نص خطبة: واقعة الطف مدرسة الأجيال ومعراج المؤمن المحتسب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته.
ثورة الإصلاح:
في الحديث الشريف عنهم (ع): «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (ع) دمعةً حتى تسيل على خده، بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً»([2]).
واقعة الطف هي مدرسة الأجيال، وأيقونة السماء على وجه الأرض، ومعراج المؤمن الصابر المحتسب. مدرسةٌ أبوابها كثيرة، ولكي نهتدي السبيل إليها نستنطق خير من يدلنا على ذلك، وهو الإمام الحسين (ع) نفسه حيث يقول: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي»([3]).
إلا أن هذه المفردة أو هذا الفصل فيه من العمومية والشمول الشيء الكثير، وخير من يبين لنا عمومه، ويفصل لنا مجمله مراجعنا العظام، الأمناء على الأمة في زمن الغيبة للخلف الباقي من آل محمد (عج). ونحن ـ أيها الأحبة ـ نحظى ـ بحمد الله تعالى ـ بشرف الرجوع إلى مرجعيات لها قدمها الثابتة، وعلومها الواسعة وشعورها الكبير بالمسؤولية.
وقفة مع المرجعية الراشدة:
وسيدنا المرجع حفظه الله تعالى، هو المرجع الراشد، العالم العامل الذي لم يشغل نفسه إلا بما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك هو الصادق الصدوق في قوله وفعله، فجدير به وبأمثاله أن تناط بهم المسؤوليات كي ينهضوا بأعباء الأمانة الثقيلة.
إن المراجع هم الواسطة بيننا وبين عوالم الفيض، لأنهم أصلحوا أنفسهم، ومن أصلح نفسه هو أحرى وأجدر أن يرسم الطرق لأبناء الأمة كي تصلح نفسها. فنحن في زمن تتصارع فيه الأهواء، وتتقاطع فيه الطرق والمصالح، فنحتاج إلى من يأخذ بأيدينا إلى حيث النجاة، وحيث السعادة والهدوء والسكون والاستقرار والمحبة والسلام والطمأنينة.
والإمام لا يعرفه إلا الإمام، والفقيه المحكم الفقاهة لا يعرفه إلا فقيه مثله، والمرجعية الرشيدة لا يحدد معالمها إلا مرجع راشد، لذلك أستعين بمقولة لسيدي الإمام الشهيد الصدر الأول رضوان الله تعالى على روحه المقدسة في حق سيدنا المرجع حفظه الله تعالى. يقول: الشخص الوحيد الذي يتفق معي بشكل كامل، ولديه وضوح في الرؤية هو السيد علي السيستاني، وإني أتوسم فيه أن يكون مرجع الأمة في يوم من الأيام. كان هذا الكلام قبل أكثر من أربعين سنة، وربما لم يطرق سمع الكثيرين آنذاك اسم المرجع.
وفي هذه المقولة نقرأ الاتفاق بشكل كامل، فالإمام الشهيد الصدر فقيه، ومرجعنا فقيه من الطراز الأول، فالإمام الشهيد الصدر حركيٌّ في فتواه، وسيدنا المرجع كذلك. والإمام الشهيد الصدر واسع الأفق، ومرجعنا كذلك. والإمام الشهيد الصدر وسع صدره القريب والبعيد، وسيدنا المرجع كذلك. ومرجعنا هو الذي أطلقها مدوية في عالم وجودنا: لا تقولوا إخوتنا، بل قولوا: أنفسنا. هكذا روضنا وربانا وعلّمنا ودرّسنا، فحريٌّ بنا أن ننهج طريقه، وأن نتمثل مقولته تجسيداً واقعياً.
والإمام الشهيد الصدر راشدٌ في قوله وفعله، والسيد المرجع كذلك. والإمام الشهيد الصدر لم يصانع إلا وجهاً واحداً، وكذلك سيدنا المرجع.
أيها الشباب الطيب المبارك: إذا أردنا الهداية والاستقامة فعلينا أن نعمد إليها من منابعها الثرة، فالحناجر الموبوءة والأقلام المشبوهة تتحرك في أكثر من مكان، ولكن كما قلت وأكرر: لا يصح إلا الصحيح.
إن السيد المرجع حفظه الله تعالى وضع النقاط على الحروف في استقبال هذا الشهر المضمخ بالدماء، دماء الشهادة والكرامة، دما العروج الملكوتي والسفر الرباني، عندما حدد معالم الطريق، ووضع على كل مفرق منه علامة يستدل بها المؤمنون الرساليون الذين يعيشون الإمام الحسين (ع) فكراً وعملاً.
