نص خطبة:مدرسة الواقعية بين إفراط التقليديين وتفريط الحداثيون (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عن الكوكب الحادي عشر من كوكبة الإمامة، الإمام الحسن العسكري (ع) أنه قال: «واعلم أنّ المدبِّرَ لك أعلمُ بالوقت الذي يَصلُح حالُك فيه، فثق بِخِيَرَتِه في جميع أمورك، يَصلُحْ حالُك»([2]).
أسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى هذا الإمام المظلوم المسموم المعتدى على قبره، الإمام العسكري (ع) رزقنا الله سبحانه وتعالى وإياكم شرف الوصول إليه ودوام ذلك، إنه على كل شيء قدير.
نظرة في المذهب الواقعي:
باتت الواقعية تأخذ مساحتها في أوساط جمع من الناس رغم أنهم ينتمون إلى دين لا يعني إلا الواقعية، ولكن لم يرق لبعضهم أن يتناغم مع شيء يضاف إلى الدين، أو يكون منبعه الدين، إنما يستسيغه معلَّباً تم تجميده لقرون من الزمن، على أن يكون مصدره من الغرب.
فالقرآن الكريم تبيان لكل شيء، وهذه حقيقة لا بد أن نتفق عليها، وهذا التبيان تكفلت السنة النبوية المطهرة بتحديد أُطره ومعطياته، وما يمكن أن ينبثق عنه، والمقصرون هم أتباع الدين. وعجز الإنسان عن التفكير أو الخلوص إلى نتيجة، لا يبرر له أن يلقي تبعة ذلك على الدين نفسه، إنما عليه أن يحاسب نفسه بنفسه، وإلا فحساب الآخر له من أوضح البديهيات.
الواقعية المادية:
والواقعية مذهب فكري مادي ملحد يقتصر في تصويره الحياة والتعبير عنها على عالم المادة فقط، ويرفض عالم الغيب والإيمان بالله تعالى. هذا هو التعريف الجامع المانع للمذهب الواقعي في العالم. ومن أراد أن يقف على معطيات هذا التعريف وما لها وما عليها، يمكنه أن يرجع إلى كتاب «المجموعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة». لكن هذا لا يعني نهاية المطاف، إنما هو إيقاظٌ، وعلى المرء أن يتابع في بحثه ويجهد نفسه، ولا ينبغي الاتكال على قول فلان أو نقل فلان، فأيُّ ملاحظة أو إضافة منكم أو ممن يصلهم الصوت فيما بعد يعطي حالة من الدفع والجدية أكثر في أن يباشر الباحث بحثه بآليات ربما لم يكن قد تحرك على أساسها. فملاحظة الجمهور تعني أن هناك حالة من الانسجام بين الملقي والمتلقي باتت تشغل حيزاً كبيراً، وهذا ما نطمح إليه ونأمل فيه.
أسس الواقعية المادية:
أما الخصائص والأسس التي بنيت عليها هذه المدرسة المادية الواقعية فهي على النحو التالي:
1 ـ أن منطلقها الحياة بجميع أبعادها، فقد وجد علماء ذلك العصر أنفسهم أمام الشيء ونقيضه في عالم الخارج، فجعلوا منه أرضية لموضوع تدور من حوله حركة التنظير.
2 ـ رفع اليد عن البعد العاطفي والخيال في غربلة الأشياء.
3 ـ الاهتمام بحاجيات المجتمع، حيث رأوا أن المجتمع في تكثره تتولد في أوساطه مجموعة من القضايا التي تتسبب في نتائج تحتاج إلى علاج. كما هو الحال في الفقر، ذلك المرض المستعصي، فإن استعصاء وضع الحل لهذا المرض لا ينبغي أن نلقي بتبعاته على المشرّع، إنما على المتشرع نفسه، وهنالك فرق بيّن بين المشرِّع والمتشرِّع، فالمشرع هو من سنّ القانون أو الدستور والتشريع، وهو في الرسالة المحمدية نبينا الأعظم محمد (ص). أما المتشرعة فهم أولئك الذين أقروا للنبي (ص) بالرسالة وساروا على نهجه، فالخلل يقع في هذه الجهة، وهم أنا وأنت وكل من يحمل الإسلام إيماناً واعتقاداً وعملاً.
