نص خطبة :من يثير الطائفية في و سط الأمة مأثوم عند الله سواء كان شيعياً أم سنياً

نص خطبة :من يثير الطائفية في و سط الأمة مأثوم عند الله سواء كان شيعياً أم سنياً

عدد الزوار: 703

2011-11-12

عظم الله أجورنا وأجوركم، بذكرى شهادة الإمام الباقر من آل محمد (ع).

ولد الإمام الباقر (ع) في المدينة المنورة من أبوين جليلين عظيمين، حيث التقى فيه نور الإمام الحسن بنور الإمام الحسين (ع) ليكون جامعاً بين نوري الإمامة.

عاش الإمام الباقر (ع) فترة حرجة إلى أبعد حد يمكن أن يوصف، حيث الدور الأموي تشتد حلقات مشنقته، وتزداد قرباً من أتباع مدرسة أهل البيت (ع).

وفي هذا الدور الخطير الحرج، كان الإمام الباقر (ع) يقوم بأعباء المسؤوليات الملقاة على عاتقه جراء نهوضه بأمر الإمامة الحقة، وهي فترة لم يتنفس الإمام الباقر فيها الصعداء إلا في فترة زمنية ضيقة جداً، هي دون الثلاث سنوات، وهو عمر الخلافة التي تولاها عمر بن عبد العزيز الأموي، حيث لقي أتباع مدرسة أهل البيت (ع) لوناً من الانفتاح بعد العسر والحرج والتضييق والتنكيل. 

في هذه البرهة الزمنية الضيقة، استطاع الإمام الباقر (ع) أن يملأ الدنيا من حوله علماً وأدباً وفكراً وسلوكاً، مما يشكل بعد ذلك مرآةً صافيةً لما عليه المدرسة الحقة المنبعثة من محمد وآل محمد (ص).

لقد تحرك الإمام الباقر (ع) من أجل الإصلاح الفكري في وسط الإمة التي شذ بها المسار، وتفرقت بها الطرق، ولم يجد من حوله إلا النخبة الذين كان يشكل الواحد منهم حالة استقطاب من نوع خاص. ومن مسجد الرسول الأعظم (ص) اتخذ (ع) لنفسه منطلقاً على أساس منه يسافر بفكر تم التحجير عليه طويلاً.  

والمدرسة التي أرسى دعائمها، وشدد على تأسيس القواعد فيها، اشتملت على جوانب متعددة، لكل واحد منها إسهامه المباشر في إثراء المشهد فكرياً وعلمياً وأدبياً وما وراء ذلك:

الجانب الأول: هو التأكيد على أن هذه المدرسة في منطلقاتها إنما تنطلق على أساس من أصل أصيل، ألا وهو الاتصال المباشر بمدرسة الرسالة، المتمثلة بالموروث الذي وصل إلى الأمة عن الرسول الأعظم (ص) ولكن عن طريق هو الأقرب إلى مدرسة الرسول الأعظم (ص). حيث كان الإمام يروي عن الإمام عن أبيه عن جده عن رسول الله محمد (ص). وهذا النوع من الطرق في تحمل الرواية لا تجد له نظيراً ولا مثيلاً في جميع المذاهب الشقيقة.

يقول الإمام الباقر (ع) عن هذه الحالة: «لو أننا حدثنا برأينا ظللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه، فبينها لنا»([3]).

فهذا الطريق المعصوم هو الذي أمّن الرافد الأول لهذه المدرسة الباقرية، وهي المرآة الصافية لفكر أهل بيت النبوة. 

الجانب الثاني: (المرونة) في الطرح و (الوضوح) في الرؤية، فالمذاهب الدينية والمادية كثيراً ما تتلاعب بهذين المفهومين، إلا أن الإمام الباقر (ع) لأنه يعلم أن مفهومي المرونة والوضوح، وخصوصاً المفهوم الثاني، إذا ما تحركا في مساحات واسعة، وكانت السلطة لا تنسجم معه فكراً ومعتقداً، فإن الكثير من الضرائب لا بد أن تدفع، على أن يكون الدافع للضريبة والرقم الأول فيها، هو صاحب المشروع الفكري التغييري المتمثل وقتئذٍ بالباقر من آل محمد (ص).

