نص خطبة : هل غياب علماء الأمة عن الواقع المعاش يشكل عاملاً إيجابياً؟

نص خطبة : هل غياب علماء الأمة عن الواقع المعاش يشكل عاملاً إيجابياً؟

عدد الزوار: 651

2012-03-04

 

بارك الله لنا ولكم ولعموم المؤمنين والمسلمين، ذكرى ميلاد الكوكب الحادي عشر من كوكبة أنوار الإمامة الحقة من آل محمد (ع).

الحديث عن الإمام العسكري (ع) يلازمه بالضرورة الحديث عن الخلف الباقي من آل محمد (عج) فعندما خطى الإنسان على هذا الكوكب مجموعة من الخطى في مسيرته التكاملية نحو الوصول إلى حياة سعيدة يرتضيها لنفسه، كانت البشرية تتهادى في مسيرتها على أكثر من منحىً واتجاه، مما جعل السماء تتدخل بين الفترة والأخرى في سبيل تقويم الأود، وتصحيح المسار عند الإنسان الناشد للسعادة. لذلك جاء الأنبياء والرسل وتلاهم الأوصياء والأولياء، وكتب الله للمسيرة أن تدوم، حيث قيض من الأمة وإلى الأمة أعلاماً نذروا أنفسهم في سبيل الحفاظ على المبدأ والأخذ به إلى أشواط أبعد.

وعندما تقدم الأمر بالإنسان، وجد أن الحياة لا تنتظم إلا من خلال قانون يسوس مسيرتها، حيث إن الحقوق والمتطلبات أكثر من أن تحصر ويدعيها المدعي ما لم يُقم عليها دليلاً أصيلاً واضحاً بيناً سهل التعاطي.

لقد عُهد لهذا الإنسان من قبل الله سبحانه وتعالى عمارة الأرض، حيث قال: ﴿إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيْفَة([3])، فقد قرئ هذا الاستخلاف في الآية بأكثر من قراءة، فقيل إن المستخلَف المعنيّ هنا هو جنس الإنسان، والألف واللام للاستغراق لا للعهد. وبناء على ذلك فإن كل إنسان على وجه الأرض مستخلَف عليها، وفي عهدته أمانة لا بد من النهوض بها. والذين يميلون لهذا القول، في معظمهم ممن يحملون القراءة الحديثة، التي ترتكز على بُعدين: العمق والتركيب، حيث التركيز، ثم الانبساط (أو البسط) في الجهة الأخرى، وإن كان لهذه المدرسة جذور أيضاً عند بعض كتاب التفسير في القديم.

والقراءة الثانية أن المستخلف على الأرض هو الأمين المخصوص بهذه الأمانة، وهذا لا يمكن أن يُتصور إلا في حدود دائرة الأنبياء والرسل، ثم تأتي المدرسة استتباعاً، فإن كانت تختار اتجاه العامة، فهي في حدود الأمانة الملقاة في عهدة الأنبياء قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيةِ الله([4])، وبهذه الأمانة بالدستورية خُتمت أمانات الدستور.

أما مدرسة أهل البيت (ع) فتذهب إلى مدىً أبعد وشوط أكثر مدىً، وهو أن الأولياء والأوصياء والأئمة، هم الامتداد الطبيعي لهذا المسار، وحجتهم في ذلك آيات كثيرة، وروايات أكثر من تلك الروايات وأجلى وأوضح من حيث إيصال الفكرة. ومنها قول النبي (ص): «إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

إذن هناك امتداد لحمل أعباء الإمامة. فالإنسان بطبيعته له حقوق، قسم منها عبادية، وقسم منها مدنية، وأخرى شخصية، وهكذا تتشعب وتتكثر بقدر ما يعيش الإنسان في مجتمع أكثر عصرنةً وانفتاحاً على الواقع من حوله، وبقدر ما تتهيأ أسباب المادة في يد الإنسان، بقدر ما يستدعيه ويبعثه صوب الطلب والرغبة في الحصول على أكثر نسبة من الحق ليسوس به أمره ويقوّم به كيانه.

وتزداد الأمور تعقيداً عندما يتحرك المجتمع خارج دائرة الفكر المدني، ويبقى رهين دائرة معينة تحكمه الذوات الخاصة تارة، أو المنطق القبلي تارة أخرى، أو التوجه الحزبي والتنظيمي المنغلق على نفسه تارة ثالثة، وكل هذه المسارب الثلاثة من المرديات، والمسرب الذي يمكن أن يأخذ بيد الإنسان باتجاه تحقيق الأرضية المستدعية بالضرورة لاكتساب الحقوق، هو أن يكون الجمع يبحث عن هذه الحيثية، فيفتح المسارات في سبيل تحصيلها، وهي مسارات كثيرة، لا أنها محدودة في اتجاه وبعد واحد.