4 ـ تلمّس مواطن الخلل في المجتمع وعيوبه مع روح البيان، فهم لا يكتفون بوضع أيديهم على مواطن الخلل، إنما يبرزونها للرأي العام، وهذا محل خلاف بين المدارس الفكرية، سواء كانت دينية أم مادية أم بين الفئتين، فهنالك من يرى أن من حق الإنسان أن يكشف العيوب ويبينها ما دامت الغاية سامية وهي إصلاح الخلل.
وهنالك جماعة أخرى على العكس من ذلك، فهي ترى أن المجتمع لا بد أن يُدارى، فيُتحفظ على القضايا، ثم ننتظر عامل الزمان أو المكان أو عوامل المحيط، ثم تطرح القضايا، وهو ما يسمى في العرف السياسي (النزول إلى الشارع) وهذا ما يكون أحياناً من خلال رجل الدين، وأحياناً أخرى من خلال الجمهور. أي أن الجمهور هو الذي ينهض، أو يكون رجل الدين هو السبب في إنزال الجمهور إلى الشارع، وعلى هذا حدثت الكثير من حركات التغيير في العالم، إما من طريق الجمهور أو من طريق القيادة.
5 ـ التزام موقف الحياد في القضايا التي تدخل في دائرة الشيء ونقيضه، والصراحة في التعبير، والموضوعية، أي أنها ثلاثة عناصر متداخلة تشكل هذا العنصر.
بين النظرية والتطبيق:
إننا عندما نتعامل مع هذه الأمور المساعدة في فكّ معطيات التعريف، نسأل: هل أن هؤلاء يلتزمون بلوازم التعريف وما ينبثق عنه؟ وهل يرتبون الآثار على ذلك، أو أنهم يتجاوزونه إلى ما هو أبعد؟ الحاصل هو الثاني، ولكم أن تقرأوا ما يكتبونه سواء من خلال الصحافة والإعلام المرئي والمسموع في العالم الغربي المفتوح بالمطلق، أم ما يجري في الوطن العربي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فسوف تجدون أن الكثير مما يطرح في الساحة لا يعدو دائرة التخديش الذي يشبه تخديش الأعمى بعصاه يتلمس فيها طريقاً، فهو في الأعم الأغلب لا يهتدي الطريق إلا إلى ما كان قد ألفه. فالكثير ممن ركب موجة الواقعية في عالمنا اليوم هم من قبيل (تخديش الأعمى) حيث نسوا المنطلق وأرادوا أن يصلوا إلى هدف بينهم وبينه بعد المشرقين، لأن الدخول لم يكن عن بصيرة، بل كان عن عمى، وأنا مسؤول عن كلامي هذا أمام من ركب هذا الفلك وأبحر بتلك السفينة. وليس ما أقوله عن أمر حدسي، إنما هو عن مقاربة واستشعار، وكم كنت أتمنى أن يكون هنالك التزام لأن الواقعية في نهاية المطاف من صلب ديننا، ولكن من خلال المعالجة، لا على أساس القراءة الناقصة كما سيتضح.
ولادة المذهب الواقعي:
لقد نشأ المذهب الواقعي في القرن التاسع عشر الميلادي، أي منذ مئتي سنة مضت. وأول من تعامل معه من يعبَّر عنهم (الطليعة) من المفكرين العرب والمسلمين، في مصر ولبنان والعراق وإيران، مع نثار هنا وهناك في بعض البلدان الأخرى، كما في المغرب العربي وشمال أفريقيا. فهؤلاء ركبوا السفينة في أوائل القرن العشرين، وها نحن نقطع شطراً من القرن الحادي والعشرين، أي أنهم تجاوزوا مئة عام من الزمن. إلا أننا نلاحظ أن غيرهم من الواقعيين فتحوا الفتوحات الفكرية والتطبيقية في عالم المادة، وأحدثوا طفرة نوعية في ذلك، إذ غزوا الفضاء وطوروا الصناعات والطب وتحركوا من خلال بعدهم الإلحادي، فهم لا ينكرون أنهم ملاحدة لا يعترفون بوجود الله والعياذ بالله. فما الذي حققه (الواقعيون) عندنا؟ لم يحققوا سوى مجموعة من النصوص الأدبية المبتذلة، المنسلخة من أصول الأدب والخلق الكريم، تحولت إلى سيناريوهات لأفلام تسببت في مصادرة القيمة من الإنسان العربي والمسلم. فهي أفلام لا تقدم إلا السفاسف من الأمور والفسق والفجور.
