نص خطبة: ويبقى الإمام الحسين (ع) فوق الخرافات والأوهام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عنهم عليهم الصلاة والسلام في وصف حال الجهلة والكذبة ممن ينقلون علوم أهل البيت (ع): «وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة على الحسين بن علي (ع) وأصحابه»([2]).
من صفات الشيعة:
عاشوراء، كربلاء، الحسين بن علي: ثالوث مقدس في الزمان والمكان والذات. وقد تفيأنا الظلال، ونهلنا من المعين الصافي الذي أمّن صفاءه وعذوبته مبدأ الشهادة الذي لا يجاريه مبدأ من حيث التقرب.
الإمام الحسين بن علي (ع) أنشودة الدهر، وأغنية الملائكة التي ترددت أصداؤها في جنبات كربلاء، ونشيد من هو عند العرش الذي تربع في أكثر من قلب وقلب.
يقول أهل البيت (ع): «واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا»([3]). وها هي أيام الحزن والعزاء، وبين هذا وذاك الدروس والعبر. مزيج اقتربنا منه كل بحسبه، ولكن هذا المكون الشريف الكريم وهو لفظ (الشيعة) لفظ مطلق له القابلية أن يضيف الإنسان نفسه له بأكثر من طريق وطريق، ولكن هل يحمل المسؤولية من أراد لنفسه أن يكون كما ينبغي وينسجم مع شرف المضاف إليه؟
لذلك لم يترك أئمة أهل البيت (ع) هذه المفردة المقدسة المباركة بمحمد وآل محمد (ع) على إطلاقها، إنما قيدوها في أكثر من موطن. ومن ذلك الحديث الذي استفتحتُ به، فالجهلة من الشيعة مرحلة من مراحل التقسيم إلى شيعة يتمتعون بالعلم والمعرفة، وإلى شيعة جهلة لا يحسنون من قولهم وفعلهم إلا ما يسبب الأذى والألم لأهل البيت (ع). فبقدر ما يعيش الإنسان روح كربلاء وعاشوراء، وروح الإمام الحسين (ع) المجنحة بلمسات السماء في ملكوتها، وقدسية الأرض بشرف نبيها، إلا أن أكثر من هنة وهنة كانت ترفع عقيرتها في أكثر من موطن، وهو ما يحذرنا منه النص الشريف، بأن هؤلاء أضرّ على ضعفاء الشيعة من جيش يزيد على الحسين (ع) وأصحابه. وكلنا يعلم ما قام به هذا الجيش الظالم المتغطرس المتحلل من أبسط قيم الإنسانية، بالصفوة من آل بيت المصطفى (ص).
بعض الظواهر المرفوضة:
1 ـ الجهل بمقامات المعصومين (ع) كما عرّفوا هم أنفسهم: فالجهل مفتاح كل شر، ومنه يبدأ الفقر وينبع الإرهاب والحسد والحروب والكوارث، فمفتاح ذلك كله الجهل.
فمن صور الجهل، الجهل بمقاماتهم كما قدمهم القرآن الكريم للأمة، لا كما يتبرع به البعض منا. وقد بينوا هم أنفسهم حدود مقاماتهم، وما ينبغي للأمة أن تنهض به، ومن ذلك مودتهم: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى﴾([4]). فالمودة واجبة، لكنها المودة والمحبة الصادقة الحركية الفاعلة.
فالجهل بمقاماتهم يهلكنا ويردينا، لذا يجب علينا أن نتعرّف عليهم كما ينبغي، ومن خلالهم هم.
2 ـ المزايدة على موروثهم: وقد أصبح هذا الأمر في هذه الأيام داءً يتسلل في أكثر من مكان ومكان، حتى المعاهد العلمية ما عادت تستطيع النأي بنفسها عن غائلة هذا الداء، وما يخلف وراءه من الآثار القبيحة. فأن يخطئ من لا يدّعي لنفسه علماً ولا معرفة ربما يمكن أن نعطيه شيئاً من العذر، ولكن أن يرتكب الخطأ من يحمل شارة العلم، ويعطي لنفسه حالة من القيمومة على آحاد الأمة، وكأن لا طريق لمعرفة أهل البيت (ع) إلا عن طريقه، فهذا ما لا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال.
