نص خطبة: معطيات شهر رمضان

نص خطبة: معطيات شهر رمضان

عدد الزوار: 603

2020-01-25

الجمعة 1440/9/4هـ - 2019/5/8م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

«إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلم الناس الخير»([2]).

حديثنا حول معطيات هذا الشهر الفضيل، الذي ينبغي أن لا يتخطانا بأيامه ونحن لا نتحرك معه، بل علينا أن نندكّ في لياليه وأيامه كما أراد الله تعالى من هذا التشريع.

فقوله تعالى: ﴿هُدَىً لِلنَّاس﴾([3])، وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾([4])، كلها من الأمور المطروحة في هذا الشهر الفضيل.

فمن معطيات هذا الشهر:

العلاقة الروحية مع الله تعالى من خلال هذا الشهر الفضيل:

فمن الطبيعي أن الاستغراق في عوالم المادة يؤثر في الارتباط الروحي بين العبد وربه، لأن العوالق المادية تثقل كاهل الإنسان، وتحدث حالة من الصرف عما هو الهدف الأساس الذي أُوجد الإنسان من أجله.  

والقرآن الكريم يقدم لنا مجموعة من الروافد المساعدة للإنسان على أن يبني نفسه بناءً تكاملياً في مسار الروح، ليكون مرتبطاً بالملأ الأعلى.

ومن تلك الروافد:

1 ـ المعارف القرآنية: صحيح أننا نقرأ القرآن الكريم في خلال أيام هذا الشهر أكثر من غيره، ولكن مجرد القراءة فقط لا يؤمّن لنا سوى الثواب والأجر والارتباط النسبي، أما الارتباط الذي أصّل له القرآن الكريم، وهو الوحي المنزل على قلب خير البشر محمد (ص) فهذا لا يتأتى من خلال القراءة السردية، والانتظام في حلقات مجالس الختمات التي باتت بحمد الله معمورة، لا سيما بشبابنا القرآني. وهذه الحالة تؤمّن أرضية لكي يتحرك الإنسان فيما هو الأبعد، ويغوص فيما هو الأعمق.

فالمعارف القرآنية أمر مهم، ونحن في ربيع القرآن، وليس منا من لا يقرأ القرآن في هذا الشهر، سواء على مستوى القراءة بالمصحف، أم القراءة عن الحفظ من قبل الحفاظ الذين باتوا اليوم في مجتمعاتنا غير قليلين، من البنين أو البنات، ممن حفظوا أجزاء من القرآن. ولكن المهم هو التأمل والتفكر والتدبر في القرآن، باستخدام المخزون الثقافي الذي اكتسبناه من المجالس الحسينية التي تؤمّن لنا زاداً سامياً صافياً، وتجسّر للأجيال العلاقة بالمبدأ الأول وهو الله سبحانه وتعالى، أو من خلال ما نحصل عليه من خلال قراءاتنا ومتابعاتنا لما يقدَّم من علم وفكر وثقافة لم تكن فيما مضى من الزمن. فأصول العلم ومشاربه اليوم أصبحت من الكثرة بمكان.

فينبغي أن نقرأ القرآن، فإن قراءته فيها أجر عظيم، وهذا لا شك فيه، والأجر في هذا الشهر يتضاعف، ولكن المهم أيضاً، وفي غاية الأهمية هو التأمل والتدبر والتفكر، سواء كان التأمل في عالم الجنان والآخرة والثواب والعقاب، أم في عالم العلاقات وما يترتب عليها ورسم الخطط الموصلة للمصالح العامة والمشتركة بين بني البشر.

2 ـ مدرسة العبادة: فالكثير من الناس يجهد نفسه بالعبادة في هذا الشهر وهو أمر مهم، ولكن الاعتدال في كل شيء حسن، والوسطية في كل شيء مطلوبة، فلا تكره نفسك على أمر لا ترغب فيه. فإن كانت لديك فرصة وفسحة تستطيع من خلالها تحقيق العبادة في أكثر من محور من محاورها ومصداق من مصاديقها فبها ونعمت، وإلا فإن كسلت النفس فعليك أن لا ترغمها، فالعبادة نور يرتبط به الإنسان من عوالم الأرض إلى عوالم السماء وآفاقها اللامتناهية. فإذا أقبلت النفس فاحملها على النوافل، وإن أدبرت فاقصرها على الفرائض.  

فليس من الصحيح إرهاق النفس بما هو مستحب، ليكون ضحيته أمر واجب، سواء كان ذلك الواجب عبادة، كالصلاة في وقتها، أم أمر سلوكي اجتماعي، كما هو الحال في مسؤولية الأسرة والعمل وغير ذلك.