فالحياة الكريمة في جانبها المادي والمعنوي، كحق التعبير عن الرأي، والحق الفكري، وحق تكون الأسرة، وحق الملكية الخاصة، وحق التصرف فيما تحت يد الإنسان، هي حقوق وبواعث يشترك فيها أدنى الناس، ناهيك عمن يحمل فكراً أو يتلمسُ واقعاً.

من هنا فإن كل إمام في كوكبة الإمامة جاء ليكمل الدور، وأما الرسالة بما هي رسالة فهي رسالة مكتملة منذ يومها الأول، غاية ما في الأمر أن ابتعاد الأمة عن واقعها اللغوي المستنطق للنص الصادر عنهم (ع) يدخل هذه المجتمعات في الكثير من المتاهات. فلو التفت المرء وتمسك بلغة النص الصادر عن المعصوم، كما هي في أصلها، لا كما هي عندما دخل عليها الدخيل، ونسفها من قواعدها، لاستطاعت البشرية أن تهتدي إلى ذلك العسل المصفى سبيلها، لكنها أبت إلا أن تبتعد عن دائرة هذا الأمر.

والإمام العسكري (ع) الذي نعيش ذكرى مولده الشريف، تحرك على أكثر من صعيد وصعيد، بدءاً بالمدينة المنورة وانتهاءً بسرَّ من رأى، وبين المدينتين مسافة كبيرة، حيث يحكم الفكر في المدينة المنورة آنذاك الجانب التقليدي الصرف، فقد نشبت مخالب أحد المذاهب، وأصبح سيد الموقف في تلك المرحلة، بحيث صُفّي جمعٌ كبير من أعلام المسلمين، ممن لا ينتمون إلى ذلك المذهب، ولا يتفقون مع مسربه، كما صُفي الكثير من أتباع مدرسة أهل البيت (ع).

ومن هنا أقول: من التجني في القراءة على تاريخنا، أن نتعاطى المشهد حصراً على أناس قضوا نحبهم ظلماً وعدواناً بأيدي طغاةٍ تربعوا على رؤوس الأمة عبر التاريخ المنصرم، على أنهم من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) فحسب، مما يقلل من قيمة التعاطي مع الحدث. نعم، إنهم خسارة كبرى، والظلم في أقسى صوره، لكن طاحونة القتل والاستئصال والظلم والفساد، لم تستثنِ عبر التاريخ مذهباً دون المذهب الآخر، فمتى ما كان السلطان ينتمي لمذهب بعينه، فهذا يعني أن جرجرة فكر ذلك الفقيه تبقى سيدة الموقف، لا حباً لفقاهته، ولا اعتقاداً بتأصيله، إنما هو الطريق الذي لا يُعبَّد إلا عبر هذا المسار. لذلك قتل الكثير من الأحناف والحنابلة والمالكية، ولم يكن الشافعية بمنأىً عن ذلك، وهم الذين يحملون الفكر المنفتح أكثر من بقية المذاهب, وبالتالي فقد استُأصل الجميع دون استثناء، ولكن الضربة كانت أشد، والوطأة أكبر، على مدرسة أهل البيت (ع) لا سيما الأئمة (ع) وهم الكوكبة النيرة، لأنهم يعنون الطليعة التي يُلاذ بها، ويستنار بهديها، فلا غرابة أن يأتي النص عنهم (ع): «ما منا إلا مقتول أو مسموم» ([5])، فهذه نتيجة حتمية، لأن الشجرة غير المثمرة لا يقترب منها أحد، حتى لو حصل أن هناك شجرتين إحداهما مثمرة والأخرى غير مثمرة، وكان هناك من ليست لديه رغبة في الأكل، فلا شك أنه يلوذ بظل الشجرة المثمرة ليتفيأ ظلالها، لما تحمله من الجمالية، ومظهر الآية الدالة على عظمة الخالق. وكذا الحال بالنسبة للأئمة (ع) فهم يشكلون لنا أكثر من معنىً ومعنى، لذلك شخص الحكام عبر التاريخ، والخلفاء الذين زُرعوا على رأس الأمة في تقلبات ثلاث، أن الأئمة (ع) مكمن الخطر ومصدره، لأن الفكر الذي يحملونه ويريدون له أن يكون سيد الموقف هو الفكر الناصع، والرسالة الحقة التي ائتمنوا عليها، ولا بد أن يقوموا بأعبائها مهما كلفهم الثمن. لذا فإن الهدي إذا جاء من محمد وآل محمد (ع) فهو الهدي، وإلا فلا.