فالقرآن هدىً ورحمة للعالمين، لا يختص به أحد دون آخر، بل لا يختص به حتى المسلم لوحده، إنما هو للبشرية جمعاء. فليس هو للسنة وحدهم، ولا للشيعة وحدهم. وهذا الهدى يقودنا للتعرف الحقيقي على مقامات أهل البيت (ع) ولكن بمنطق القرآن الكريم، فالإمام علي (ع) وحده اختص بثلاثمئة آية، فهل استنطقناها ونحن نقرأ القرآن الكريم؟ وهل استوقفتنا فتعرفنا على علي (ع) من خلالها؟ أو أننا نتعرف علياً من خلال الحكايا والأحلام المختلقة التي يراها النائم بعد أكلة ثقيلة، ليتصور أن زينب (ع) عند سريره مثلاً؟ فما علاقة هذا النائم بزينب؟ وهل هو قريبها أو أخوها أو أبوها؟
أقول: إذا كنا بالأمس نخشى لأننا لا نتكئ على ظهر، ولا نأوي إلى ركن شديد نعتمد عليه ـ وما كنت أخشى أحداً أو شيئاً والحمد لله ـ فإن المرحلة اليوم طويت صفحتها، وصرنا نلوذ بسيدين قمرين جليلين عرفا الإسلام حق معرفته، ومن كان له حساب معنا فليذهب إلى أحدهما، إما السيد المرجع أو السيد القائد حفظهما الله تعالى، فلم تعد الأمور في ساحتنا نحن، إنما هي في ساحة الأعلام.
نموذج من المزايدات:
يقول البعض: كل ما بقي هو ذلك السيد ـ أي الخلف الباقي من آل محمد (ع) ـ وأي مولىً هو! وهذا الكلام إلى هنا صحيح وسليم، ومن منا يدرك كنه الحجة؟! فالألسن تخرس، والأقلام تجف، والحناجر تُبحّ، دون الوصول إلى معرفة كنه الخلف الباقي، إلا في ما أتاحوه لنا من فرصة من خلال زادهم النقي، وليس المشوه المشبوه.
ثم يضيف القائل: هو ذلك الكريم الجواد، وأي كريم وجواد هو! اللهم إلا أن يتلطف علينا ببركة دم جده الحسين (ع).
وهذا كلام سليم أيضاً، فالإمام الحسين (ع) إنما ضحى بدمه الطاهر في سبيل أن نكرَّم أنا وأنت والبشرية جمعاء، وأن تعود إلى منطلقها الأول، وهو المبدأ القرآني: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾([5]). ومنطلق السنة النبوية المطهرة: «شيعتنا منا، خُلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا»([6]). هذا هو المبدأ والأساس والقاعدة التي نعتز بها.
ثم يقول المتحدث: وإلا فلسنا حتى في مقام كلبٍ مدّ على أعتاب دارهم ذراعيه، وهزّ أمامهم ذَنَبه!!.
فهل هذا منطق عالم؟ وهل قُتل الإمام الحسين (ع) لكي نكون كلاباً؟ أم أنهم أرادوا لنا أن نكون في أعلى درجات الشرف والكرامة؟ إن طينتهم لا تنجب كلاباً، ونور ولايتهم لا يبصبص بذنَبٍ لأحد.
مرت عشر سنوات في هذا الجامع وأنا أكرر الكلام قائلاً: ميّزوا بين العمائم، فبعضها غثّ، طويت على السوء([7]). وبعضها نتشرف بالغبار الذي يتجمع عليها، لأنها تحمل العلم الصافي وتأخذه من منابعه، وتتحرك من أجل الشرف والكرامة التي أرادها الحسين بن علي (ع). فمن أراد أن يكون كلباً يبصبص بذنبه فهذا شأنه، ولكن عليه أن لا يلصق ذلك بأهل البيت (ع) فإن ذلك لا يتناسب ومقامهم.
فالإمام الحسين (ع) يرى في منامه كأن كلاباً شدّت عليه تنهشه، وفيها كلب أبقع كان أشدها عليه، وقد أوّل ذلك بأن من يتولى قتله رجل أبرص، فكان شمر بن ذي الجوشن([8]). وفي رواية أخرى أنه نظر إلى شمر بن ذي الجوشن يوم العاشر وكان أبرص فقال: «الله أكبر، الله أكبر، صدق الله ورسوله. قال رسول الله: كأني أنظر إلى كلبٍ أبقع يلغ في دم أهل بيتي»([9]).
