نص خطبة: معاجز الأنبياء بين التأصيل والتفعيل

نص خطبة: معاجز الأنبياء بين التأصيل والتفعيل

عدد الزوار: 415

2020-02-29

الجمعة 1440/9/11هـ - 2019/5/17م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

ما هي المعجزة؟:

قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَکَّرُونَ﴾([2]).

صور الإعجاز في سير الأنبياء من الكثرة بمكان، وقد تكفل القرآن الكريم بعرض مجموعة منها كنماذج عابرة، والتأكيد على البعض الآخر لما له من أثر شبه دائم.

والمعجزة أو الكرامة، هي عبارة عن أمر خارق للعادة، يخالف قوانين الطبيعة، يجعله الله تعالى على يدي نبي أو قدّيس إظهاراً لصدق دعواه. وهذا الأمر الخارق للطبيعة قد يدّعيه من لا يتصف بصفة النبوة والقداسة، إلا أن هؤلاء في الأعم الأغلب يعمدون إلى مجموعة من الآليات التي تحصل لهم فيها الملكة بسبب تمكنهم منها وكثرة التمرين عليها، فيكون لهم تأثير ظاهري في بعض الأمور، فهو تأثير تمويهي ظاهري. ويلعب السحرة في هذا المجال دوراً كبيراً، كما هو الحال في سحرة الفراعنة في عصر موسى (ع). فقد كانت معجزة موسى (ع) تأكيداً للمعجزة من جهة، ودفعاً وإبطالاً لما ليس بمعجزة، إذ كانت عصاه ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُوْنَ﴾([3]).

واليوم في عالمنا المعاصر نشاهد شيئاً من هذا القبيل في (السيرك) وأمثاله، من الحركات الخفيفة التي تؤدّى أمام مرأى ومسمع آلاف البشر أحياناً، فهي عبارة عن خُدع أكثر من كونها واقعاً، وهي معلولة لخفّة في الحركة. أما معاجز الأنبياء فهي استجابة لأمر رباني، فالنبي واسطة في عروض ذلك. ومقام النبوة مقام عال سامٍ، والتعريفات التي نقرأها تكشف لنا بعض جوانبه، لذلك نجد أن صور الخلط واضحة وبينة، فهنالك تعاريف لغوية وأخرى دينية شرعية اصطلاحية خاصة، وثالثة اصطلاحية لا علاقة لها بالدين. فروّاد العلم الحديث يطرحون رؤيتهم أيضاً وينتزعون منها مصطلحاً للنبوة أو الرسالة أو غيرهما.

شرائط المعجزة وأركانها:

إن معجزة النبي لا بد لها من مقدمات وأركان كي تنتهي إلى نتائج في بعض الجهات، وفي جهات أخرى لا تحتاج إلا إلى الاستجابة ممن طُلب منه الاستجابة. ولذلك عندما يُسأل النبي (ص) عن الروح مثلاً، فإنه يجيب على لسان الباري تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾([4]). وبهذا يكون قد أرشدهم للإجابة، بأن ذلك من خصائص الله تعالى، وأن الأمر إليه وحده. أما المعجزة بما هي معجزة، فلا بد لها من أركان، لا تتحقق إلا بتحققها، وهي:

1 ـ كون الفعل الخارجي خارقاً للناموس الطبيعي: أي أننا لو وضعناه في ميزان الناموس الطبيعي فلا يمكن أن يحدث. فمن أمثلة ذلك أن الإحراق من صفات النار، فلا يمكن أن تضع في النار شيئاً قابلاً للاحتراق إلا احترق، فالنار محرقة، ولكن في قضية إبراهيم (ع) نجد أن هذه الخاصية تعطّلت تماماً، ولم تعد النار محرقة.

قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيْمَ﴾([5]). فقد تحولت النار إلى حالة الضد من حالتها الطبيعية، أي إلى أن تكون برداً غير قارس، وسلاماً، وهذا خرقٌ لأهم صفة من صفاتها وهي الإحراق. وبهذا يتحقق كونها معجزة، من جهة أن النار لم تحرق، وهذا خرق لقانون الطبيعة، كما أنها لم تتسبب له بأذىً بأيّ مستوى من الأذى.