مفهوم الاحتجاب في حياة الإمام العسكري:

من المفاهيم المهمة في حياة الإمام العسكري (ع) مفهوم الاحتجاب عن أتباعه، وهو مفهوم شكّل مفردة هامة في حياته (ع). فالأمة كانت قد ألفت الإمام المعصوم بين ظهرانيها وأوساطها، تأخذ منه التكليف، وتلوذ به عند المصيبة، لكن هنالك مرحلة حتمية لا بد أن تخطوها البشرية، خصوصاً من يسير على مسلك أهل البيت (ع) ألا وهي أن الإمام سيحتجب، وأن هذه السنة سماوية، موضوعها الأنبياء والرسل الذين عاشوا هذه الفترة، ثم جاء الأئمة من بعدهم كل بحسبه، إلا أن مظهر الاحتجاب في صورته الأجلى والأوضح تمثل بالخلف الباقي من آل محمد (عج). ولو أن الأمة اصطدت بهذا المفهوم مباشرةً لترتب عليه الكثير من السلب، لأنها لم تألف هذا المسار وهذه الطريقة، لذا سعى الإمامان الهادي والعسكري (ع) في تهيئة الأجواء العامة في ذهنية أتباع مدرسة أهل البيت (ع) لتقبُّل هذا الواقع الجديد والتعاطي مع هذه النقلة.

ولكن، بما أن هذه الحال سوف تخلف وراءها شيئاً من الخلل، وفراغاً لا بد أن يسد، فقد تحرك المعصومون (ع) في سبيل تأمين هذا الجانب، فجاءت من قبل الإمام العسكري (ع) المكاتبات الخاصة والبيانات الصادرة عنه والتواقيع التي لم تكن مألوفة ممن تقدمه من الأئمة (ع) وبهذه أحدث ما يستوجب ملء فراغٍ في جهة من المشهد.

الوكلاء في عصر الإمام العسكري:

والأمر الآخر هو توجيه الإمام المعصوم (ع) للأمة عموماً، ولأتباع مدرسة أهل البيت (ع) بشكل خاص، نحو دور الوكيل الشرعي في مناطق تواجده. ومن هنا نقول: إن بذرة التوكيل من قبل أصحاب مدرسة أهل البيت (ع) كان قد نهض بها الإمام العسكري (ع) وأعطاها مصداقية، وأولاها مزيد اهتمام.

وهذه الدفعة من قبل الإمام (ع) في مسار مدرسة أهل البيت (ع) لم تقف عند ذلك الحد، إنما كان لها امتداداتها، وهي كواقع نعيشه ما دامت الغيبة ثابتة مستقرة، والإمام مغيباً عنا.

لقد أصّل الإمام الهادي (ع) قبل العسكري (ع) لمسألة الاحتجاب، ثم أكد الإمام العسكري هذا الواقع وسط الأمة، فالإمام الهادي (ع) كان قد غيَّب الإمام العسكري (ع) لفترة من الزمن، ثم مارس الإمام العسكري (ع) بنفسه دور التغييب للذات عن أوساط أتباعه.

لكن هذا التغييب والاحتجاب قد يُقرأ قراءة سلبية، وقد يقرأ إيجابياً، وحيث إنه صدر عن المعصوم، فلا يمكن أن نتمسك فيه بالطريق الثاني، وهو الاحتجاب الإيجابي، وبدليل ما تقدم من العنصرين، نكتفي في أن ما قام به الإمام (ع) هو من نوع ذلك الاحتجاب الإيجابي.

وعندئذٍ نسأل: هل إن غياب علماء الأمة عن الواقع المعاش يشكل حالة من الاحتجاب الإيجابي؟ وإن كان كذلك، فهل هو إيجابي على الشخص ذاته أو على المجتمع من حوله؟ أو أن الاحتجاب أمر سلبي مطلقاً، مما يستوجب دفع الضرائب منه بين يدي الله تعالى، وهو شديد العقاب والمحاسبة، أو بين يدي المجتمع الذي لا يرحم عندما تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه؟

إن هذا الاحتجاب يؤمّن إيجاد أجواء الألفة بين القاعدة العامة وبين رموزها، لكن هؤلاء الرموز لا بد أن يعوا ما للمسؤولية من أهمية قصوى متناهية لا يمكن أن يفرط بأقل القليل منها، لأن التفريط في ذلك يعني دفع الكثير من الخسائر.