والمرونة والوضوح يستلزمان الابتعاد عن حالة العسر والحرج، وتحميل المكلَّفين ما لا يطيقون، وهذا يترتب عليه أمر مهم، وهو إحداث حالة التوازن في جميع مفردات الشريعة، بعيداً عن دائرة الاصطدام والتناقض، وهذا لا يتأتّى أيضاً إلا لمن استحكمت قواعده، وتأصلت أصوله، وهذا بدوره لا يمكن أن يتأتى حصراً إلا عبر طريقٍ معصوم، ولا عصمة إلا لمحمد وآل محمد (ص).

يقول جماعة من أرباب الفكر المعاصر في علم القانون، وهو من أكثر العلوم دقة وحرفنة والتصاقاً بمشاكل الناس جماعات وأفراداً: إن فقه أهل البيت (ع) أثرى ما قُنِّن في عالم التشريع، عمقاً وأصالةً وإبداعاً. وأصحاب هذا الكلام، ليسوا من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) وإنما هو الفضل الذي يشهد به في كثير من الأحايين من لا يعتقد بذلك.

الجانب الثالث: فتح باب الاجتهاد العلمي بعدما أغلق جراء الضغوط الظالمة من مركز الخلافة، المتمثل بدمشق آنذاك.

وهذا الانفتاح الذي عرفته مدرسة أهل البيت (ع) أعطاها حالة من الإثراء والحيوية، بحيث يصعب على الباحث والمتتبع أن يعثر على أبسط المفردات من أمثالها عند الغير. وقد حوربت مدرسة أهل البيت (ع) وعلى امتداد زمن طويل، لا لشيء إلا لأن الاجتهاد يعمل عمله، ويأخذ دورته، ويلامس الأوتار التي ينبغي أن يلامسها.

وإذا أغلقت الذهنيات أو جُمّدت عند الغير في مراحل من الزمن، فها هم اليوم يطرقون هذا الباب، علّه ينفتح أمامهم. وحتى الذين أتيحت لهم هذه المساحة الضيقة من الاجتهاد، فإنهم يعيشون حالة من التناقض والتهافت البيّن، فالاجتهاد إنما يعطي ثمرته إذا كان فيه بُعد الإخلاص، وكان فيه وراء هذا، الرغبة الجادة في أن يكون ما وراء الاجتهاد هو الوصول إلى الهدف، وهو بيان الحكم التكليفي للإنسان في حياته عبادةً أو عملاً.

إن الاجتهاد في مدرسة أهل البيت (ع) كان يعطي للذهنية العلمية في أوساطها المساحة الكافية، بحيث استطاع هؤلاء أن يثروا الساحة، وأن يؤمِّنوا الروافد في أكثر من مضمار ومضمار، ولكن ـ مع شديد الأسف ـ في الوقت الذي يتسابق البعض من أتباع المذاهب الأخرى جرياً وراء تهيئة الأسباب للأخذ بالاجتهاد في أوسع مساحاته، نجد أتباع هذه المدرسة، الذين احتضنوا مفردة الاجتهاد منذ يومها الأول، يضيّقون من مساحتها، بل الأكثر من ذلك ربما تُنصب ـ إن لم تكن قد نُصبت ـ محاكم التفتيش الأوربي الكنسي في أوساطنا ونحن لا نشعر.

وربما لا ندرك الأخطار المترتبة على شيء من هذا النحو، ولكن إذا مرت بنا الأيام، ونحن نتحرك وفق هذه المنظومة، وما يراد لها أن تصل إليه، وقتها يندب الكثير منا حظه، لأن الحراك الفقهي سوف يتعطل، وحاجيات الناس أكثر من أن تعد وتحصر، فالدنيا تتسع من حولنا بأفرادها وفكرها واقتصادها وسياستها وعمقها الفلسفي.

إن المفردة في عالم الاجتهاد تعني الشيء الكثير.

يقول صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، وهو من أقطاب الفكر والعلم والأدب السني: ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل.