فليس ثمة شيء على أرض الواقع قدمه هؤلاء، ونحن إلى اليوم نستورد من الغرب حتى الإبرة التي نخيط بها ثيابنا، ثم يدّعون الواقعية والحداثة.
إن هذا المسلك قائم على تصوير الواقع بالمباشرة، أي كل ما كان محسوساً له حجم أو حيز أو وجود مادي، فذلك مدعاة للإيمان به وترتيب الآثار عليه، أما ما جاوزه فهو خارج الدائرة.
ثم إن هذه المدرسة تقولبت في ثلاثة اتجاهات:
1 ـ الاتجاه النقدي. 2 ـ الاتجاه الطبيعي. 3 ـ الاتجاه الاشتراكي.
وقد حاول الإمام الشهيد الصدر (قدس سره) أن يعالج هذه الإشكالية، وكم كنت أتمنى أن يكون الفكر الذي ينبثق من داخل الحوزة العلمية تتم رعايته واحتضانه من داخل بيته، وتسافر به الحوزات العلمية إلى الحواضر العلمية من حولها، ولكن ـ مع شديد الأسف ـ لم يحصل ذلك، بل حصل العكس منه، فصار رجل الدين الذي كان في السبعينات من القرن الماضي يقرأ الرأسمالية والاشتراكية وبعض النظم يتهم بأنه جسد لا روح! وهذا من العجب، إذ من المفترض أن تكون قامة كالإمام الشهيد الصدر (قدس سره) ممن يجبر الآخر على الدخول في أروقة الحوزة إعجاباً منه بنتاجها، وسعياً لتحصيل المزيد. وهنا تكمن العظمة في هذا الرجل. قال الشاعر:
حلف الزمان ليأتينَّ بمثله حنثت يمينك يا زمان فكفِّرِ
ويبقى الصدر صدراً، فهو صاحب النظريات المتقدمة، كنظرية المرجعية الرشيدة وغيرها.
وليت هؤلاء الناعقين، وأصحاب الأقلام العابثة قرأوا الإمام الشهيد الصدر قراءة صحيحة ورتبوا الآثار، لكنهم ـ مع شديد الأسف ـ جانبوا الحق، وكانوا كمن أراد أن يحاكي صوته ومشيته فأضاع المشيتين.
واقعية الإسلام:
إن الدين الإسلامي هو دين استمرار ودوام، والحديث الذي بدأت به تشرفاً يعطي نظرة نحو الواقعية، فالإمام العسكري (ع) يقول: واعلم أن المدبر لك أعلمُ بالوقت الذي يَصلُح حالُك فيه. فهذه نظرة واقعية.
والسعادة ببعديها الدنيوي في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[3] والأخروي في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِي مَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ﴾، إنما هي وسطية تحركها الواقعية أيضاً. ولكن في الفلاح الأخروي يحصل الافتراق بين أصحاب نظرية الواقعية من رحم الإسلام، وأصحابها من مدرسة المادة الذين لا يؤمنون بما وراء الطبيعة رغم أن الرافد الخامس يضع يده على جانب منها وإن كان لا يستغرق فيها، ومتى ما سار في معطياتها وجد نفسه عاجزاً إلا أن يقرّ بوجود عالم الغيب وهو الله تعالى، فقد تنكر حتى لما جُعل أساساً لمحاكمة الأشياء وهو العقل. ولذلك وقعوا في كارثة. فلا يوجد عالم من علماء الطبيعة، أمعن النظر في الكون، وأجرى التجارب اللازمة إلا وخلص للإيمان بالله تعالى، أما من رفع يده عنها فقد دخل في دائرة الإلحاد.