فقد كان الإمام الصادق (ع) ذات مرة يطوف ومعه أبان بن تغلب. يقول أبان: «كنت مع أبي عبد الله (ع) في الطواف، فجاء رجلٌ من إخواني، فسألني أن أمشي معه في حاجته. ففطن بي أبو عبد الله (ع) فقال: يا أبان، من هذا الرجل؟ قلت: رجل من مواليك سألني أن أذهب معه في حاجته. قال: يا أبان، اقطع طوافك وانطلق معه في حاجته، فاقضها له.

فقلت: إني لم أتمّ طوافي. قال: أَحصِ ما طفت وانطلق معه في حاجته. فقلت: وإن كان طواف فريضة؟ فقال: نعم، وإن كان طواف فريضة. إلى أن قال: لَقضاءُ حاجة مؤمن خير من طواف‏ وطواف،‏ حتى عدّ عشر أسابيع. فقلت له: جعلت فداك فريضة أم نافلة؟ فقال: يا أبان، إنما يسأل الله العباد عن الفرائض لا عن النوافل»([5]).‏

3 ـ التأمل في مخلوقات الله تعالى: فكم تحيط بنا من مخلوقات الله في جميع الجوانب والزوايا! عن أيماننا وشمائلنا، ومن فوقنا وتحتنا، وأمامنا وخلفنا، ولكن، ما الذي نقرأه في تلك المخلوقات؟

إننا عندما نقرأ قصيدة لشاعر نجد مجموعة من الصور المتزاحمة التي انتزعها من الطبيعة تارةً، ومن مخلوقات الله تارة أخرى، ومن الربط بين مكوّن وآخر تارة ثالثة. فهذه المخلوقات هي آيات الله تعالى، والشاعر إنما يحلق في عوالمها العجيبة الغربية.

فالتأمل في ملكوت الله تعالى أمر مهم. ولدينا اليوم برامج كثيرة تطلع الإنسان على الكثير من الخفايا التي لم تكن في متناول يده قبل عقود يسيرة، إذ لم يكن بمقدور الإنسان قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن أن يتأمل في دقيق صنع الله تعالى. أما اليوم فأصبحت الأمور واضحة بينة، بحكم التقنية المتقدمة والمبذولة سواء على المستوى الفردي أو غيره.

فهذه فرصة في هذا الشهر الفضيل أن نتأمل في مخلوقات الله سبحانه وتعالى. ومن لم يشأ الذهاب بعيداً في التأمل فعليه بنفسه. فهذه النفس التي تحسب أنها جرم صغير، إنما هي صورة المخلوقات اختُصرت فيك. فلو رجع الإنسان إلى مكوّنه وقرأه وتأمله وفتش، لرأى العجب العجاب. ورسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع) خير عونٍ لنا على قراءة هذه النعم المودعة فينا والأسرار الخفية.

تصوّر لو أُوكل لأحدنا مهمة واحدة، وهي أن يقوم بنظم ما موجود من حالات الاجتماع والتنافر بين مكوّن هذا الجسم، لعجز عن ذلك، بل لعجز أفضل وأدق الكومبيوترات وأكثرها تطوراً ودقة في العالم، عن التحكم بتصرفات الجسم فقط، وليس الروح.

4 ـ رفع مستوى الأخلاق الكريمة والسلوك الطيب وسط الأمة بكل ألوان طيفها: فهذه فرصة لأن يسترجع الإنسان الحسابات، فليس هنالك من لا يخطئ، وليس لأحد أن يبرّئ نفسه. ولكن الخطأ ليس نهاية المطاف، فعلى الإنسان أن يتأمل ولو بعد حين ليكون في الاتجاه الصحيح والمسار الذي يجب عليه أن يسلكه قبل ذلك. وعندئذٍ يستطيع أن يحسّن سلوكه، مع نفسه وأهل والناس من حوله.

فهذه فرصة ثمينة، فلتكن عامرة في تحسين السلوك والخلق، وتعزيز العلاقة مع الآخرين من خلال الحضور في مجالسهم والمشاركة فيها. حتى من كانت بينك وبينه نفرة وعدم توافق فكري أو سلوكي أو منفعي أو غيره، فيمكن أن تتخطاها بفضل هذا الشهر الشريف.

5 ـ توطيد العلاقة العامة مع المكونات من حولك، والانفتاح عليها: فلا مجال للقول: إنني أعيش لنفسي ولا يعنيني الآخر، فأنت اليوم تشترك مع الآخر في كرسي درس واحد، وموقع عمل واحد، ومساحة تختلط فيها الأوراق فيما بينها. فما لم تتعاون مع الآخر فلن تستطيع تنظيم تلك الأوراق لتصل إلى الهدف والغاية. أما إذا كنت ترى أنك من المكوِّن (أ) ولا يمكنك الانفتاح على المكون (ب) فسوف تكون النتيجة سيئة، وعواقبها صعبة.

