نص خطبة: من فضل الله على العباد ولاية محمد وآل محمد

نص خطبة: من فضل الله على العباد ولاية محمد وآل محمد

عدد الزوار: 397

2014-08-21

الفضل في مدارس التفسير:

قال تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُوْ الفَضْلِ العَظِيْمِ([2]).

شهرٌ فضيلٌ قربنا من نصفه المشرَّف بأنوار الحسن من آل محمد (ص) وفيه من الفضل الشيء الكثير.

وقد ذهب المفسرون في معنى (الفضل) في الآية الشريفة إلى أكثر من اختيار واختيار، منها ما يساعد عليه السياق، ومنها ما تساعد عليه بعض القرائن المتصلة، وقسم آخر يدخل في دائرة قرائن الانفصال. وقول المفسرين ليس فيه إلزام لأحد ممن يقرأ أو يبحث، ولكن مما لا شك فيه أنه يساعد على توسيع دائرة المفسر اللاحق، بناء على ما يقدَّم له من آراء متناثرة، وأحياناً متواصلة، هي زاد العارف إذا ما أراد.

وحيث إن المفسرين يتباينون فيما بينهم بحسب ما ينتمون إليه من مدرسة مذهبية، فلا بد أن ينعكس ذلك على نتاجهم التفسيري.

وبقدر ما يقرب الإنسان من مدرسة أهل البيت (ع) يجد المعين العاصم له في استنتاجاته، وبقدر ما ينأى بنفسه، فإنه يشذ ويبتعد عن دائرة المراد من النص تنزيلاً وتأويلاً فيما سار فيه آل محمد (ص).

وسوف نلمس هذا بكل جلاء ووضوح من خلال ما فسر به المفسرون هذه المفردة (الفضل). فقد قالوا: إن الفضل في الآية هو (الإسلام)، ولهذا الحمل من التفسير نظائر كثيرة.

والكثير من المفسرين عندما يريدون التهرب من بعض الأمور القريبة أو المنطبقة تمام الانطباق على أهل بيت العصمة (ع)، فإنهم يحملون الأمور على الإسلام في عنوانه العام، ودونك تفاسيرهم الزاخرة بهذا اللون من المنحى التفسيري.

وهنالك قول آخر هو أن الفضل يعني النعمة المسبغة على الإنسان بما هو إنسان، فوجود الإنسان في هذا الكون بحد ذاته يعدُّ فضلاً وتفضلاً ونعمة من الله تعالى.

وهذا المعنى وإن لم يكن يأباه السياق، ولكن عليه الكثير من الملاحظات.

وهنالك وجه ثالث حُمل عليه المعنى، هو أن الفضل في الآية الشريفة يعني فضل الرسالة التي حملها النبي محمد (ص) بما هي رسالة، فليس هو الإسلام بعمومه، إنما هو تفضيل النبي (ص) بالرسالة.

ولهذا المعنى أيضاً الكثير من القرائن والنظائر التي تساعد على الأخذ به مع وجود بعض الملاحظات عليه.

أما القول الرابع فهو أن الفضل الذي آتاه الله سبحانه وتعالى للعباد، يعني نمرقة وطبقة خاصة مصطفاة ومهيّئة لاستقطاب الفيض، ألا وهي الإمامة الحقة لآل محمد (ع) ولهذا الرأي يميل الكثير من أعلام التفسير في مدرسة أهل البيت (ع) ويساعد عليه الكثير من النصوص من الفريقين.

وفي المسألة المذكورة قول خامس، هو أن الفضل الذي أسبغه الله تعالى على العباد، والمقصود في هذه الآية هو السبق إلى الإسلام. وقيدوه أيضاً بالصحبة، فقالوا: من سبق إلى الإسلام صحابياً. ولا شك أنكم تشعرون، بلا مزيد مؤنة، أن في هذا المعنى صرفاً عما يراد به، لا سيما إذا ما حملناه على أن المراد هو الإمامة الحقة.

إلا أن ما هرب منه هؤلاء وقعوا فيه، فمن أسبق للإسلام غير بيت النبوة؟ ومن أسلم قبل علي (ع) وقبل خديجة؟ فهم أهل بيت واحد، وهم السابقون، وهذه فضيلة وفضل من الله سبحانه وتعالى، بناء على أن المراد هو السبق إلى الإسلام. فخديجة (ع) من النساء، وعلي من الرجال، فالفضيلة مهما حاول أن يذهب بها الذاهبون إلى مسارات متعددة، فإنها تُصرّ أن تبقى في أحضان محمد وآل محمد (ع).

وللفضل من الله على الناس، بالمعنى العام، حالات خاصة، فهو يأتي أحياناً على نحو السؤال، أي طلب الشيء، يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَاسْأَلُوْا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ([3]).

فالقرآن الكريم يعلِّمنا أن نسأل الله تعالى ولا نسأل غيره، وفي الدعاء: اللهم لا تجعل لي عند لئيم حاجة.

