نص خطبة:مولد النبي (ص) وعبث الإسرائيليات الممنهج (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
أسعد الله أيامكم وأيامكم بذكرى ولادة النبي الأعظم (ص).
في موطن النور نور الحق قد بزغا فأشرق الكون بالآيات وانبثقا
ومصطفى الروح للآتين في ألقٍ يبرمج الهدي والأفكار والخلقا
نبيُّ هديٍ بنى الإسلام شرفنا يؤمّن الحبَّ والآمال مرتفقا
يا أرضَ مكة لاحت من بشائره رايات فتح تعيش الفجر منطلقا
عبادة الله تسبيحٌ يراد بها صياغة النفس عزّاً يملأ الأفقا
يا ساعة الوعد في أطراف مكّتنا هذي الصلاةُ تعالت ترسمُ الشفقا
إشراقة النور المحمدي:
قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}([2]).
في مكة أشرق نور محمد (ص) وفي طيبة ومنها تفرعت أنواره، وبين هذه وتلك قصة حضارة إسلامية، وأمة أبت إلا أن تشق طريقها بين الأمم، حاملة راية المحبة والأخوة والسلام. تلك الراية التي وضعتها بعد فصل من الزمن، فارتدّ ركبها وخاب رجاؤها، وتسلّط عليها أعداؤها، حتى باتت في وضع لا تحسد عليه، بين أنهار من الدم في كل مكان، وشتات في الفكر، وتخلٍّ عن الثوابت، ومشاكل ومحن هنا وهناك. ولو أنهم عادوا إلى حيث المنطلق الأول، وجسدوا الدين الحق كما كان غضاً طرياً، على يدي أشرف الأنبياء والرسل، يهدي إليه القرآن المنزل، والسنة المطهرة عن النبي (ص) وآله (ع) لكان لهم شأن آخر، لا يقاس بما هم عليه اليوم.
أسس التوحيد والوحدة:
لقد وضع النبي (ص) المشتركات وأصّل لها بين الأمم، لا في حدود دائرة أمة بعينها، لأن رسالته عامة كافة للناس. فمن القواسم التي وضعها وينبغي الالتفاف حولها وإدارة الظهر لما هو خلاف ذلك، الكتاب الواحد، وهو القرآن الكريم الذي هبط به الأمين جبريل من القدس الأعلى على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).
فمن كان على الأرض لا يؤمن بآلهة، وإن اصطنعها وتفنن في المسميات، إلا أن الغاية والهدف هو الإشارة إلى ما يؤمّن الوحدة، والإسلام أولى أن يرفع الراية التوحيدية، والإسلام بأهله، فإن تقدموا به تقدموا، وإن أخّروه تأخروا.
فالكعبة المشرفة شرفها الله تعالى إذ جعلها أول بيت وضع للناس، وشرفها بمولود لا يقاس به وليد، إلا أن يكون النبي الأعظم محمد (ص)، ذلك هو أمير المؤمنين (ع) الذي شرّف الكعبة بولادته فيها، مع أنها مشرّفة قبل ذلك. فهذه الكعبة يتوجه إليها مليار ونصف المليار من المسلمين، يتّحدون لدقائق، ويفترقون لساعات وأيام وشهور وسنين، حتى تراكم القرن على القرن، وإذا بالأمة أيادي سبأ، بين مشرّق ومغرّب، يتبعون الأشخاص صناّع الساعة، ولا يسيرون على هدي محمد وآل محمد (ع).
لقد بتنا ـ مع الأسف ـ نتعصب لأشخاص لا يتمتعون بالعصمة، مهما علا قدرهم وشأنهم ومكانتهم، ولا نتعصب لرموز فرضت السماء علينا السير على هديهم. فقبل سنين قلائل كان الوضع أكثر سلماً مما نحن عليه اليوم، لا لشيء إلا لأن المصاديق اختلطت في الخارج، والمفاهيم تقاطعت فيما بينها، حتى بتنا لا نُسقط مفهوماً على مصداقه، وفصلنا بين العنوان والمعنون. فتركنا العنوان الأصيل، وتمسكنا بالفرع التابع. فعلينا أن نراجع الحسابات.