6 ـ تنمية المواهب الربانية: التي أودعها الله تعالى في داخلنا وأقرها في ذواتنا، وكذلك الاهتمام بالمهارات، بأن نُعنى بتصفيتها من جهة وتطويرها وتنميتها من جهة أخرى.

بالأمس اتصل بي أحد الشباب، وأنا مسرور جداً بهؤلاء الشباب الطيبين، فشريحة الشباب شريحة طيبة وفاعلة ومهمة، ولا يمكن الحكم عليها بحكم مطلق، فهي معدن الخير والصلاح وبالإمكان استثارة مواطن الخير في نفوسهم. فنحن الذين أنجبناهم وأتينا بهم إلى المجتمع، ونحن الذين أنيطت بنا مسؤولية تثقيفهم وتعليمهم وتوجيههم. نعم، هنالك خلاف لكل قاعدة، ولا يمكن أن نتصور أنهم ملائكة، حتى في زمن الأنبياء والأولياء لم يكن الناس جميعاً من لونٍ واحد. فمن الطبيعي أن يكون في كل مجتمع سلوك سيّئ، فلا ينبغي أن نعمم السلوك السيّئ على المشهد كله، فهذا ظلم وتجنٍّ.

اتصل بي الشاب المذكور، وهو لاعب رياضي محترف، وكان يسأل عن تكاليفه الشرعية في شهر رمضان. فهذا نموذج مشرّف ورائع، فالرياضي في مجاله وتخصصه يحقق إنجازات كبيرة، بل حتى في المجالات العلمية هنالك الكثير من الرياضيين ممن حققوا إنجازات كبيرة جداً، مع الحفاظ على مهاراتهم الرياضية.

والمهارات كثيرة لا تنحصر في الرياضة، فمنها الفن، ولا بد أن نلتفت لأنفسنا وموقعنا من الفن في العالم. فالفن لا ينحصر في حدود المنطقة التي نعيش فيها، فأنت جزء من عالم كبير وواسع، لا من حيٍّ صغير محدود المساحة.

لاحظ مثلاً أن المهندس المناوس الذي شاركنا في مولد الإمام المهدي (ع) استطاع أن يكون العربي الوحيد الذي يشارك في مسابقة لليونسكو، وأن يحقق إنجازاً كبيراً في مجال الشعر. وكانت مسابقة عالمية ضخمة بجميع لغات العالم.

فالفن والأدب والرياضة وغيرها من الأمور المهمة اليوم عالمياً، وينبغي تطوير المهارات والقابليات فيها.

ومن المناسب هنا أن نسأل السؤال التالي لمن ينتقد الشباب وانشغالهم في الرياضة أو غيرها: ما هو البديل المناسب لديك؟ فأنت أيها المحارب لهؤلاء الشباب، الذي تنال منهم ولا ترقب فيهم إلّاً ولا ذمة، وتطاردهم بالغيبة والكذب والمحاربة وغيرها، ما هو بديلك الذي أحضرته؟

فهؤلاء الشباب يذهبون للملاعب لينفقوا ما لديهم من طاقات، ثم يعودون لأهليهم وممارسة عباداتهم، فما هو الضير في ذلك، وما هو المحذور؟ فمن ينتقد شيئاً عليه أن يحضر البديل الأفضل.

ومما يستحق تطوير المهارات وتنميتها الخطابة، فهي في غاية الأهمية، ولا يمكن أن تصل الرسالة عبر المنبر إلا بالتمكن من الخطابة، سواء في منبر الجمعة أم المنبر الحسيني أم الملتقيات والاحتفالات أم غيرها. فالخطابة فنّ، والفنّ غير العلم. أي أنّ الفن وسيلة لإيصال رسالة العلم، فلا بد من الاهتمام بتهيئة أسباب فن الخطابة، وأن تكون هناك دورات للتدريب وتنمية المهارات في هذا المجال.

وكذلك التأليف، والحوار الممنهج، فأدب الحوار اليوم ساقط في مجتمعاتنا الإسلامية مع الأسف الشديد، فالغالب في الحوارات التي نراها هو محاولة وضع اليد على مواطن النقص والضعف عند الآخر، فلا تكاد تجد من ينفتح في الحوار من أجل ردم هذه الهوّة وتنمية منطقة الضعف.

7 ـ اختيار القدوة الصالحة من خلال البحث عن الأفضل: وكثيراً ما أؤكد وأكرر هذا الأمر، فالإمام علي (ع) يقول عن صحبته لرسول الله (ص): «ولقد كنتُ أتَّبِعُه اتِّبَاعَ‏ الفصيل‏ أثر أمه»([6])، وهذا لا يعني سوى القدوة الصالحة.

8 ـ بث روح التعاون بين أفراد المجتمع.

9 ـ تجديد الأسلوب في مسار التعايش مع الآخر.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.

  

([6]) نهج البلاغة: 300. صبحي الصالح.