فالطلب من الله تعالى يُغني الإنسان عن الطلب من غيره، كائناً من كان، وإن كانت مظاهر المسألة سهلة ويمكن أن ينهض بها الآخر، لكن القرآن الكريم يعلِّمنا في سؤال ساحة القدس الأعلى، أن نرتبط بالله سبحانه وتعالى ارتباطاً وثيقاً حتى في أدق التفاصيل في حياتنا.

وقد يأتي الفضل على نحو التفضيل والإفضال من قبل الله سبحانه وتعالى على عباده. وهو ما نلمحه في قصة سليمان (ع) وبلقيس ملكة اليمن، إذ حصل التفضيل لنبي الله سليمان، عليه وعلى نبينا آلاف التحايا والسلام، فكان ممن سُخِّرت له الإمكانيات في دائرة الولاية التكوينية سعةً، بما لم يتأتَّ لغيره من الأنبياء، باستثناء النبي الأعظم محمد (ص).

لقد كانت بيده الولاية التكوينية العظمى كما يقول السيد الإمام (قدس سره) حيث سخرت له على وجه الأرض معظم الأجندة التكوينية المسقطة لحد المعجز، ومنها قضية عرش بلقيس، وهو عرش فيه الكثير من العظمة والأبهة. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرَّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّيْ([4]). فالمسافة من اليمن إلى فلسطين ليست بالمسافة القصيرة، والعرش من الصخر الصلب، إلا أنه نقل في طرفة عين، واستقر بين يدي نبي الله سليمان (ع) وهذا تشريف عظيم له. فقد حمل (آصف بن برخيا) عرش بلقيس العظيم، إلا أن ما عند سليمان كان أعظم من الحامل والمحمول، وأعلى مرتبة.

ثم إن سليمان (ع) في دائرة ولايته هو أقل درجة مما عليه محمد وآل محمد (ع) ففيما يرجع إلى النبي محمد (ص) في جانب المعجز، إنما هي مفردات صغيرة لا تعكس تمام المعجز الذي بيده بالفعل، وهو الإفاضة من الله سبحانه وتعالى للنبي (ص) أن يُعمل تلك الولاية التكوينية، فقد أعمل ولاية التشريع على إطلاقها، أما ولاية التكوين فلم يعملها إلا فيما ندر، وما استوجبه الظرف.

أما الأئمة (ع) بعد النبي (ص) فقد ضاقت الدائرة عليهم، ولم يستخدموا المعجز بالشكل الذي يكشف حقيقته، ولكن عندما يأذن الله سبحانه وتعالى للخلف الحجة (ع) بالظهور فإنه يُعمل الولاية التكوينية إعمالاً مطلقاً. وهنالك تتفتح أبواب السماء بالنعمة والرحمة، وتتفجر ينابيع الأرض بالخير والبركات، ويأمن الإنسان على نفسه في جميع ما تتطلبه حالة الأمن. وهذا الأمر لا ينتهى إليه على أساس من الوسائل الطبيعية، إنما على أساس من عوالم الغيب والولاية التي تكون في يده (عج).

من مصاديق التفضل الإلهي:

ومن مصاديق التفضل على الإنسان من قبل الله سبحانه وتعالى، التفضل عليه في بناء أسرته، وهو أمر يحتاج إلى شيء من اللطف والكرامة، يقول تعالى: ﴿إِنْ يَكُوْنُوْا فُقَرَاءَ يُغْنِهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ([5]).

إن البعض يريد أن يتعامل مع الأمور على أساس من الحساب المادي، فالغني في وضعه من قبل الله تعالى، والفقير في وضعه امتحان من الله أيضاً، أي أن هنالك إفضالاً وتفضيلاً، ونعمة وامتحاناً في جانب الغنى، كما أن الفقير في بلاء وامتحان في صبره، وقيمة الصبر أعلى كثيراً من قيمة المال، لذا فإن المعَدَّ إليها من الثواب أكبر وأكبر.

لقد كان الفقير وما زال، طيلة المراحل الإنسانية يشغل الطبقة الدنيا في سلّم الترتيب الإنساني، وهذا ليس من الله سبحانه وتعالى، إنما هو تسخير من الناس للناس، لتبقى حالة الفقر بينهم.

فعند الخلقة الأولى كانت جميع المقدرات بيد آدم وحواء، وهما يمثلان عنصر الرجل وعنصر المرأة، فكانت الإفاضات عليهم مفتوحة، ثم بدأ الإنسان يعيش دائرة الظلم لنفسه، وارتكب أقبح الفعائل في القتل وغيره، وها نحن نرى نهراً من الدم منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، ولا ندري أين سينتهي بنا المطاف. وقد نزا على مقدرات الأمة من نزا في الكثير من مراحلها، حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه، واستقر الحال في طبقة من الناس.

وليس هذا الأمر في مدرسة الإسلام وليس الإسلام منه في شيء، فقد جاء الإسلام من أجل إيجاد حالة اللافقر في وسط الأمة، ولكنه سوء تقدير الأمة، وتنكبها طريق المبادئ والأسس التي ثبتها القرآن الكريم وبينتها السنة المطهرة، هو الذي أوردها تلك الموارد.

يقول الإمام علي (ع): «فَمَا جَاعَ فَقِيْرٌ إِلا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ»([6]).