محاربة الظلم أبرز دروس الطف:
ولكي ندرك أهداف الثورة الحسينية لا بد أن ندرك أولاً أنها ثورة على الظلم بكل معانيه ومصاديقه، فالظلم في البيت بين الزوج وزوجه، وبينهما والأولاد، فقد ثار الإمام الحسين (ع) على هذا الواقع من الظلم المأساوي الذي يعصف بالأسر والبيوت، ويحطم كينونتها. فلو أنني كنت حسينياً فعليّ أن أنتزع الظلم من داخلي، لأضعه تحت قدمي، وأعيش سعادة في بيتي تنبثق عنها السعادة من حولي في مجتمع مبارك.
وكذا الظلم في العمل، وربما تحسس البعض نوعاً ما عندما قرأت الفتوى لسيدنا المرجع بخصوص ضوابط العمل، وكأننا مع المرجع فيما يتفق مع ميولنا، أما ما لا يتفق معنا فيه فهو في طريق ونحن في طريق آخر. لكنها لم تكن إلا فتوى استفتاها الأساتذة المدرسون أنفسهم، فلماذا يتجاوزون حدودهم الطبيعية، ولا يقفون عند حدها؟ وما هو الهدف أن يُصدَّر بيان تحت عنوان: السيد محمد رضا السلمان يهاجم المعلمين؟
فعلى الإنسان أن يكون أميناً في أداء وظيفته في العمل، وأن يكون صادقاً صدوقاً، ليجسد مظهراً من مظاهر العطاء الحسيني في كربلاء. فنحن نرفض التسيّب ونمقته ونحاربه من أي جهة كان، وعندما ننتقد جهة فلا نقاضيها ولا نحاربها، إنما ننتقد من أجل الوصول إلى ما هو أفضل، فلا داعي لغضب البعض وعدم رضاه، فأنا أقرأ الفتوى وأبين التكليف الشرعي، ومن شاء فليتبع، ومن شاء فليخالف، فلم أستفتِ أنا نيابة عنهم، إنما هم الذين استفتوا لأنفسهم، وربما فعلوا ذلك ليبرروا الغياب والذهاب إلى كربلاء في الأربعين، أو ليبرروا الغياب وإجراء أعمالهم خارج الدوام الرسمي أثناء الدوام.
فأنا لست متحاملاً على أحد، ولا يضرني شيء، إذ لا أتقاضى راتباً من أحد، ومن كان يعطيني راتباً فليقطعه. بل إنني لم أتقاضَ راتباً واحداً من الحوزة العلمية حتى أمد يدي لأيّ كان. لا كما يدّعي البعض أنني فعلت ذلك لحاجة في نفس يعقوب! أو كما قال البعض: خذ عطيتك من الوالي!. وبناءً على ذلك يجب أن لا نبين الأحكام الشرعية حتى على مستوى الواجبات كالصلاة والصوم، أو المحرمات، لأن هناك الكثير ممن يترك الواجب ويرتكب الحرام.
من هنا فإن المسؤولية ثقيلة على المدراء أولاً وبالذات، ومسؤولية المدير أخطر، والأمانة في عنقه أثقل مما هي عليه في من يدارون، لأن مصالح الأمة تذهب أدراج الرياح، ومصالح الوطن، وأحياناً مصالح الدين.
إن إحياء الأمر الوارد في قولهم (عليهم السلام): «أحيوا أمرنا» يعني إحياء علومهم، ومن إحياء العلوم نشر الفتوى بين المؤمنين، وبيان التكاليف الشرعية، وهو أفضل من ألف مجلس ومجلس. ومن هنا نجد أن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، لأن مداد العلماء تحيا به أمم بأكملها.
فالمبادئ والقيم السامية التي سنها النبي محمد (ص) يجب أن تُحيا في داخلنا، بأن يكون المرء صادقاً مع نفسه ومع غيره ومع ربه وأن يكون صالحاً محسناً ساعياً للخير ناشراً للعلم والفضيلة، وأن يحترم الآخر ويحتضنه، وهنالك أيضاً مبادئ التضحية والفداء وغيرها من القيم التي غرسها الإمام الحسين (ع) في الأمة، فلو أخذت الأمة بالنزر اليسير منها لما كان أمرها على ما هي عليه اليوم، إذ يقتل المسلم أخاه بدمٍ بارد، حتى وصلت بعض الحالات إلى داخل العوائل. وهذا مؤشر خطر. فالتلوث لا يقف في حدود التلوث البيئي أو تلوث الطبيعة، إنما يتعدى لأكثر من عنوان، فهناك التلوث الفكري أو الديني أو الأخلاقي وما إلى ذلك.