فإن كان الغير قد تنبه من رقدته، ونحن الذين يفترض أننا لم نرقد في يوم من الأيام عن حراك فكري، أليس من الإنصاف مع أنفسنا ومع الآخرين أن نحافظ على ما وصل إلينا؟ على أن نُعد الأجندة لنأخذ بما وصل إلينا إلى أبعد ما يمكن أن نصل إليه، كي يجهد الغير نفسه رغبة في الوصول إلينا، لا أن ننتبه بعد رقاد ـ لا قدر الله ـ وإذا (بالسلحفاة) تقدمت على ما يمكن أن يتقدمها؟.

الجانب الرابع: حاكمية العقل فيما لا نصَّ فيه، فالمدراس المعروفة، قسم منها نقلي صرف، وهذا ما دفع ضريبته جمع كبير من المسلمين، ومن الفريقين، فمدرسة السلف عند العامة، التي تمسكت بهذا المورد على حساب ما سواه، عاشت حالة من التخلف العلمي والفكري الواضح والبين، بحيث بدأ الحراك والتمرد يظهر في أوساط أتباع هذه المدرسة، وعلى الأخص النخبة منهم، فالذين تقلبوا في أحضان مدرسة السلف العامة، ثم أتيحت لهم الفرصة في الاحتكاك مع الآخرين، وأفلتوا من القيود الضاغطة، استطاعوا أن يوجدوا حالة من المزاوجة، التي نأمل أن لا تُحدث نكوصاً، إنما تُحدث تقدماً في التلاقح الفكري بين المذاهب كمنظومة.

كما أن أتباع مدرسة أهل البيت (ع) في مجموعة منهم، لم يكونوا أحسن حالاً، وهي الجماعة المعبَّر عنها بالإخبارية. وهؤلاء هم الذين ركنوا إلى النص بما هو نص، وألغوا ما للعقل من مساحة، يمكن أن يتحرك على أساس منها. لذا لم يكن الواقع الذي يتقلبون فيه أحسن حالاً مما عليه مدرسة السلف، اللهم إلا في الأصل والمعتقد، أما من حيث النتاج والإثراء، فإن النتاج ضحل وضعيف جداً، لا لأن القواعد والأسس ليست موجودة، ولا لأن المواد الأولية لم تكن مهيئة، بل على العكس من ذلك تماماً، لكن شللية العقل في التفكير تحمِّل المشهد العلمي والأدبي والفكري أموراً كثيرة.

أما أتباع مدرسة أهل البيت (ع) من حملة لواء مدرسة أصول الفقه، فقد أطلقوا للعقل عنانه، وتحرك العقل في الفلسفة، وغاص في أعماقه، واستخرج الدر والجواهر منها، وزاحم ثم تخطى ثم ابتعد، بحيث لا يستطيع أن يلحق به من تحدثه نفسه باللحوق. 

ثم انطلق العقل في مساحة الكلام والعقيدة والفقه وما إلى ذلك، وكانت له بصمات. وأما في أصول الفقه ـ وهو صمام الأمان والعمود الفقري لمدرسة التفريع الفقهي ـ فحدث ولا حرج.

ولما تأمنت هذه الأمور الأربعة للإمام الباقر (ع) كأسس وقواعد في أوساط من سار على نهجه وتبنى فكره والتزم المعتقد معه، اندفع مع التكليف الشرعي الذي يعني الناس في جميع مجالات حياتهم، رغم أن ما تعرض له لم يكن من السهل والبسيط.

يقول عبد الله بن عطاء المكي: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي([4]).لقد رأيت الحكم بن عيينة عنده كأنه متعلم([5]).

لقد فرّع الإمام الباقر (ع) في مدرسة أهل البيت (ع) الكثير، وقد أكرمه الله تعالى بنخبة من الأفراد المهيَّئين روحياً وذهنياً، وعلى درجة عالية من الاستعداد للتضحية.

والتكليف الشرعي الذي يعنينا، هو كل أمر أو نهي يتوجه إلى المكلفين كأفراد أو جماعات، من قبل الله تعالى، أو من قبل أولياء الدين، وأولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم.