بعضنا لا يدخل مسجد فلان من الناس، ولا حسينية فلان، ولا يحضر الفرح عند فلان، ولا عزاء فلان، لا لشيء، إلا لأنه من الجهة الفلانية في تقليده وتوجهه وانتمائه وفكره، وشخص آخر يقول: ما عساي أن أفعل؟ وكأني به يتمثل بقول قائلهم:
وألقت عصاها واستقر به النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ
فهو ينتظر ريثما تنجلي الغبرة ليضع رجله في الركاب، محركاً عنان جواده الذي يمتطيه ليلحق بالركب.
أقول: ينبغي أن نكون حول الكعبة بقلوبنا وأرواحنا ووجداننا، وأن ننصهر فيها، لا أن نتوجه إليها فقط بصفحات وجوهنا واستقبال أجسامنا، فالمزج بين المادة والمعنى هو السموّ والارتقاء، وعندما يخضع الجسد للروح يتقدم الإنسان، ويندفع من ورائه الركب، وإذا بالأمة تزحف، وإلا ما عسى أن تكون أمة بعث فيها النبي (ص) وهي تقتات القد، وتشرب الطرق، أذلة خاسئين يتناحرون ويتصارعون على أهون الأمور؟ فما هي إلا برهة من الزمن، وإذا بهؤلاء البشر أنفسهم يتسيّدون العالم، لا لشيء إلا لأنهم أوقدوا حرارة الإسلام في داخلهم، وكان للإسلام إشراقات من أنواره لبّت دعوتها تلك الأرواح الطيبة من حول الرسول الأعظم محمد (ص).
وقبل الأمرين هنالك نبي واحد، فلا هذا يقول: لي نبي غير محمد، ولا ذاك يقول خلاف ذلك، فلو أننا كنا صادقين جميعاً باعتقادنا بالنبي محمد (ص) فلماذا لا نجتمع عليه؟ وما هو الشاغل الذي يشغلنا؟ وما هو الأمر الذي له إسقاط على تفكيرنا؟ وما هو العامل الأساس الذي عمل جاهداً على حرف البوصلة عن اتجاهها الصحيح؟ ولماذا نستحضر الآية الشريفة والحديث الشريف بدلاً من أن نقول: قال فلان، وأفتى فلان؟ حتى إنك إذا قلت له: ولكن هنالك نصّ قرآني، قال: لا يفهم الآية إلا فلان بن فلان.
هل نحن بمسيس حاجة لتكرار ما كنت أقوله سابقاً من أن القادم أسوأ؟ أم ما زال في الإناء صبابة عسى أن نروي منها ظمأ الظامئ كي يصل لنهاية المطاف؟
ألم يكن الإله واحداً؟ إذن لماذا استدعينا وابتدعنا له شركاء حتى بات في كل موقع صنم نتوجه إليه بعبادة قد لا نكون قصدناها، لكنها فرضت واقعها، فإلهنا يقول لنا: كونوا وحدة متماسكة: {وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعَاً وَلَا تَفَرَّقُوْا}([3]). فلمن استجبنا في تفرّقنا؟ هل استجبنا لله الذي يدعونا للوحدة والاتحاد والانصهار؟ أم لإله اختلقناه نحن من ذواتنا، دعانا فاستجبنا له وأعرضنا عن قول الله تعالى وأوامره؟
يتصور البعض أن الصنمية كانت فقط عند أهل مكة أيام البعثة لما وجدهم النبي (ص) يعبدون الأصنام ويتخذون لها تماثيل في بيوتهم، ويضعونها فوق الكعبة، وهذا تصور خاطئ، فالصنم قد يكون مجسماً، وقد لا يكون، ونحن لا نقبل من الآخر، ولا نوافقه على ما هو عليه من ضلالة، لكننا قد نكون في منطلقاتنا على أمر لا يقل عنه في الإفضاء للضلالة.