2 ـ أن لا يكون للفعل دلالة سلبية: من قبيل ما حصل من مسيلمة الكذاب، الذي الذي أراد أن يتشبه برسول الله (ص) فبصق في بئر فغارت ماؤها، ومسح على رؤوس بعض الأطفال فتساقط شعرهم.

أما إحياء الموتى، كما اتفق لنبي الله عيسى (ع) فمن المعلوم أن عيسى (ع) أحيا الموتى، بصريح القرآن الكريم: ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ‏ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الموتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾([6]). فقد كان يحيي الموتى، بلحاظ أنه واسطة في عروض الإحياء، لا أنه يحييها استقلالاً.

وبما أنه يحيي الموتى فهذه الصفة من صفات الله تعالى، فقد يذهب المعتقِد إلى الاعتقاد أن هذا المحيي في نفس مرتبة المحيي الحقيقي وهو الله تعالى، ولكن الله تعالى جعل قَيداً في الآية، وهو قوله على لسان عيسى: ﴿بِإذْنِ اللهِ﴾ أي أن هذا الإحياء لم يتم إلا بالله، ونتيجته أن الله تعالى هو المحيي، وأن عيسى واسطة في ذلك لإظهار المعجزة.

3 ـ أن تتحقق بشكل فوري بعد الطلب من صاحب المعجزة: ولذلك ألقى موسى عصاه فانقلبت فوراً إلى حية تسعى. فقد ابتلي (ع) بطاغوت لم تعرف له الأرض مثيلاً وهو فرعون، الذي ادّعى دعوى كبيرة جداً حيث قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾([7]). وقال: ﴿يَا هامانُ ابْنِ لي‏ صَرْحاً﴾([8]). لكي يرقى إلى السماء فيرى إله موسى، استهزاءً واستخفافاً بما يقول.

فهذا الطاغوت الجبار، تحدّى موسى (ع) بما لديه من السحرة، وجاء بهم في يوم معلوم، وألقَوا ما لديهم من حبال وعصيّ فتحولت إلى أفاعٍ، فكان لا بد لموسى من إظهار معجزته بشكل فوري كي يثبت صدقها.

ومن الجدير بالذكر هنا أن موسى (ع) له أكثر من معجزة وأكثر من موقف، لأن القوم الذين وقفوا في وجهه هم اليهود، فهؤلاء منذ أن وطأوا وجه البسيطة من هذا الكوكب، وهم شرّ مطلق. ولو أن هؤلاء استُئصلت شأفتهم بسيف علي (ع) في خيبر، لارتاحت منهم الدنيا، فما من مصيبة في الكون كبيرة أو صغيرة، سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو غيرها حتى يومنا هذا، إلا وأنامل اليهود هي التي تحركها في الظاهر والخفاء.

وقد كان موسى (ع) قد تربى في بيت فرعون، فلما تنبأ أمر أن يذهب إلى فرعون فحصل ما حصل، حتى دعي موسى لتحدّي السحرة في مكان عام كبير. قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمينِكَ‏ يا مُوسى‏ ~ قالَ هِيَ عَصايَ‏ أَتَوَكَّأُ عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى‏ غَنَمي‏ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى‏ ~ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوْسَى ~ فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ~ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيْدُهَا سِيْرَتَها الأُوْلَى ~ وَاضْمُمْ‏ يَدَكَ إِلى‏ جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى‏‏~ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾([9]).

فهذه العصا كانت عصا عادية من حيث الظاهر، وكان (ع) يستخدمها كما يستخدمها سائر البشر، وهذا أحد أسرار الإعجاز، إذ كيف يمكن لعصا من هذا النوع أن تقابل تلك الأفاعي التي تبدو أمام الجمهور أنها تسعى؟ فلما ألقاها تحولت إلى حية تسعى. فكانت ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُوْنَ﴾([10]). وهذا كله خرق للنُّظم والقوانين الطبيعية.