ويقول هذا المتحدث: وكلنا نحن أقل من كلبٍ وأسوأ!!.
أقول: من بلغه الكلام، وكان لديه استفهام، فليأتني إلى بيتي، وصدري أوسع من بيتي، أما أن يلجأ إلى الظلام كخفافيش الليل، فهذه حيلة العاجز، لأنني أتكلم في العلن ولم أعمد إلى التشفير أو الاستخفاء، ولم أتكلم من فوق منصة وأنا مقنّع، إنما أتحمل مسؤولية كلمتي قولاً أو كتابة. ولا أرضى أن تُمتهن كرامة طائفة بكاملها بسبب عمامة، مع خالص احترامي لشرف العمامة التي تسير في طريق الشرف، أما إذا كانت كعمامة ياسر الحبيب وأضرابه فلا نقبل لأنفسنا أن ننهج نهجها، بل الله وأهل البيت (ع) لا يرضون لنا ذلك.
إن من يقف وراء هذا المسار والانحرافة الخطيرة هم رجال دين يعيشون الفقر المدقع في ثقافتهم المعاصرة، ولا يدركون ما يدور حولهم في هذه الدنيا.
حاجتنا للعلوم الضرورية:
من هنا يتولد سؤال كبير: كم يشغل علم النفس من المساحة في أوساطنا الحوزوية؟ فرجل الدين يخاطب المجتمع، ولا بد أن يكون لديه إلمامة في هذا المجال، يتعامل على أساسها مع هذه الشرائح المتنوعة في فكرها وثقافتها وبنائها وتوجهاتها وانتماءاتها. فالتواصل مع المجتمع لا يتحقق بالعلوم المعروفة في أوساطنا كالنحو والبلاغة والأصول وغيرها، فهذه لا يمكن أن تبني جيلاً لوحدها، وليست هي نهاية المطاف.
وأين حوزاتنا اليوم أيضاً من علم الاجتماع وعلم أصول التربية؟ فهنالك اليوم جامعات بكاملها تبنى في علم التربية. وكذلك الاقتصاد الذي صار يلف الدنيا اليوم طولاً وعرضاً. ورحم الله الإمام الشهيد الصدر (رض) الذي ألف كتاب «اقتصادنا»، لكن أحدهم علّق على ذلك قائلاً في الشهيد الصدر: لقد تعذر عليه فهم الفقه والأصول، فكتب في هذا المجال!!.
ويقول لي أحد (الآيات): هذا من الترف الفكري الذي لا يعنينا! وسبب ذلك أن هذا (الآية) لا يفهم في الاقتصاد شيئاً، والإنسان عدوّ ما جهل.
وكذلك علم الإدارة، الذي لم ينل نصيباً في الدراسة، ومع ذلك تجد أن الكثير من المناسبات يعهد فيها إلى رجل دين يديرها، فما من زواج جماعي إلا وأسندوا إدارته لرجل دين معمم. وما من جمعية خيرية إلا وأسندوا إدارتها لمعمم، بل حتى على مستوى فريق كرة قدم!.
وكذلك علم التاريخ، ومن مصائبنا أننا لا نقرأ التاريخ، لذلك يصعد الخطيب المنبر فيأتينا بقصص هي أقرب إلى حكايا ألف ليلة وليلة، من الطبري وابن الأثير وغيرهما، بل حتى من كتبنا، ولكن دون ذكر الناقل الذي ينقل بدوره عن هذين المؤرخَين أو غيرهما.
وأما السياسة فلا بد أن نكبر عليها أربعاً. وأما فلسفة الأخلاق التي يفترض أن تكون أقرب لواقعنا ومن صميم سلوكنا فحدّث عنها ولا حرج.
نتائج وتداعيات:
وهنا يأتي السؤال الخطير: ما الذي يتولد عن هذه الحالة من التقصير في الإلمام بالعلوم المذكورة؟
الجواب: أبرز ما يتولد عن ذلك:
1 ـ غياب الرؤية الواضحة في الاستنباط عند بعض الفقهاء: وهو ما أدخلنا في هذه الخلافات والمشاكل، وحصل خلط الأوراق في الموروث من خلال عدم وجود آلية صحيحة في التعامل معه، فقُدّمت الأخبار الضعيفة على الصحيحة، ودونكم المستحبات.