فالإله واحد لا شريك له، والنبي واحد هو خاتم الأنبياء، والكعبة المشرفة واحدة لها قيمتها في لمّ الشمل، نتوجه إليها خمس مرات في كل يوم، فمتى تستيقظ هذه الأمة من نومتها؟ ومتى تستعيد كرامتها وتعيش شرفها وتبني مستقبلها وتشخص عدوها؟
والكتاب واحد، نتلوه آناء الليل وأطراف النهار، في محافلنا ومدارسنا وجوامعنا وعتباتنا ومساجدنا وأفراحنا وأحزاننا، نستشهد به، ونملأ الفقرات بآياته، ولكن عندما تبحث عما يؤيد ذلك من التصديق في الداخل، فلا تجد له عيناً ولا أثراً. فنحن نتلو الآية في الغيبة ولكننا نغتاب: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيْهِ مَيْتَاً فَكَرِهْتُمُوْهُ}([4]). نتلوها ثم نأبى إلا أن نأكل لحم أخينا وإن مات ولفّ في كفن. فلا تتفاجأوا بما يجري لنا في المستقبل، وتعدّوا أنفسكم للآتي الأسوأ، فمن كان يتخيل مثلاً أن تقام حفلة للفرح ليلة وفاة العلامة الحجة السيد محمد علي في الأحساء؟ ويديرها رجال دين؟! وأتحدث مع أحدهم فيقول: إلا لعنة الله على القوم الظالمين! فقلت: من تعني بالظالم؟ الميت أم من احتفى بموته؟ قال: بل الميت.
الإسرائيليات وحرف المسار الفكري:
أيها الأحبة: السؤال الذي لا زال يتردد دائماً بيننا، ويُطرح بيننا بين الفينة والأخرى، محركاً للأذهان، وموقداً لإشراقة الفكر، وباحثاً عن حلّ مقنع، هو: هل وصلت حياة النبي (ص) إلينا كما هي؟ دون زيادة مخلة، ولا نقيصة موجبة للإجحاف أيضاً؟ الجواب: كلا، وذلك لأسباب عديدة، أهمها ثلاثة، أقف على واحد منها حفاظاً على الوقت.
فالروايات التي وصلت إلينا هي عبر مسارين: الأول مسار الروايات الصحيحة أو الحسنة أو الموثقة، وإلى جانبها الضعيف المطروح. فنحن مع ثلاث طوائف ترشد إلى أمر ما. والعلماء يختلفون فيما بينهم في علاج حال الرجال، واستنطاق الدلالة من النص.
أما المسار الثاني فهو الإسرائيليات التي نفذت في مكوّن مدرسة الحديث منذ الأيام الأولى، وهذه هي الخطيرة جداً، إذ فرّقت الأمة وحاولت أن تغيّب شخص النبي (ص) الذي عرفته السماء للبشر، وهو النبي الأعظم محمد (ص). وهذه الإسرائيليات عبثت ببيان النصوص القرآنية، من النزول وأسبابه، إلى بيان المفاهيم ومتعلقاتها، خصوصاً في دائرة الغيب.
ففيما يتعلق بعوالم الموت، وما وراء الموت من عالم البرزخ، والإسراء والمعراج، وعوالم القبر وما يجري فيه، والقيامة وإرهاصاتها، كلها أشبعت عرضاً وبياناً بالإسرائيليات. حتى بات البعض لا يتنفس إلا هواءها، ولا يستحضر إلا نصّها، وكم أثرت في واقع الأمة! فهنالك كمّ هائل من النصوص التي لعبت دورها في رسم خارطة المشهد إيجاباً أو سلباً. فما هو موقف العلماء من هذا كله؟
الجواب: إنهم على أربعة أنحاء، أي أنهم انقسموا في المسار الروائي إلى أربع طوائف. وأدعو الشباب الطيب أن يقرأ كتاب إسرائيليات القرآن، للعالم الكبير الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله، الذي أحدث في وقته هزة عنيفة في مدارس التفسير لدى الفريقين.
ومن المشاكل الفكرية لدينا أننا نبحث عن الأعلم في الفقه والأصول فقط، أما أن يكون الأعلم في التفسير أو الفكر والأدب فهو مرفوض. فالشيخ مغنية فتح فتحاً عظيماً على الإسلام كله، ومن جاء بعده عيال عليه ينهل من موارده.
