نص خطبة مدرسة الواقعية بين إفراط التقلديين و تفريط الحداثيون (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال الإمام العسكري (ع): «أوصيكم بتقوى الله، والورعِ في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)»([2]).
معرفة الدين:
استكمالاً لما كان فيه الكلام في الأسبوع الماضي حول الواقعية كمذهب تبناه الماديون المنصرفون بتفكيرهم عن عوالم الغيب، وما نحن بصدده من ثوابت هذه الشريعة المقدسة الخاتمة، شريعة النبي الأعظم محمد (ص).
وقد كان التساؤل فيما مضى: أين نقف نحن من ذلك؟ وعن هذا انحلت مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها علينا، وهي:
الأول: هل تعرفنا على الدين كما ينبغي؟ فمن يعيشون الإسلام معتقداً يفترض أن عددهم قد تجاوز المليار ونصف من مجموع سكان هذا الكوكب، لكن كم هم الذين يعرفون الإسلام من هذه النسبة العالية جداً إذا ما قيست بغيرها من النسب في الأديان الأخرى؟
فالتعرف على الدين أمر مهم، وهو أمر مقدم على العبادة نفسها، رغم أن الإنسان لم يخلق إلا من أجل العبادة، ولكن ليست العبادة الجوفاء الخرساء التي تثقل الإنسان وتشده إلى ما تحت قدميه، إنما هي العبادة التي تحلّق بروح الإنسان في معارج بعيدة لتقف قريبة من عوالم اللطف الخاص لله جلت قدرته.
فهل تعرفنا نحن المليار ونصف المليار إنسان على وجه الأرض، ممن يقولون جميعاً: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؟ وهل يعي هؤلاء ماذا يعني الإسلام في نَظمه وتطلعاته وجسور الربط التي أقامها بين النشأتين الأولى والآخرة؟
فإذا كنا نريد أن نتعرف أكثر، أو أننا لتوّنا نخطو الخطوات الأولى في طريق التعرف على الإسلام، فهذه كارثة عظمى، أي أن يكون الإنسان المسلم غير متعرف على واقع الدين الذي ينتمي إليه، وهو يرفع شعاره، ويحاول أن يقترب من بعض نقاط التماس بينه وبين غيره من الأديان.
مصادر التشريع:
الثاني: ما هي المصادر التي تعيننا وتساعدنا على ذلك؟ فربما تسأل أحد النشء الجديد هذا السؤال: ما هي أهم المصادر بعد القرآن الكريم التي نستطيع أن نستدل من خلالها على عظمة ديننا، وعلى أننا نستطيع أن نقدمه للبشرية أنموذجاً هو الأكمل والأتم والأصلح والأقدر على تخطي الأزمات؟ فلا تجد لديه جواباً.
إننا نجد بنظرة سريعة أن من ينتمون للإسلام اليوم هم الذين يوجدون الكثير من البؤر التي تحدث نزيفاً في جسد الأمة، بينما نجد الآخر ينسج على هذا وذاك من أجل مصالح يتواخاها، وكان قد رسم الخطوط الموصلة لها قبل عقود من الزمن، ونحن لما نستيقظ بعد من نومتنا الأولى، فكيف بنا إذا دخلنا في النومة الرابعة التي يسلب فيها من الإنسان جميع الملكات المساعدة على أن يقرأ مشهداً بعد استيقاظه؟
والمصادر ـ أيها الأحبة ـ كثيرة، ولكن علينا أن نبحث عن طرق توصلنا إلى مواردها الثرة. فكلنا نتسابق على أفضل الماركات في سياراتنا ومركباتنا وملابسنا وربما في أكلنا وبعض الكماليات التي نستعرض من خلالها بعض جوانب الكمال في شخصيتنا، وهي حالة مَرضية بطبيعة الحال، لكننا لا نتعرف الموارد ولا الطرق الموصلة إليها من خلال ما نحتاج إليه من روافد ومصادر نتعرف من خلالها على أحقية ديننا، وأنه الأجدر الذي يقود البشرية إلى ساحل النجاة.