وأكرر ما أقوله مراراً: إذا استمر الحال على ما هو عليه فانتظروا الأسوأ، لأنها حقيقة قرآنية ثابتة: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾([4])، فمجتمع الكوفة لم يصل إلى ما وصل إليه إلا لأنهم ﴿كَانُوْا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوْهُ﴾([5])، لذلك يُقتل الإمام علي (ع) في مسجد الكوفة وخلفه الصفوف، ويُقتل الإمام الحسين (ع) وتسبى ذراريه وهو في قلب المعقل، لا في تخوم الحبشة ولا على أسوار الصين.
توجيهات المرجعية للخطباء:
إن للسوء بذرة ونواة صغيرة جداً ثم تكبر، وسيدنا المرجع حفظه الله تعالى وضع يده على الجرح في موضوع المنبر، لأننا بمنبر الحسين نسمو إذا سما به وارتقى روّاده، ونتراجع للوراء إذا كان زادهم على غير ما يرام.
فالسيد المرجع يؤكد على التنوع في الطرح من حيث المادة، وهو أمر مهم يدل على أن السيد المرجع يعيش المشهد من جميع جوانبه.
والأمر الثاني الذي يؤكده هو سعة ثقافة الخطيب العامة. وأهمس هنا في آذان خطبائنا رواد المنبر الحسيني فأقول: الأجدر بالطرح أن لايتجاوز رؤوس الأقلام على المنابر، فيجب أن تجهدوا أنفسكم لحفظ المطالب المهمة، لا أن يأتي الخطيب بالكتب أو جهاز الكمبيوتر أو الجوال لتكون عوناً له في المنبر. فلكي تكسب ثقة الجمهور لا بد أن تترك فاصلة يتمنى الجمهور الوصول إليها، فخطباؤنا السابقون كانوا يحفظون القصائد الطوال، ويستشهدون بالقضايا والشواهد عن ظهر قلب، لا أنهم يستعينون بالجوالات أو أجهزة الكمبيوتر ليستحضروا الآية أوالرواية أو القصة.
والأمر الثالث الذي يدعو إليه السيد المرجع (حفظه الله) هو تحري الدقة التامة في نقل النصوص. فنحن نسمع الكثير من الروايات، إلا أن واقعها غثّ لا ينسجم مع واقع مدرسة محمد وآل محمد.
والأمر الرابع: الابتعاد بالمنبر عن الأحلام والخيالات، وهذه مصيبة المنبر منذ ألف وأربعمئة سنة.
لقد كان المنبر ينتظر ربيعاً، وجاء ربيعه، فهل نحافظ على ربيعه، كما رسم معالمه سيدنا المرجع؟ أم أننا نبقى في إطار الأحلام والروايات الضعيفة والإسرائيليات وغيرها؟
إن حديثي هذا ليس بجديد، فمنذ ست أو سبع سنوات كنت أتحدث به، وكان البعض لا يروق له ذلك، بل كان يرى أنني أحارب الخطباء والشعائر وغير ذلك من الكلام، فماذا يقول الآن وقد تحدث به السيد المرجع نفسه؟ هل يقول: إنه يحارب المنبر أو الخطباء أو الحسين (ع)؟
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يهتدون سبيل الإمام الحسين (ع) بإرشاد مراجعنا، وهنيئاً لنا أن نعيش في ظل مرجعية راشدة، وهي بركة لنا، وقد سبق لي أن تحدثت في محاضرة مستقلة عن السيد المرجع، ولولا أنني أخشى أن يُحمل كلامي على محامل غير محمودة لتحدثت بالكثير، فهناك بعض النفوس الضعيفة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، وربما تؤثر في نفوس أخرى، وإلا فإنني شخصياً لا أخشى أن يحركني أحد قيد أنملة من مكاني، ولا أعير وزناً لشيء، ولا يهمني أولاً وأخيراً إلا أن أكون صادقاً مع الله ومع نفسي وجمهوري، أما ما يقال هنا وهناك فهو منهم وإليهم.
أسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.