إن البعض تلحقه لعنة الفقر في جميع مراحل حياته، وأحياناً هو نفسه يتسبب في البقاء في تلك الدائرة، فلا يريد أن ينبعث ويسعى ويضرب في الأرض، وأن يسأل الله من فضله استجابة لنداء السماء، إنما يريد أن يبقى في دائرة التكفف وسؤال الناس، وفي ذلك إذلال ما بعده إذلال، ولو أنه التفت إلى ذلك لما سعى إليه مطيعاً مريداً.

إن الإنسان اليوم يتقدم للزواج، فتدخل في الأمر حسابات عديدة، كالغنى والفقر وغيرها، فهناك من يرى مثلاً عدم صلاحية الخاطب للدخول في العائلة لأنه فقير، مع أنه مسلم مؤمن متَّقٍ، والشرف بالإسلام هو الشرف الأول، ولكن حتى لو تنزَّلنا لحسابات الطبقية وقلنا: إن في المجتمع أُسراً وطبقات وعوائل معينة، إلا أننا مع ذلك نجد العديد من العقبات.

إنك قد تجد فقيراً أكبر شرفاً من عائلة الغني الذي تقدم إليه، فالشرف لا يتحدد بحفنة من المال، فقد يُسلب المال من الغني ليصبح من أفقر الناس، والأيام دول، والدنيا تتغير، فكما أنها مرت وطوت من قبلنا، فإنها تمر وتطوينا لا محالة، وكما أنها أغنت وأفقرت، فإنها تُفقر وتغني.

لقد كان في البرامكة عبرة ومثل لا يجاريه مثل، فقد تحكموا بمقدرات الدولة الإسلامية آنذاك على ما كانت عليه من سعة وغنىً، لكن ما الذي حصل لهم في نهاية المطاف؟ لقد سملوا عيونهم، وقتلوهم، وفعلوا بهم ما فعلوا بهم، حتى آل الأمر ببعضهم أن يدور في طرق بغداد يسأل الناس الدانق الواحد.

يقول تعالى: ﴿إِنْ يَكُوْنُوْا فُقَرَاءَ يُغْنِهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ([7]) فنحن نرى في الكثير من الأحيان، أن الرجل بمجرد أن يتزوج المرأة تتفتح الدنيا أمامه بالخير والبركة، فتنقلب الأمور رأساً على عقب. فلا دوام لحال على ما هو عليه.

التنكر للفضل الإلهي:

إن هناك من يتنكر للفضل الإلهي على الإنسان، فهو يعلم مثلاً أن الله تعالى أنعم عليه بالعلم، إلا أنه يتنكر له، ويعلم أن الله تعالى أنعم عليه بالمال، لكنه يقول: ﴿إِنَّمَا أُوْتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِيْ([8]). ولا يدري أن هذا كله من الله تعالى، وليس معلوماً أنه تكريم وتفضيل له، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوْا إِثْمَاً([9]).

فمن طبيعة الكثير من الناس أنه يتنكر لفضل الله ونعمته، قال تعالى: ﴿وَيَكْتُمُوْنَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ([10]).

وربما يكون النكران بأسلوب آخر، وهو ينظر إلى الآخر فيرى أن نعمته أكبر، من مال وبنين وجاه وغيره، وهذا بحد ذاته نكران لما لله عليه من نعمة وفضل، وكل مقاييسنا هو الدنيا ليس إلا. أما الآخرة فلا نعير لها إلا القليل من الاهتمام.

آفة الحسد:

وعلى فرض أن فضل الله سبحانه وتعالى قوبل بالشكر، فإنه يأتي دور آفة العصر، وهي الحسد، وهي آفة ما بعدها آفة. فالبعض ينظر إلى الآخر بعين الحسد، ولا يلتفت إلى نفسه أن الله تعالى ربما أنعم عليه بما هو أكبر، وأعظم هذه النعم هي الولاية لمحمد وآل محمد (ع) التي لا تقدر بثمن أبداً.

دخل أحدهم على آخر فقال له: ماذا تشكو؟ قال: أشكو الفقر. قال: عجبت من شكواك! قال: كيف؟ وأنت أدرى بحالي؟ قال: إن من يحمل الولاء لمحمد وآل محمد (ع) في قلبه فهو أغنى الناس، أترى لو أردت شراءها منك بألف درهم أتبيعها؟ قال: لا، قال: بعشرة آلاف؟ قال: لا، وهكذا حتى بلغ مبلغاً كبيراً وهو يرفض، فقال له: إذن أنت أغنى الأغنياء.

فالولاية فضل كبير ونعمة من الله سبحانه وتعالى على العباد. قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُوْنَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكَاً عَظِيْمَاً([11]).

وهذه الآية قرينة على أن المراد بالفضل في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلُوْا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ([12]) هو ما كان يعني الولاية في عنوانها العام لمحمد وآل محمد (ص). فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على ولايتهم، وعناصر التثبيت كثيرة وسهلة ومتاحة للجميع ولا تحتاج إلى تكلفة مالية.

وفقنا الله وإياكم لكل خير والحمد لله رب العالمين.