نص خطبة:وقفات من حياة فاطمة عليها السلام

نص خطبة:وقفات من حياة فاطمة عليها السلام

عدد الزوار: 1136

2018-02-18

الجمعة 15 / 5 / 1439 هـ

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

منزلة فاطمة (ع):

روي عن مجاهد أنه قال: خرج النبي (ص) وهو آخذٌ بيد فاطمة (ع) فقال: «من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد. وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»([2]). وهذا الحديث خرجه الكثير من أعلام مدرسة الحديث عند المدرسة العامة.

الحديث عن الزهراء (ع) فيه الكثير من الصور الجميلة، أعرضنا عن الكثير من ذلك لأننا لا ننظر إليها بعين الجمال، كما أن في حياتها وقفات، سجلها التاريخ وعبرت الزمن، فيها من المأساة الشيء الكثير. فلا يمكن أن نقرأ الزهراء (ع) قراءة مجتزأة، وإنما لا بد أن ننظر إليها من جميع جوانبها، فالله جميل يحب الجمال، وأودع في الكون صوراً للجمال متعددة، والجمال يترتب عليه الكمال، ولا أجمل ولا أكمل من محمد وآل محمد (ع).

في مدرسة العامة من المذاهب الشقيقة الكثير من الروايات عن الزهراء (ع)، ينوف عما هو موجود في كتبنا الحديثية.

وعندما يقرأ الإنسان الحدث مدوَّناً عليه أن يحلق في فضائه بجناحين، جناح العلم والمعرفة، وجناح التجرد عن العوامل، فإن حلّق الباحث بهذين الجناحين استطاع أن يستكشف كنوزاً مودعة في أسفار الكتب، والطرق أمام أصحاب الهمم العالية مفتحة والأبواب مشرعة على مصراعيها، أما أصحاب الهمم القاصرة، فإنهم يقفون عند الأدنى منها، أي الأقرب لهم، لسهولة الأخذ به.

عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «هي فاطمة الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»([3]). فلكي نتعرف العوالم من حولنا علينا أن نتعرف الزهراء (ع) في مكونها، فلا إشكال أنها من البشر، وسيد البشر محمد (ص): ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إليّ﴾([4]). لكنه البشر الذي صُنع على عين الله، وأودع فيه من الملكات ما يحافظ على صفائه وكماله، خاضعاً للإرادة التكوينية الخاصة بالله تعالى. فإذا تعرفنا عليها تعرفنا على العوالم من حولنا، القريب منها والبعيد. وإذا أغلقنا باب المعرفة الذي يفترض أن يكون مفتوحاً، وعمدنا إلى إغلاقه فإننا لن نستطيع أن نصل إلى فك ألغاز هذا العالم، ناهيك عن العوالم من حولنا.

فهنالك عوالم أرضية وأخرى سماوية، وطريقنا لمعرفة العوالم الأرضية هو المدوَّن والمسطور، أما إذا أردنا أن نتعرف عوالم السماء، فلا مجال إلا بواسطة الوحي، والوحي مودع في كتاب الله تعالى، وفقد هبط به الأمين على قلب الأمين، الحبيب المصطفى محمد (ص) وهو أمر واضح، إلا أن هذا الكتاب الذي خوطب به العرب عامة، في الجزيرة العربية آنذاك، وهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن الكريم، كانوا أعرف من غيرهم بمآخذه، لذا تجد أن العربي عندما يأتي إلى المدينة ويسمع من النبي (ص) بعض الآيات يتلوها عليه، ويضع يده على بعض التكاليف الشرعية، ينصرف وقد فتحت الأبواب أمامه.

ثم دخلت الأعراق في الدين الحنيف، فأصبح اللسان العربي مدخولاً، بل تسلل إلى مناطق معينة ذات أثر مباشر في النص الديني في مجراه الفتوائي والتوثيق العقدي.

والزهراء (ع) لها خصوصيتها، فهي من النبي (ص) كنفسه، ولعلي (ع) ما قد علمتم. وهذه الرواية عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت النبي (ص) يقول: «فاطمة بضعة مني من سرها فقد سرني ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعز البرية عليّ»([5]). تبين منزلة الزهراء (ع) من رسول الله (ص) وهي رواية لا عن محمد بن أبي عمير، ولا عن زرارة، إنما هو سعد بن أبي وقاص، والجميع يعرف ما هو موقفه من علي بن أبي طالب (ع).