ومن هنا توجه علماء الطائفة (رضوان الله عليهم) إلى تثبيت الحوزة العلمية، لما لها من دور في وسط الأمة، للحفاظ على المسار، وتحصين المدرسة التابعة لأهل البيت (ع).

وقفة مع ذكرى السيدة المعصومة:

وحيث إن الحديث عن الحوزة الكبرى في العصر الراهن وهي حوزة قم، شرفنا الله وإياكم للوصول إلى أعتاب السيدة المعصومة فيها، والتي نعيش ذكرى وفاتها هذه الليلة، وهي تستحق الكثير، فلا بد أن نُطلّ سريعاً على ذكراها.

وإن كان البعض اليوم يذهب لزيارة الإمام الرضا (ع) فلا يثنّي بزيارة المعصومة (ع) فعليه ـ على الأقل ـ أن لا يتنكر لمجالسها، فيحضر فيها في مثل هذه المناسبات، لأن أهل البيت (ع) هم السبب في حفظ المسيرة، فلو أنك حذفت واحداً من أولئك النجوم من سماء مدرسة أهل البيت (ع) لبدا الخلل واضحاً. ولك أن تقرأ مدينة قم لو لم تكن فيها السيدة المعصومة (ع) فسوف تجد أنها ستكون كغيرها من البقاع، لكنها أصبحت مقدسة بالمعصومة (ع).

ولست في صدد التأكيد على ما لها من العظمة، فالشواهد على ذلك كثيرة، من قبيل ما في كتاب الكنى والألقاب للمحدث القمي، وكذلك أعلام النساء، وغيرها من الكتب التي تتعرض لشخصية هذه المرأة الجليلة.

وأدعو الإخوة الأعزاء، لا سيما الشباب، أن يكثروا من القراءة عن الرموز في مدرسة أهل البيت (ع) وأما الأخوات فأستحثهنَّ أكثر وأكثر أن يقرأن سيرة الزهراء والحوراء وخديجة الكبرى والسيدة المعصومة (ع) ولو أن المرأة أخذت بسيرة هؤلاء النسوة الأربع، لكان الحال على خير ما يرام، فكما أن هنالك أركاناً للإيمان من الصحابة الكرام، وهم أبو ذر وسلمان والمقداد وعمار، كذلك أركان الإيمان في النساء أربع، وهن خديجة والزهراء والحوراء والمعصومة (ع). هذا هو المربع المقدس في العالم النسوي الذي يمثل الفكر والعبادة والتقى والطاعة والجهاد والتضحية في سبيل أن تصل أنت أيها المؤمن إلى ما وصلت إليه.

أيتها الأخت المؤمنة: إن العزة والكرامة والشرف والرفعة في نهج هؤلاء النسوة. فمن أرادت أن تكون صالحة ورعة تقية مطيعة مربية لأسرتها بانية لمجتمعها، مؤسسة لأمة راشدة، فعليها أن تلوذ بكنف هؤلاء النسوة، فتنظر أين تربين؟ وكيف؟ وماذا قُلنَ وماذا عملنَ في حياتهنّ؟

فنسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا أن نقرأ ونكثر من القراءة، فالقراءة أمر تراكمي يكمل بعضه بعضاً، ويخزن بعضه فوق بعض، حتى إذا حانت ساعة الحاجة وجدته أمامك.

مع حوزة قم:

وصلنا في حديثنا عن حوزة قم إلى المدرسة الفيضية، وذكرنا أنها كانت شعلة نشاط من التدريس والتحقيق والخروج بالفكر النير رغم الكثير من طبقات الظلام التي تحيط بالكثير من مفردات الفكر النير، إلا أنها تبرز ظاهرة بينة. فقد خرّجت هذه المدرسة أعلاماً وعمالقة فكر وأساتذة علم ومعرفة.

ومن هؤلاء الذين أود استعراض جانب من مسيرتهم كمثال على ذلك ([6]) ، الشهيد المطهري، والشهيد البهشتي والشهيد السعيدي، فهم رجال اجتهاد، وأصحاب رأي فقهي، وأصحاب مدرسة أصولية فكرية فلسفية، كما أنهم جمعوا بين الحوزة والجامعة، لأن بعضهم كان حائزاً على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، أما الدكتور سعيدي فهو طبيب بشري.

وسوف نتعرض في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى لهؤلاء الأعلام الثلاثة.

والأعلام في الفيضية لا عدّ لهم ولا حصر، وكل ذلك ببركة صاحب هذه المناسبة وآبائه، وكذلك عين الخلف المهدي من آل محمد (عج) .

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.