدة، تارة ان يكون الدليل نقلياً وتارة أخرى يكون عقليا، مشربه في الاول آية محكمة أو رواية صحيحة يرويها هو عن السلسلة الذهبية عن ابيه عن جده ... هكذا حتى يصل الى النبي الاعظم محمد (ص)، سندٌ قوامه العصمة من الراوي الى المروي عنه عبر الوسائط المتعددة، اما نورٌ واحد، عصمةٌ واحدة، أو يذهب الى الدليل العقلي باعتبار ان مدرسة العقل والمراتب الاولى من مدرسة الفلسفة بدت تأخذ مسارها في اوساط الامة في زمن الامام الثامن الضامن ـ بلغنا الله واياكم الوصول اليه عاجلا ـ وحيث ان الخليفة العباسي المأمون عمد الى نقل النصوص ذات التركيز العقلي في مسارها البحثي عند اليونانيين منها الى اللغة العربية التي كانت في تلك الفترة هي لغة الاسلام ولغة العلم ولغة الحديث والتاريخ وما الى ذلك، بخلاف هذا اليوم التي أصبحت هذه اللغة غريبة مستضعفة تحتضر، بالامس كانت هي لغة الام وهي اللغة الاولى وسيدة الموقف، اليوم تخلى عنها اهلها ومن الطبيعي ان تتخلى عنهم في نهاية المطاف.
اقناع الآخر بالدليل وليس بالقوة
الامام الرضا (ع) من ناحية يكثف الادلة لاقناع الطرف الآخر، لكن من خلال الدليل لا فرض الحجة بالقوة وانما بالدليل، الطبقة التي كانت تحضر مجالس الامام الرضا (ع) الحوارية كانت من اعلى الطبقات علما وفكرا وادبا ودرايةً، بل كان المأمون يستخطفهم من اقطار الدولة الاسلامية كاعيان ليقحم الامام الرضا (ع)، لكن سرعان ما يحضر هؤلاء في مجلسه وتتدافع الادلة على لسانه لكن بالتالي يخرج بعضٌ من المجلس وهو يقر للامام بالامامة الحقة، الامام الرضا (ع) لم تكن المناظرة والحوار الذي يجريه في تلك الفترة ينصب ضمن اطار موضوع واحد وانما متعدد الاغراض، حيث ان طرقوا بابه في الفقه والمذاهب الاربعة قد استقر مدارها بز الاقران ولا نسبة في المقايسة في باب التسامح في اللفظ ليس الا والا بالإمام لا يقاس غيره، وان دخلوا في التفسير كشف الغطاء عن مغيبات، وان طرقوا باب البحوث الاخرى المستحدثة التي لتوها تشغل مساحتها من ذهنية الانسان المسلم وجدوا انفسهم أمام جبل اشم هكذا كان الامام الرضا (ع)، نعم قد يختلفوا معه وقد لا يتفقوا معه وقد لا يقبلوا منه ـ أي البعض منهم ـ ولكن لا يزداد الامام عليه الصلاة والسلام حتى مع المعاند منهم الا شفقة ورحمة بحيث يخرج من بين يدي الامام وهو محرج بلطف الامام، بخلق الامام وبأدب الامام ولا غرابة ولا عجب لأنه بالتالي هو سليل النبي الاعظم (ص) الذي يقول: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»[3]، وهل الرضا الا بضعة منه؟! وهل الرضا الا الوجه الحاكي للحقيقة المحمدية؟!