وهنالك روايات كثيرة في بحار الأنوار، وعلينا أن لا نتوقف ونكتفي بذكر الرواية عنه، بل علينا أن نتتبع المصادر التي أُخذت عنها هذه الرواية.

ضحايا الحسد:

ومما لا شك فيه أن صاحب الكمال محسود، وأن الشجرة المثمرة ترمى، فكيف إذا كان الكمال في أعلى درجاته التي ليس فوقها درجة؟ فبقدر ما حباهم ابتلاهم، وبقدر ما حبانا بهم ابتلانا، وهذا أمر طبيعي، فقد قال علي (ع) «من أحبنا فليستعدَّ للفَقر جلباباً»([6]).

فالزهراء (ع) بقدر ما كانت عليه من مقام ومنزلة، بقدر ما تسبب ذلك بتحريك بعض النفوس، وجاءت حركتها بسبب مخزون في داخلها، تارةً يكون حقداً عليها بسبب مقامها، وأخرى يكون عليها لمجرد كونها بنت النبي (ص) فالحقد في نهاية المطاف على النبي (ص). وأحياناً لا هذا ولا ذاك، إنما هو من منطلق الشعور النقص، فالإنسان الناقص رجلاً كان أم امرأة، عندما يلتفت ذات اليمين وذات الشمال ويجد من هو أكمل منه ويشغل موقعاً متقدماً عليه في مساحات الكمال، تتحرك في داخله حسيكة النفاق، وهذه الحسيكة لا بد أن تظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه، ثم تترجم إلى عمل عدائي، وهذا العمل له وجوه عديدة، فقد يكون مادياً أو معنوياً، كما هو واضح وبين ولا يحتاج إلى مزيد عناية.

إيذاء النبي (ص):

لقد أوذي النبي (ص) في حياته وبعد وفاته، ففي حياته كان الأمر واضحاً، وبعد وفاته كانت الصورة أكثر وضوحاً. فالإيذاء قد يكون بالمباشرة وقد يكون بإيذاء الأحبة، من الأهل والأصحاب والمتعاطفين والمريدين. وهذا كله حصل مع النبي (ص) سواء من الصنف الأول أم الثاني، فقد آذوه في نفسه وفي قرابته، وأجلى مصداق هو الزهراء (ع). بل إن باب المصائب فُتح من هنا، فلو أن هذا الباب أغلق عليها لما فتح بعدها، فكان قتل علي (ع) في محرابه، وسم الحسن (ع)، ورض جسد الحسين (ع)، وهكذا. ولا زال هذا الباب مفتوحاً إلى يومنا هذا.

إن إيذاء النبي (ص) واضح بين في آيات القرآن الكريم، وأدرج ما يترتب على ذلك من الآثار مراراً وتكراراً، فليس ذلك في موضع أو موقع واحد، إنما في مواقع متعددة، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذينَ يُؤْذُونَ‏ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً﴾([7]). فأذى الله والرسول ابتدأ في مكة، واستمر في المدينة، وتطورت آلياته، صحيح أن مشهد الانتصارات الكاسحة في المدينة كان واضحاً، لكن ضروب الأذية كانت منوعة، أوضحها المؤامرة على حياة النبي (ص) في قضية العقبة، عندما دحرجوا الدباب أمام ناقة النبي (ص) كي تنفر به ويتردى في الوادي، وقد أسرّ النبي (ص) أسماء هؤلاء للخاصة الخلص المخلصين من أصحابه، حتى كان بعضهم ممن اشترك في العملية في تلك الليلة المظلمة، يتردد على حذيفة بن اليمان فيقول له: هل ذكرني النبي (ص) بشيء؟ ودارت الأيام فبعثوا بحذيفة بن اليمان إلى جرجان، لئلا يمتنع عن حضور جنائز البعض فتنكشف الأوراق.