إننا نسير إلى الوراء، وإن كان السير لم يدخل بعد مرحلة الهرولة إلى الخلف، ولكن إذا كان هذا هو المشهد فلا مناص من الهرولة إلى الوراء، وعندئذٍ ربما يولي الجميع دبره، وعندها تكون الطامة الكبرى، ويتحسس الإنسان ما لغياب إمامنا من أهمية ونعمة فرّطنا فيها، فكيف إذا كان بين أوساطنا ويتحرك فيما بيننا؟ فهل نشكر النعمة أو نكون بها من الكافرين والعياذ بالله؟ وعندئذٍ لا مجال للمراجعة أياً كان شأنها.
فالمصادر كثيرة، تعجّ بها المكتبات الإسلامية شرقاً وغرباً، وعلينا أن نكون يقظين حذرين وعلى مستوى المسؤولية فيما نتعاطاه من زاد فكري ومعنوي، كي نستطيع أن نعبر بديننا إلى مسافات مناسبة. فالعالم يتطلع إلينا من زاوية كأتباع دين، ومن زاوية أخرى كأتباع مذهب يسر على نهج آل محمد وآل محمد (ص).
لدينا أصول مهمة أربعة، وعندما نعبر عنها بالأصول الأربعة فلا نعني بالضرورة أنها معصومة من الخطأ، إنما جمعت بواسطة أعلام، هم المحمدون الثلاثة، الذين بذلوا جهدهم ووصلوا إلى ما وصلوا إليه، ولكن في الطابع العام لهذه الأصول الأربعة أننا نمسك بمادة ليست بالقليلة، وهي كفيلة بأن تجعل الصورة واضحة لنا في أكثر من زاوية وزاوية. فالكافي والاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه هي الأصول التي من خلالها نؤمّن الكثير من الأدلة للكثير من المتطلبات التكليفية للعبد في هذه الحياة، سواء كان ذكراً أم أنثى.
ومن الجميل أن تكون هذه الأصول الأربعة في مكتبة كل شابٍّ من شبابنا، لأنها تؤمّن له الكثير. نعم، إنها تحتاج إلى حرفة الصانع، لكن ذلك لا يعني عدم الإفادة منها.
أيها الأحبة: من مصادرنا المهمة أيضاً تلك الشروح التي عنيت بالأصول الأربعة، فأعطت من جانب إضافة لأصل المادة الأولية، ومن جانب آخر أعطت بعداً آخر من خلال استنطاق ما أودع في هذه الأسفار الأربعة الجليلة الشريفة.
ومما يؤسف له أن بعض الناس يحاول أن يقترب من مساحة هذه الأصول، لا على أساس من الوعي أو المعرفة أو التسلح بالسلاح الذي يتماشى وغربلة هذه الكتب من خلال نصوصها بما هي نصوص، ولا من خلال أسانيدها الناقلة لها، إنما هو خبط عشواء هنا وهناك. حتى أنك تسأل أحياناً: من هو صاحب هذا الكلام الذي أعطى لنفسه الحق أن يشرّق أو يغرّب في ذلك الأصل، وهو لا يستحضر حتى اسم مؤلفه؟
أيها الأحبة: إن المثقف محترم، وبه نحلّق في الكثير من الميادين، ولكن عليه أن يبتعد عن مساحة الغرور التي ترديه في الكثير من الحالات، وعليه أيضاً أن يعطي النَّصف من نفسه، بمعنى أن هنالك كمالاً قد خُصَّ من خُصَّ به، وأنك أيها المثقف، وأنا أيضاً مثلك، علينا أن لا نصل إلى حد الدعوى بأن لنا كمالاً، ناهيك عن أن يكون فينا كمال فعلي، ولكن علينا أن نكمّل نقصنا حتى تتقلص دائرة النقص في ذواتنا، وعندها