والطوائف الأربع التي ذكرناها هي كما يلي:
الطائفة الأولى: وهي التي تعاملت مع هذه النصوص على أساس تثبيت الأسانيد لتتخلص من غائلة التتبع. فالراوي يروي الرواية مسندة عن سلسلة من الرواة، عن الصحابي، عن رسول الله (ص) ثم يثبتها في الكتاب الذي صنّفه، ويقدمها مادةً أولية في البحث لمن جاء بعده، فلا يناقشها ولا يبدي رأيه فيها. ومثل هذا أغرق الأمة بسيل من تلك الروايات، التي تصلنا بعد قرون من ذهابه إلى ربه، فنرى أنها مروية عن عالم كبير يحظى بالاحترام والتقديس والتقدير، فتكون لها السلطة على أفكارنا وأذهاننا.
الطائفة الثانية: وهي التي أوردتها بلا أسانيد، وهذا الأمر فيه من الخطورة ما هو أكبر وأشد من سابقه، لأنه فتح الأبواب على كل غثّ فاختلط بالسمين، لفقدان السند وسقوطه. فعندما نواجه رواية مرسلة لا نستطيع المناقشة في سندها، لأننا لا نعلم حال راويها بسبب غيابه تماماً. وكم من الكذابين والوضاعين الذين وضعوا ودسوا وكذبوا.
الطائفة الثالثة: هم من أوردوها وذكروها ولم يقبلوا منها شيئاً، إنما ردّوها بقضها وقضيضها، وهؤلاء أيضاً أرادوا الراحة لأنفسهم إلى حدٍّ ما.
الطائفة الرابعة: أوردوها أيضاً كما في الطائفة السابقة، لكنهم تعقبوها بحثاً وتحقيقاً، وميزوا بين أسانيدها، وزاوجوا بين الدلالات فيها على أساس من منطلقاتها الأولى، وهو أمر مهم جداً.
ومن أمثال هؤلاء الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، منّ الله تعالى عليه بالعافية، وهو مفسر كبير ومحقق، حيث يرى أن لكل مسألة علمية تاريخاً، وعلى الفقيه أن يبحث عن جذرها التاريخي أولاً، قبل أن يخضعها للبحث الفقهي والأصولي. فالكثير من المسائل لا أصل ولا أساس لها.
هذا ما يتعلق بالمسار الأول في التعامل مع الإسرائيليات، وهو المسار الروائي. وبقي لدينا مساران، مسار التاريخ، ومسار الإشراق وما له من أثر. فهذه الإسرائيليات مثلاً تصف لنا عرش القدرة، ومن عساه أن يصل له ليصف ما فيه، وما فوقه، وما تحته، وهل هو عرش مادي، وما علاقته بالذات المقدسة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وهنالك العديد من الروايات الأخرى من هذا القبيل، كما في وصف الدنيا أنها على قرن ثور وأمثال ذلك.
والإسرائيليات ليس في مدرسة العامة فقط، بل هي منتشرة في مصادر الجميع حتى عند مدرسة الإمامية، فلا ينبغي أن نكون في دائرة الحرج من إعادة غربلة التاريخ، وبعثرة أوراق الحديث ثم نظمها ليبقى لنا الصفو منه. ففي الماضي قد تتقبل العقول الكثير من الإسفاف لقلة علمها وثقافتها، وضعف تلاقح الأفكار مع الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها، أما اليوم، فشبابنا وبناتنا ليسوا كذلك، إنما قطعوا مسافات بعيدة في الوعي والفكر.
ومن هنا أهمس في أذن كل عالم وخطيب وكاتب وأديب ومن يتصدى للمشهد من أهل الفن وما وراءه، أن يحترموا عقول الناس، وأن يقدموا رسول الله (ص) على أنه منبع الرحمة والشفاعة والرسالة الإنسانية، الذي لا يقبل بأقل القليل من الانحراف في التطبيقات.
وأذكر هنا قصة قصيرة وردت في بعض الأحاديث، وهي أن أحدهم دخل على النبي (ص) ومعه ولده وابنته، فأجلس ولده على فخذه اليمنى، وأجلس ابنته على الأرض، فالتفت إليه النبي (ص) فقال له: هلا وضعتها على فخذك الأخرى؟ فوضعها. فقال: الآن عدلت.
فهل نحن اليوم نعيش هذه العدالة بين أبنائنا؟
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.