وهذه الحالة من تحديد مسار التكليف الشرعي، تلزمنا أن نلتفت إلى أن مجموعة من الأمور لا تحظى بهذه الصفة، ولا تندرج تحت هذا المصطلح. فالبعض منا ـ مع شديد
الأسف ـ يرى في قول الرجال، أو ما دون الرجال، تجسيداً للتشريع، لكن التشريع لا يتجسد في الأشخاص، وإنما في الفكر والرأي بما هو رأي، لذلك علينا أن نعرض الأفكار المطروحة، والأفكار المدرجة، على الأسس والقواعد، فإن حصلت حالة من التوافق فبها، وإلا رددناها إلى مصدرها.

وفي مساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينطلق الكثير من الناس تحقيقاً أو تلبيساً، على أساس من الرغبة في التخلص من عهدة التكليف الشرعي الذي ربما لم تختمر طينته بعد، ولم يتبلور شكله. ويترتب على ذلك (لابُدّية) التأدية للتكليف الشرعي مع قطع النظر عن الإيجابية والسلبية المترتبة على نتيجة ذلك، وهذا يحقق لنا معنى التسليم عند الامتثال للتكليف.

فمما لا شك فيه أن مجموعة من التكاليف الشرعية تجعلنا ندفع ضرائب، وقد يرى المكلف أنها مستوجبة لدفع مثل تلك الضريبة، لكن الناس أمامها في مفترق طرق، فإما أن يقوم المكلف بأعباء المسؤولية والامتثال للتكليف المتوجه من قبل الله تعالى إليه، وهذا هو الفرض الأول، أو أن يلتمس الطرق والتبريرات للتخلص من عهدة التكليف جراء محسنات ومرغبات، أو خشية دفع الضريبة أحياناً، ومع شديد الأسف، ربما يدير الإنسان ظهره أحياناً لمصلحة هي به ألصق، فلا يجد في نفسه الاستعداد أن يأمر أو ينهى، ناهيك أن يدفع ضريبة ذلك.

إن معرفة التكليف وامتثاله، واحدة من أهم المسائل العملية التي تعترض طريقنا كمكلفين، وما من إنسان في هذه الحياة إلا وهو عرضة لطائلة التكليف، والتخلف عن القيام بالتكليف الشرعي يتسبب في توجيه ضربة قاتلة للنفس أولاً، وللمجتمع ثانياً، وهل قُتل الإمام علي (ع) واعتدي على الزهراء (ع) وسم الحسن وقتل الحسين (ع) إلا جراء تخلي الأمة عن القيام بعهدة التكليف المتوجه إليها؟

لقد كانت هناك مزاحمة في فرضية لا تتعدى حدود الفرضية، بين الأهم والمهم، وهذه تزدحم في ذهنية من لا يملك رؤية واضحة في الترجيح بينهما، لذلك صبغ المشهد بالدم، وطلي به في الكثير من مراحله.

إن جميع الوظائف التي شرعها الدين الحنيف للفرد وللنفس، لا إشكال في أن الجانب الأخروي تمت رعايته فيها، وفي أعلى مراتب الحيطة والحذر.

أيها الأحبة: في هذه الأيام التي نعيشها وهي أيام الحج، حصل في اليومين الماضيين ما حصل من إرجاع بعض الحجيج ـ بعد أن تلبسوا بالإحرام ـ إلى بلدانهم، وفي ظني أن هذا الأمر طبيعي وعاديّ جداً، ولا أجد مساحة أن يحمّلني البعض من الناس أن ألمع صورةً لجهة معينة أبداً، فليس هذا ديدني ولا مركبي، لكنه الواقع, فعلينا أن لا نكون انفعاليين في ردود الأفعال، ولا عاطفيين في اتخاذ القرارات. فالبعض يحاول أن يصبغ المشهد أنه طائفي، وقد دبر بليل، وأن هناك جماعة تتحرك وراء ذلك، فهذا غير صحيح، فلو كانت الحملات التي تم إرجاعها من أبناء هذا المذهب حصراً، أو من أبناء بلد معين، لقلنا ذلك، لكن ما عسى أن يكون عدد الذين تم إرجاعهم من أبناء هذه الطائفة؟ إنهم في أكثر التقادير ألف شخص، وبالمقابل هناك مئات الألوف التي تم إرجاعها، وهم من أتباع المذاهب الأخرى.