ننصف أنفسنا وننصف الآخرين منا. فكما نرغب نحن أن يكون الآخر قد أعطانا مساحةً كي نتحرك، علينا كذلك أن نعطي الآخر مساحة كي يتحرك. فعندما نؤمّن الفضاء الذي على أساسه يمكن أن تكون هنا قراءة، وهناك قراءة، وهنالك قراءة ثالثة، فإننا نزاوج بين القراءات، ونخلص إلى نتائج كبيرة ومجدية ومفيدة، أما إذا رأى رجل الدين في نفسه (الإمام المعصوم) في زمن الغيبة، وإذا رأى المثقف في نفسه أنه الإنسان المتحرر بالمطلق حتى من قيود الدين نفسه، فتلك الطامة الكبرى. وإذا رأى الآخر في نفسه أنه لا ينتمي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فمن حقنا أن نسأل: إلى أي اتجاه تنتمي؟ فاللاعَنونة تعني الضياع، والضياع لا يتم إلا بعد سلب العقل، فهل يقبل هؤلاء أن يتحركوا فيما بيننا وهم لا يمتلكون عقلاً ولا رشداً؟
إن العاصمية لأهلها، وعلينا أن نتعامل بيسر وسهولة في جميع المناطق التي نلتقي فيها ونتحاور على أساسها.
وعندئذٍ إذا كانت هذه الأصول والشروح بأيدينا، واعتصمنا بقول العلماء الأفذاذ المراجع (أعلى الله مقام من مضى منهم، وحفظ من بقي) وجعلناهم لنا سنداً، واستفدنا من معطيات مدارسهم، فلا شك أننا في المسار الصحيح.
ضرورة إنكار المنكر:
لا شك أن بعضنا وقع بين يديه خلال هذا الأسبوع مقطع تم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو لأحد رجال الدين، يتخطى رجل دين آخر في إحدى الحسينيات في مجلس فاتحة فلا يصافحه! وقد حذرت من هذه الحالة قبل سنتين بالتحديد، ولكم أن تراجعوا موقع الجامع، فقد حذرتُ آنذاك أننا سوف ندخل في دوامة في يوم من الأيام ما لم تنهض الحوزة بمسؤولياتها، ولم ينهض العلماء بمسؤولياتهم في وضع حدٍّ للنزيف الذي بات يتسرب من خلاله الكثير من الأمراض والدغل والبكتيريا.
أيها الأحبة: إنه مشهد في منتهى البشاعة والبعد عن الأخلاق الكريمة أن يجتاز رجل دين رجل دين آخر، بمرأى ومسمع من الجميع وليس من منكِر! إننا إن لم نستنكر اليوم فسوف يتفاقم الأمر. فما الذي أوصلنا لهذا الأمر؟
لقد كان الحال في الزمن الماضي أن مجموعة من الرجال إذا جلسوا ومر بهم أحد فلم يسلم عليهم، كانوا ينعتونه بعدم الرجولة، أي أنه لو كان رجلاً لسلم عليهم! فلو كان هذا النموذج رجل دين حقاً لبدأ بالسلام، لأنه الأولى أن يمتثل قول رسول الله (ص).
أيها الأحبة: لا يكفي أن نتعلم، ولا أن نكون أصحاب ثقافة وأدب وفكر وغير ذلك، ما دامت الأخلاق في تراجع.
إن رجل الدين الذي يجتاز أخاه دون سلام عليكم أن تقفوا في وجهه كي لا يسري ذلك المرض لأبنائنا ونشئنا، فرجال الدين قدوتنا إذا التزموا بمبادئ الدين وأخلاقه، أما إذا تخلَّوا عنها واكتفوا بالعباءة والعمامة والمسبحة والخاتم، فهذا مبلغهم ليس إلا، فحتى المجانين يستطيعون أن يتزيَّوا بهذا الزي.