عندئذٍ قال موسى (ع): ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي~ وَاجْعَلْ لي‏ وَزيراً مِنْ أَهْلي‏ ~ هارُونَ‏ أَخي ~ اشْدُدْ بِهِ أَزْري ~ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾([11]). أي أنه عاد إلى الوضع الطبيعي للقوانين الفاعلة في الحياة، فدعا ربه أن يحقق له ما يريد، ومن ذلك أن يحلل عقدة من لسانه ليفهموا ويعوا ما يقول، سواء كانت تلك العقدة في النطق، أم في أن البيان الذي لديه لا يكفي في إفهام المخاطبين في تلك الظروف. ومنها أن يجعل له وزيراً من أهله يشركه في أمره.

فكانت معجزة كبيرة، بل معجزتان، هما العصا واليد البيضاء، ولكن مع ذلك لم يصل الكثيرون إلى حقيقة نبوته وصدقه في دعواه. نعم، خرّ السحرة ساجدين مؤمنين برب موسى وهارون.

4 ـ أن تكون المعجزة في زمن النبي نفسه: لتكون فاعلة في حياته، باستثناء معجزة واحدة لخاتم الأنبياء محمد (ص). فإن معجزته خالدة مدى الدهور والأيام، مع أن معجزاته كثيرة أنهاها بعضهم إلى ألف معجزة. ورغم ذلك لم يؤمن به إلا قليل منهم، وبقي الأعم الأغلب إلى فتح مكة.

فمن تلك المعجزات انشقاق القمر، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَ‏ الْقَمَر ~ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾([12]). فهؤلاء مع كونهم يرون المعجزة بأعينهم إلا أنهم يُعرضون عنها. واليوم نجد أن بعض من ينتسب للدين الإسلامي لا يتقبل حتى المعجزات التي أثبتها القرآن الكريم، ومنها ما ورد في الآية الشريفة السالفة الذكر. وهذه مشكلة كبيرة في الاعتقاد.

معجزة القرآن الخالدة:

لقد كانت للنبي معجزات كثيرة، إلا أن أشدها وأكثرها خلوداً القرآن الكريم. ويتمثل إعجازه في جوانب عديدة، منها:

1 ـ النَّظم والتركيب والتماسك اللفظي، وتوظيف المفردة فيما أريد منها مع عدم الإخلال بالسياق العام.

2 ـ العمق المعنوي المكتنز في رحم الألفاظ، مع عدم التناقض والتصادم في تلك المعاني. فأنت ترى مثلاً أن الشعراء يقفون في الصف الأول المتقدم في ساحة الأدب، إلا أنك تجد أن الشاعر قد يناقض نفسه.

3 ـ الإعجاز الغيبي: وذلك بالإخبار الغيبي بالكثير من الحوادث المستقبلية.

4 ـ الأعجاز العلمي: وقد كُتبت فيه الكتب والمصنفات، فهنالك الكثير من الآيات فيها أبعاد علمية لم تكن مألوفة في زمن نزول القرآن الكريم، ولم يكن يعرفها بنو البشر آنذاك.          

5 ـ الأعجاز في حفظ القرآن الكريم نفسه: قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُوْنَ﴾([13]). وها نحن نرى أن القرآن الكريم مر عبر قرون متطاولة حتى وصل إلينا كما أنزله الله تعالى، وها نحن نستمع إليه ونقرأه كما هو، في مشارق الأرض ومغاربها، في بيوت المسلمين ومساجدهم وحسينياتهم ومعاهدهم العلمية، دون فرق بين نسخة وأخرى، ودون وجود كتاب آخر بمنزلة هذا الذي بين أيدينا.

فقرآننا واحد، ولا نحتج إلا به، ولا وجود لغيره بين ظهرانينا، ولكن مع الأسف لا زال بعضهم يصرّ على الافتراء والدعاوى الباطلة وإلصاق التهم بغيره.

6 ـ أن تكون المعجزة كاشفة عن أمر الله تعالى: أي أن تكون مُصدِّقة لدعوى من ادعى أنه من قبل الله تعالى.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.