وبالعودة إلى الآية الكريمة نجد أن الحق تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذينَ يُؤْذُونَ‏ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً﴾ أي عذاباً من نوع خاص.

وفي موطن آخر يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ‏ اللهُ‏ عَلَيْهِمْ‏ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُور﴾([8]). وهنا يكون ترتيب الآثار في الدنيا، لا كما في الآية السابقة حيث الآثار في الآخرة. فهنا يقول: لا تعطوا هؤلاء يد الطاعة، وهذا ممتد إلى يوم القيامة، ما دام هناك مسارٌ للكمال وآخر للنقص، وليس محصوراً في زمن النبي (ص) فقط. فالذين يغضبون الله ورسوله، ويحركون عجلة هذا النوع من الصفة، لم ينقطعوا عبر التاريخ، ولم يفرغ منهم مكان، غاية ما في الأمر أن القضايا تشتد وتضعف.

وفي موطن آخر يبين القرآن الكريم أيضاً هذا الأمر، فيقول: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُوْنَ‏ رَسُولَ‏ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيْمٌ‏﴾([9]).

لقد كان رسول الله (ص) يقابل الإيذاء بالدعاء لقومه بالهداية والاستقامة، وأن يعودوا إلى دائرة الحق. لكنهم كانوا يمعنون في صنوف الأذى للنبي (ص).

وأقول للإخوان دائماً: إن سورة التوبة غير المصدّرة بالبسملة المشتملة على الرحمة العامة والرحمة الخاصة، فيها إشارة قوية ومباشرة للشدة، من خلال لحن الخطاب العالي الوتيرة، فمن يريد أن يحصّن إيمانه عليه أن يواظب على قراءة هذه السورة المباركة التي تنبض بالحياة، وترفع حالة النقص عند الإنسان المؤمن في كشف واقع الآخر من الماضي والحاضر، ولا يمكن أن يقال: إن هذه السورة كانت في موقع معين، فالقرآن له سراية يتجدد مع الآنات وليس مع الأيام، فأنت تقرأ الآية في آنٍ من الآنات، ثم تعيد قراءتها في آنٍ آخر لتجد نفسك في عوالم أخرى. وهذا لمن أعطي بصيرة، أما غيره فلا.

ففي موضوع الفتن نجد أنها تارةً تكون داخلية وأخرى خارجية. كما يقول آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي (رضوان الله عليه) وهو من تلامذة الشهيد الصدر، ومن حملة القرآن الكريم، والطبقة المتقدمة في استنطاق محكمات القرآن، وعلى درجة عالية من الفهم والاندكاك مع روح النص، مع إسقاطات مباشرة على واقع الأمة.

وهنا أنصح أحبائي الشباب وإخواني أن يقتنوا الكتب التي ألفها هذا الرجل في بيان محكمات القرآن، وسوف يرون عوالم أخرى، ويكتشفون أن هنالك مذهباً عظيماً إذا ما قدمه لنا أناس عظماء كهذا الشيخ الجليل.

يقول (رضوان الله عليه): «إن فتنة السراء تنخر الأمة من الداخل» ففي هذه الفتنة يتحرك طابور المنافقين، وهنالك سورة كاملة في القرآن الكريم تعنى بهذا الجانب. ثم يقول: «وفتنة الضراء تضعف الأمة من الخارج، وخطر الأولى على الإنسان أكثر من الثاني، وما يلزمه الإنسان من الحذر والحيطة في الأول أكثر من الثاني» أي أن ما يقوم به العدو المكشوف الذي تقف أنت أمامه موقف الند للند، بما يملك من وسائل وما تملك أنت، يختلف عما هو عليه في الداخل، فهذا كما يقول الشاعر:

يعطيك من طرف اللسان حلاوةً   ويروغ منك كما يروغ الثعلب

فالذين أخروا دوران عجلة الإسلام في العالم، هم من أبناء هذه الشاكلة، وغثاؤهم موجود إلى اليوم، وزبدهم طافٍ.

وبناء على أن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين لا بد أن يرجع إلى سورة التوبة، ليتفحص الأمر.

ومما أوذي به النبي (ص) بعد حياته، أنه أوذي بحبيبته الزهراء (ع) .

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.