فالمسألة أيها الأحبة، هي عدم الالتفات ومراعاة الأنظمة الموجودة من أجل إخراج الحج بصورة أفضل.

إن الحج لم يفترضه الله على العباد في كل سنة، لكن بعضنا افترضه على نفسه دون أن يلتفت إلى ما هو الأهم من كون الإنسان حاضراً في الحج.

إن التصريح أمر رسمي، والمرجعية تعطينا الفتوى في لزوم احترام القوانين الصادرة من الحكومات الزمانية، فيفترض أن يكون الإنسان ملتفتاً إلى هذه الحيثية، وقبل أن يوجه اللوم إلى الغير عليه أن يوجهه إلى نفسه أولاً.

والأمر الآخر هو عدم الانضباط المالي مع شديد الأسف، فالبعض يهمه أن يكون متواجداً في مكة وعرفات كل سنة، لكنه لا يسأل نفسه: لماذا منع صاحب الإيجار من حقه المستحق؟ فهو يدفع لصاحب حملة الحج ما يستحق، أما صاحب الإيجار فقد يضطر أحياناً إلى الشرطة والمقاضاة في سبيل استنقاذ حقه.

وهناك نمرقة أخرى من الناس لا يلتفتون إلى حوائج عوائلهم في داخل البيوت، فلا همّ لهم سوى الذهاب للحج، أما العيال والمرأة وما يحتاجه البيت والأولاد فلا يؤمّنونه.

إن هذه الأمور تندرج في موضوعنا المذكور، وهو تشخيص التكليف والقيام بأعبائه، وليست خارجة عنه.

والأسوأ من ذلك كله أن يأتي الحاج الذي يحج في كل سنة، إلى صاحب (الحملة) فيدفع له مبلغاً جزئياً من المبلغ المطلوب، على أن يدفع الباقي بعد العودة من الحج، إلا أنه يكتفي بما يدفع أولاً، ويسكت عن الباقي، حتى إذا جاء العام القادم، ذهب إلى حملة أخرى، ودفع المقدم واكتفى بدفعه، وهكذا، حتى يصل به الحال أن يكون مشخَّصاً من الجميع أنه لا يدفع، وعندئذٍ يتحول إلى أسلوب آخر، بأن يأتي إلى بعض المؤمنين ليستغفلهم، ويعدهم أنه يعيد لهم أموالهم في نهاية الشهر، بمجرد أن يتقاضى حقوقه الشهرية، وهكذا يأخذ أموالهم، فلا يجدون له بعد ذلك أثراً ولا عيناً، حيث أخذها وسافر للحج، وقد يعود بعضهم فلا يردّ السلام على من اقترض منه.

وهذه ليست دعوى مجردة، إنما هي حالات موجودة فيما بيننا، وقد حصلت مع الكثير من أصحاب الحملات، الذين لا زالت لهم مئات الألوف من الريالات في ذمم (الحجاج) الذين ذهبوا معهم. والغريب أن هذه المسائل لها أحكامها الخاصة في الرسائل العملية، فهناك أحكام تتعلق بمن حج بمال مغصوب، أو اغتسل بماء مسروق وهكذا.

ثم إن هناك العوائل والأبناء الذين يحبون أن يروك بينهم في أيام العيد، ووالله إن زرع البسمة، المسروقة من شفاه النساء في البيوت، اللاتي يتعامل معهن البعض بأقل من العبيد والرقيق، أفضل من ألف طواف وطواف عند الله تعالى. والتواجد في وسط أبنائنا لحفظ مسيرتهم وإنارة دربهم، أفضل من المبيت في عرفة ألف مرة ومرة، والعبادة إنما شرعها الشارع المقدس من أجل تقويم حياة الناس، وتصحيح مسيرتهم، والأخذ بهم إلى حياة سعيدة فضلى، لا إلى عبادات مبنية على جرف هار.