الدروس المنتزعة من السلوك الرضوي
الدرس الذي ننتزعه نحن هو أننا اليوم على مفارق طرق، هناك تفرعات كثيرة، انفاق وجسور متقاطعة، دوائر متكثرة، من اين نستجلب عناصر التكامل لنتجاوز كل هذه المعتركات؟ لا طريق لنا الا هذا الطريق وهو ان نجلس مجالسهم التي يحيى فيها امرهم لنستسقي من معينها الصافي ولننهل منها، ايها الاحبة عمدة المطلب هو: «كونوا لنا زينا لا تكونوا علينا شينا»[4]؛ والآية الشريفة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[5] قاعدة اساسية يفترض ان يبنى عليها ويفرّع في علاقاتنا، في نقاشاتنا، في دعواتنا، في محافلنا، في افراحنا، في احزاننا، صدقوني ايها الاحبة صدر المؤمن اوسع من الدنيا بما فيها اذا كان يتربع في قلب الانسان نور الايمان، لكن اذا غاب نور الايمان من قلبه فالدنيا اضيق عليه من شبر في شبر على سعتها على ترامي اطرافها، فالعمدة في المطلب صدر رحب، قلب يستوعب الآخر، اليوم نحن في مرحلة وغدا في مرحلة اكثر تعقيداً، وبما ان النتائج تتبع المقدمات وما دامت هذه المقدمات نقدمها على هذا النحو المعوج فحتما النتيجة ستكون معوجة، لان المقدمة الفاسدة تنتج نتيجة فاسدة، لا يريد أحد شيء من الآخر سوى الخلق والادب والاحترام والتقدير حتى تحظى اكثر من ذلك مني وهكذا الحال بالنسبة للثاني والثالث والذي هنا والذي هناك ومن يبلغه الكلام، الله سبحانه وتعالى عندما ارسل النبي ليس من اجل ان يعذبنا بالصلاة، بل من اجل أن يشذب اخلاقنا، أو لا يريد ان ينتقم منا من خلال الصيام، بل من أجل ان يطيب خواطرنا ويزكي ارواحنا، ولا يريد ان يثقّل علينا في الحج وانما يريد ان يمد الجسور بيننا وبينه، تباً لمن قطع حبال الوصل مع الله سبحانه وتعالى كائنا من كان، حبال الوصل لابد من مدها، لأنها ممدودة لكن علينا ان لا نقطعها، من جهة الله سبحانه وتعالى الأمور تامة منذ البداية اعطانا وهيئ لنا الأمور:
لا عذب الله امي انها شربت حب الوصي وغذتنيه باللبن ِ
وكان لي والد يهوى ابا حسن فصرت من ذي وذا اهوى ابا حسن
لكن تعال وشاهد السلوك في الخارج كيف هو؟ ما هو سلوكي وسلوكك؟ هل يطيب خاطر أم لا يضيق خلق؟ هل يمتن العلاقات ام يقطع اواصر؟ هل يرفع مجتمع او يدفن قمم وقيم وآداب واخلاق؟ اذا لم يكن القرآن حركي في داخلك لا فائدة من كثرة قراءته، لأن الحديث الشريف يقول: «رب تال القرآن والقرآن يلعنه»[6]، بالنتيجة هو هذا الامام الرضا (ع) كان قد يختلف الى آخر نقطة في الحوار مع الطرف الآخر ويفترق على ان يلتقيه في اليوم الذي يليه بكل رحابة صدر وكان يستقبله الامام وما كان يقول هذا معاند، بل كان يستقبله على الحال الذي كان عليه، الذي يريد الخير للناس لابد أن يبدأ من نفسه، لأن الذي لا يحب الخير لنفسه قطعا لا يحب الخير للناس، لان رصيدي هو هذا الانسان الموجود أمامي، وهل رأيت انسان يستطيع ان يعيش لوحده!؟ لا يمكن ذلك. نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يرزقنا واياكم لزيارة صاحب هذه المناسبة، وكذلك زيارة اخته الجليلة السيدة فاطمة المعصومة كريمة اهل البيت سلام الله عليها، ان ينفعنا بعلومهم، انا دائما اكرر صحيح أننا نحضر مجالسهم ونرفع من أجلهم الصلوات ونوزع الحلوى وماء الورد و... لكن هذا مظهر وهذا لون، الاهم من كل هذا هو ان لا نخرج من مجاسهم الا بفائدة والذي يبقى هو مواعظهم وكلامهم وهديهم، وفقنا الله واياكم لكل خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.