واقعية الإسلام والجانب الروحي:
وما دام أن الواقعية الإسلامية تحلّق بجناحي الدنيا والآخرة، فلا بد من شرط في تحقيقها وسط الأمة، وهو أن تقوم الأمة بجميع مسؤولياتها تجاه الدين. وهنا لا بد من تحديد دعائم الافتراق بين الواقعية عند أولئك، والواقعية عندنا نحن أتباع مدرسة الإسلام، الرسالة الخاتمة، التي تتميز في (الجانب الروحي) فلا يمكن أن نغفل ما لجانب الغيب من أثر في تطور عقل الإنسان، فعالم الغيب يمدنا عندما نكون في عالم العدم لكي نتحول إلى عالم وجود، لأن الإنسان وجود مادي روحي، فالماء والتربة مكونات مادية للإنسان، ولكن هل ينتهي الأمر عند الماء والتربة؟ وهل أن ما وراءهما وجود أو عدم؟ فإن كان وجوداً فمن هو؟ وهل هو واجب وجود أو لا؟ فإن لم يكن واجب وجود فلا بد أن ينتهي إلى واجب الوجود، كي لا يحصل التسلسل. وعندئذٍ ينتهي الأمر إلى وجود صانع موجد هو الذي أوجد الموجودات من العدم، وهو الله سبحانه وتعالى.
فالجانب الروحي جانب مهم، لذا يجب تغذية وتقوية هذا الجانب في داخلنا من خلال العبادات والأعمال الخيرية الطيبة، والروافد في ذلك كثيرة. فأين نقف نحن اليوم من هذا الأمر؟ وأين نحن من هذا العالم المتلاطم الأمواج الغارق في الصراع؟
هل تعرفنا الدين كما ينبغي وكما أراده النبي محمد (ص) ؟ لنقل: نعم. ولكن ما هي مصادر تلك المعرفة؟ وما هي الأدلة والمصادر التي انتزعنا منها الدليل على معالم ديننا؟
إن القرآن الكريم لا يتعدى ما نتلوه بأفواهنا وألسنتنا، أما سبر غور الآيات لانتزاع المعطيات فلم نهتدِ إليه سبيلاً. وأما السنة المطهرة فتشتكي إلى الله حال الأمة التي قصرت فيها بين إفراط وتفريط. فالكثير من الحداثيين باتوا ينكرون كل ما يضاف إلى محمد وآل محمد (ص) ما لم يكن وفق رغباتهم وطموحهم.
يقول بعض من هؤلاء عند سماعه آية أو كلاماً للنبي (ص) أو الإمام علي (ع) أو أحد الأئمة (ع): إن عقلي ليس مبرمجاً لتقبل ذلك! فالمشكلة في هذه العقول التي لم تبرمج بشكل صحيح، وإلا فلا كلام بعد كلام الله والنبي والأئمة، لأنه صادر عن عقل معصوم لا ينطق عن الهوى.
فالمشكلة في من يصدر عن الهوى، لا في من لا ينطق عن الهوى. فالتردد في كلامهم هوىً في هوى، وعمىً في عمىً، وضلال في ضلال.
وهنالك جماعة أخرى يعيشون حالةً ما من الإفراط، فهم يذهبون بعيداً. وجماعة ثالثة ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، فهم يضيفون حتى أحلام العجائز لعلي وآل علي. فتجد حلماً رآه عالم في القرن الخامس أو العاشر مثلاً، يصبح في ثقافتهم حديثاً عن محمد وآل محمد (ص). وهذه مصيبة.
لذا نجد اليوم أن كثيراً من الممارسات ليس لها مؤمّن شرعي، فهي في الظاهر ممارسات شرعية، لكنها في واقع الأمر عادات وممارسات، لا فرق بينها وبين الأحلام.
إنك ترى مثلاً أن زائراً يضع الحبل في رقبة زائر آخر، ويجره إلى داخل الضريح وهو لا يملك إلا النباح بدلاً من السلام على المعصوم، فهي وإن كانت اليوم ممارسة فردية، لكنها بعد عامٍ سوف تصبح ظاهرة، ثم عادة، ثم تتحول إلى رواية لا يمكن الاقتراب منها. وهكذا في الكثير من الأمور التي لا منشأ لها.
فنحن إذن بين إفراط وتفريط. بين حداثي لا يعرف قدر نفسه، وآخر متخلف جعل من نفسه نائباً عن المعصوم في زمن غيبته يسير الأمور كيف يشاء.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.