فلا يسوغ ولا يصح أن يفتعل المسلم ألف حيلة وحيلة، ليترك العمل فيذهب إلى الحج، فإنه غير مجبر على ذلك، ولا إلى كربلاء، التي ورد فيها الأجر العظيم، وأن زيارة الحسين (ع) تعدل سبعين حجة، كما في بعض الروايات.

فإن كان الله تعالى فتح على البعض، وضيق على البعض الآخر، فليس من الصحيح أن ينظر المبتلى بالضيق والحرج إلى من وسع الله عليه ليكون مثله، فكلٌّ منهم مبتلى بحاله، فالغني مبتلى بما لديه، والفقير كذلك، ومن صبر ظفر.

فبدل أن يكون المعسر في الحج بهذه الطريقة الأقرب إلى السرقة وقطع الطرق، الأفضل له أن يكون في بيته وبين أبنائه في العيد. ولا يستوجب الحج أن يكون المسلم بهذا الموقف من المذلة.

فلو كانت الأمور طيبة وسليمة، وتسير وفق النظام، فلا سبيل لأحد عليك أبداً.

ثم إن هناك الكثير من الناس، ومن ذوي القرابات والأرحام ممن لم يحجوا، فهل نحن مستعدون لإعانتهم على الحج بدل أن نذهب كل عام؟

كنت في أحد المجالس يوماً، أستمع إلى بعض الحاضرين من أصحاب العلم والفضيلة، يسأل رفيقاً له: كم مرةً حججت؟ قال: ثمانٍ وثلاثين مرة، ولم يبق لي سوى حجتين، لتبلغ الأربعين، ثم أفكر بعد ذلك بالاستراحة!.

انظروا إلى حال الأمة، وكيف يفكر البعض، أليس من الأفضل أن يستعيض هذا الحاج عن هذه المرات الثمان والثلاثين، بثمان وثلاثين شقة للفقراء؟ أو أن يكون سبباً في تزويج عدد مماثل من الشباب؟

جاءني يوماً أحد المؤمنين، فقال: أريد أن أتزوج، فقلت له: أليست لك زوجه وأطفال والحمد لله؟ فقال: إني نظرت في حياة الأئمة (ع) فلم أجد منهم إلا من تزوج أكثر من اثنتين، فقلت: ما شاء الله، هل انحصرت حياة الأئمة ومجدهم وإشراقهم وكمالهم في عدد النساء؟! ألم يكونوا قائمي الليل، حتى يكون الإمام يزحف إلى فراشه زحفاً؟ فهل هناك من اقتدى بهم في قيام الليل مثلاً؟

لقد أعتق الإمام زين العابدين (ع) خمسين نفساً، وقيل خمسمئة، وكان يعول خمسمئة أسرة، في حين أن الأخ المذكور، الذي يريد الاقتداء بالأئمة (ع) في عدد الزوجات، لم يكلف نفسه في دفع اشتراك الجمعية، وهو لا يتجاوز مئة وعشرين ريالاً فقط.

نسأل من الله تعالى أن يجعلنا من المتزنين، فلا نذهب بعيداً، إذ لا مجال في المشهد أن يؤزَّم طائفياً في أي مكان وزمان، وكل من يفعّل الطائفية فهو آثمٌ بين يدي الله تعالى، من الشيعة أو من السنة، وكل من يحاول أن يشعل فتيلاً فهو آثم، ونحن ندرك الضرائب التي تترتب على أمر من هذا القبيل، ولنا في التاريخ عبرة، لا سيما التاريخ القريب.

نسأله تعالى أن ينبهنا ويأخذ بأيدينا، والدعاء الذي أكرره دائماً هو أن يجعلنا نتحرك من خلال مساحة الفعل، لا ردة الفعل، أي أن نسير على أساس من العقل والوعي، وليس العاطفة، لنصل إلى النتيجة.

أذكّر أخيراً بصدقة الشهر، فالعيد على الأبواب. ويوم الأحد هو يوم عرفة، وشبهة العيد موجودة أيضاً، فلمن يريد الاحتياط أن لا يصوم ذلك اليوم.

نسأله تعالى أن يجعل العيد مباركاً علينا وعليكم، وأن يتقبل أعمالنا وأعمال الحجيج والزوار، والحمد لله رب العالمين.