على سبيل المثال: يسأل بعضهم صاحبه: ما هو الأفضل، زيارة عاشوراء أو صلاة الليل؟ فيجيبه: صلاة الليل، فيرد قائلاً: بل زيارة عاشوراء. مع أن صلاة الليل يصفها القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئَاً وَأَقْوَمُ قِيْلَاً﴾([10]). لكنه يدير ظهره للقرآن الكريم.
وعلى هذه فقس ما سواها، فلو قيل لهذا: ما الأفضل، صلاة الليل أو التطبير؟ ماذا نتوقع أن يقول؟
إنني لست في صدد التعرض للتطبير، فهناك مشاهد أسوأ من التطبير، وأكثر إساءة للمذهب من التطبير. ففي هذه السنة كان هناك أكثر من موكب لضرب الصدور على طريقة «مايكل جاكسون» فهل هذا ما يريده الحسين (ع)؟ ولكن إذا كان الكبار يشجعون على ذلك فلا لوم على الصغار.
فمما يفرزه قصور الباع في تلك العلوم والثقافات تقديم الأحاديث الضعيفة على الصحيحة، ليكون الاستنباط بهذا المستوى. وفي بعض الأحيان لا يقدمون الأحاديث الضعيفة، ولكن تكون قراءتهم للأحاديث الصحيحة قراءة خاطئة.
2ـ الهزيمة النفسية: فمما يتولد عن ذلك الهزيمة النفسية أمام الرأي العام، بحيث صرنا نخجل وننكمش، فعندما نختلط مع إخوتنا من أبناء الطائفة السنية الكريمة ويسألوننا هذا السؤال: ما هو المبرر لفلق رأس طفل عمره ثلاثة شهور؟ فهل لدينا جواب مقنع أم أنه خطأ فادح لا يمكن تبريره؟
وماذا نقول عندما يخرج في الهايدبارك في لندن ذلك الموكب المشين المسيء لمدرسة أهل البيت (ع)؟
يقول أحد الخطباء: إن العباس (ع) عندما أراد أن يبرز، واستأذن الإمام الحسين (ع) فإن الحسين (ع) كان عارفاً بشجاعة العباس وقوته، فخشي أن يفني الجيش بكامله، فقام بتقييد يديه ورجليه بقيد رباني، ثم أذن له أن يبرز!!. ثم تسمع الصلوات والتهليل من الحاضرين على أشدها.
إنني لا أهزأ إلا بالعقليات العفنة([11])، التي لا تعطي لأهل البيت (ع) كرامتهم ومقامهم وعزهم وشرفهم ورفعتهم التي أرادها الله تعالى لهم، وبلّغها النبي محمد (ص) بحقهم.
3 ـ التخلف العلمي: فمما ترتب على ذلك أيضاً التخلف العلمي والفكري، فأين نحن اليوم من الأمم التي سبقتنا! فهنالك تجهيل واضح لأبناء الأمة الإسلامية، وهو تجهيل متعمد، من أجل أن يتمكنوا من قيادتهم.
4 ـ زرع الفتنة: ومن ذلك أيضاً غرس بذور الفتنة بين أبناء الأمة، وقد رأيتم أننا طوال الأيام العشرة ونحن في طاحونة والعياذ بالله، ونسأل الله تعالى أن تكون العواقب سليمة.
أيها الأحبة: ما من شيء إلا وله ضريبة، ومن لم يعدَّ نفسه لذلك ينبغي له أن يجلس في بيته، ويكتفي بوليمة هنا أو وليمة هناك، وتقبيل يدٍ هنا أو تقبيل رأس هناك. فللولاء ضريبة، لكن هناك من يتوقف عن الحركة عند حصول ما لا يرغب فيه.
في الحديث الشريف: «وأيما مؤمن مسه أذىً فينا، فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا، صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار»([12]). فمن حصل له الأذى في مجلس عزاء أو أي محل آخر يعدّ أمراً سهلاً إذا ما أخذ بنظر الاعتبار أنه ضريبة لعمل عظيم، ولا بد لكل منا أن يوطّن نفسه. والحقيقة التي يجب أن نطلقها هي أن الدنيا لو اجتمعت بأطرافها الأربعة، على أن تمحو الحسين (ع) من قلوبنا لما اهتدت إلى ذلك سبيلاً. لأن الإمام الحسين (ع) نقشته يد القدرة في قلوبنا، وثبته محمد وآل محمد في نفوسنا، وتغذينا بحبه من آباء وأمهات شرفاء.
نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.