إن هذه ليست المرة الأولى، ففي فاتحة الشيخ محمد المهنا دخل أحدهم إلى الحسينية واجتاز العلامة السيد محمد علي الناصر فلم يسلم عليه. وسوف يحدث أمثال هذا في المستقبل إذا بقينا صامتين لا نحرك ساكناً.
إنني أقول كما قال السيد الإمام (رضوان الله عليه): من السهل على الإنسان أن يكون مجتهداً، ولكن من الصعب أن يكون إنساناً. ويقول أيضاً: ربما كان الاجتهاد أقصر الطرق الموصلة إلى جهنم.
وقفة مع وصية الإمام العسكري (ع):
يقول الإمام العسكري (ع): «أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم» فليس من التقوى والورع الزيادة على الكلام، بأن تسمع أحداً يقول قولاً، فتنقله عنه بزيادة، ثم ينقله الآخر بزيادة أكبر، وهكذا.
ثم يقول: «والاجتهاد لله» بأن يكون الهدف الأول والأخير هو رضا الله تعالى، لا لكي يمدح فلان أو يذم فلان. «وصدق الحديث» وهذا أمر واضح. فهناك من تسأله عما قال قبل قليل فلا يستطيع أن يجيبك، لأنه نسي ما قال، وحبل الكذب قصير. « إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر» فاليوم حتى البَرّ لا يمكنه أن يأخذ حقه وليس الفاجر. «وطول السجود وحسن الجوار فبهذا جاء محمد (ص)».
إلى أن يقول (ع): «صلوا في عشائركم» وقد كانت هذه الخصلة قريبة المنال منا قبل عشر سنوات، أما اليوم فأصبحت بعيدة جداً.
لقد قلت في يوم ما، وأذكّر اليوم: نسأل الله تعالى أن يأتي اليوم الذي لا نسمي هذا المسجد شيعياً ولا ذاك سنياً، لأن المساجد بيوت الله، لا للشيعة ولا للسنة. لكننا نجد أن الأمر بلغ ما هو أسوأ، فهذا مسجد خوئية، وذاك مسجد شيرازية، وذلك مسجد سستانية، وهكذا. وكأننا كلما أصبحنا في عالم الوعي أكثر حضوراً، صرنا إلى الوراء أقرب.
إننا نعلم أن المساجد عندما يأذن الله تعالى للإمام المهدي (عج) بالخروج لا تقترن بعناوين مذهبية، فليس في زمن حضوره مسجد سني أو مسجد شيعي.
والملاحظ أننا نجد المسلمين يجتمعون جميعاً في بيت الله الحرام، وفي المسجد النبوي، فلم لا يكون الأمر كذلك في مساجدهم في سائر البقاع؟ إنه عدوٌّ خارجي يعبث بالأمة.
ثم يقول (ع): «واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم» بل من باب أولى أن تُقدم من خلال ذلك رسالة تمثل من خلالها مدرسة محمد وآل محمد. «فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً. جُرُّوا إلينا كل مودة» فمهما استطعت أن تجعل أصحابك من الخليط المذهبي كان ذلك أفضل. وقد كنا في يوم من الأيام في حال أفضل، يوم كان التزاوج بين الطائفتين أمراً طبيعياً. وكان الإرضاع كذلك، والائتمان أيضاً، وغير ذلك من الأمور.
ثم يقول (ع): «وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك» أي لا تجروا إلينا سمعةً لا تتناسب معنا. «لنا حقٌّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله، لا يدّعيه أحدٌ غيرنا إلا كذاب. أكثروا ذكر الله وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما وصيتكم به، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام»([3]).
ثقافة المنبر:
ولا بد لي هنا أن أشير إلى أمر مهم ذي علاقة بما مرّ، وهو أننا لا يمكننا اليوم أن نبني ثقافتنا من المنبر بالوضع الذي هو عليه، إلا ما شذّ وندر، لأن البضاعة المقدمة رخيصة، لا ترتقي إلى مستوى من ضحى من أجلها، وهو الإمام الحسين (ع).
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.