نص خطبة :مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام

نص خطبة :مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام

عدد الزوار: 647

2011-12-28

 

يا سائلي أين حلَّ الجودُ iiوالكرم
عنـدي جـوابٌ إذا طُلابـه iiقَدِمـوا
هذا الَّذي تعرفُ البطحـاءُ iiوَطْأَتَـهُ
والبيـتُ يعرِفُـهُ والـحِـلُّ iiوالـحـرمُ
هـذا ابـنُ خيـرِ عبـادِ الله iiكلِّـهـمُ
هذا التقيُّ النقيُّ الطاهـرُ iiالعَلـمُ
هذا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنتَ iiجاهلَـهُ
بـجـدِّه أنبـيـاءُ الله قـــد iiخُـتـمـوا
وليـس قولُـك مـن هـذا iiبضائـره
العُربُ تعرفُ من أنكرتَ iiوالعَجَـمُ
مـا قـالَ لا قـطُّ إلا فـي iiتشهُّـدِهِ
لـولا التشـهـدُ كـانـت لاؤهُ iiنـعـمُ
يُغضِي حياءً ويُغضَى من مَهابته
فـمـا يُكـلَّـمُ إلا حـيــنَ iiيبـتـسمُ

الحديث عن الإمام السجاد (ع) حديثٌ طويلٌ، له مبتدأ يمكن أن يبتدئ به كل متحدث، لكن منتهاه يستعصي على كل متحدث.

ففي المدينة المنورة بأنوار النبي محمد (ص) ولد الإمام السجاد (ع) وفيها استشهد ودفن، وبين الحالين أحوال متقلبة.

 إن الإمام السجاد (ع) ممن يحملون نسباً قصيراً، فلا يحتاج الباحثُ أو المستمع إلى مزيد عناءٍ وطول فترة حتى يقف على حدود نسبه، فيكفي أن يقال فيه: إنه علي بن الحسين، كيف لا ؟ والحسين (ع) هو سبط الأسباط، والسبط الذي لا يشاركه في هذه الصفة إلا السبط الأول الإمام الحسن (ع).

عاش الإمام السجاد (ع) في المدينة، وهي التي تكفلت بأن تكون المساحة الفضلى لتثبيت قواعد الرسالة المحمدية، وفي المدينة المنورة غرس النبي ورعا وحصد، ولو لم يكن من حصاده (ص) إلا الضمانة الكافية في التوأمية بين الكتاب والعترة لكفى، كيف، وما حول ذلك الشيء الكثير؟

والإمام زين العابدين (ع) لم يُنصف، لا من معاديه ولا من محبيه، وربما لا يكون الفريد بين كوكبة الإمامة الذي تعرض لعدم الإنصاف، ولو كان واحدٌ من هذه الكوكبة عند غير هذه الأمة لسادت بهم الأرض، لكن هذه الأمة التي يُفترض أن تكون مصطفاة ومنتخبة، أبت إلا أن تتنكر لهذه الكوكبة، وتختط لنفسها مساراً موازياً لذلك الخط الذي يفترض أن يكون هو الأول وعليه مسار الأمة، ابتداءً بالنبي محمد (ص) وختاماً بخاتم الإمامة المهدي محمد (عج).

لقد تصدر الإنسان في جزيرة العرب سائر الأمم في موردين: البلاغة والتشريع، أما الأول فهو بالوراثة الكريمة، التي ورّثها السلف للخلف، ولا إشكال أن أدبيات العرب قبل الإسلام كانت في الذروة، وأما التشريع فلم تأت به قريش، ولا الكبار منها بما هم كبار، وإنما جاء على يدي نبيٍّ هو الصفوة من بين البشر، فلم يكن من صناعة الذات للذات، إنما هو الوحي المنزل من قبل الله سبحانه وتعالى على قلب الحبيب المصطفى.

لقد كان التشريع الذي جاء به النبي (ص) يرتكز على دعائم تؤمِّن له القدرة على أن يأخذ بيد الإنسان إلى ما هو المأمول, والدعائم التي يتمتع بها هذا التشريع الأقدس، الذي بذل أئمة أهل البيت (ع) مُهجهم في سبيل الحفاظ عليه، عبارة عن مجموعة كبيرة، أهمها:

1 ـ كون هذا التشريع من صنع الله سبحانه وتعالى، وليس من صنع البشر، أضف إلى ذلك أن من صَنع هذا التشريع، تكفَّل بالحفاظ عليه. ففي القسم الأول تشترك الرسالة الإسلامية مع ما تقدمها من الرسالات، أما في الثاني فتتقدم عليها، لأن مشيئة الحكم السماوي لم تتعلق برسالة قضى دورها، إنما كان حصراً بهذه الرسالة، لأنها تكفلت الحلال البين والحرام البين إلى يوم القيامة.

لقد شرع الله تعالى تشريعه بناءً على وجود الخصائص البشرية الفطرية الكامنة في الذات، فلا تعارض فيما شرع مع الميول التي تحركها فطرة الإنسان السليمة، فالإنسان يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجسانه.

فالتشريع الصادر من الله جلَّت قدرته يتماشى مع هذه الفطرة المودعة في كينونة كل إنسان على وجه الأرض ذكراً كان أم أنثى، وهذه الفطرة ثابتة مستقرة في داخل كل إنسان، ولكن لديها القدرة والقابلية على أن تتحرك بين الفينة والأخرى على أنها تتحفظ على حالة الثبات والاستقرارا.

إن هذه القابلية للحراك والنمو توجِد حالة من الربط الوثيق بينها وبين أصل التشريع الصادر من الله سبحانه وتعالى، ومن انحرف عن المسار هم أولئك الذين تعطل جانب من جوانب الفطرة في كينوناتهم، لذا لا نستغرب ممن سمع من النبي (ص) مباشرة وكان الخطاب مباشراً له فلم يمتثل ولم يجسد في الخارج ما سمعه، لأسباب عديدة، منها ما كان واضحاً جلياً بيناً، ومنها ما كان خفياً مستوراً، إما على نحو الصناعة أو على نحو التصنع، وهذا ما ينبسط على الكثير من أبناء الجيل الأول الذين عاشوا الرسول جسداً، ولم يتمازجوا معه روحاً وجوهراً.

2 ـ كلّيات التشريع: فهذه الكلّيات أو الأصول أو القواعد، لا تجد لها نظيراً في التشريعات السماوية التي تقدمت، ولا تلك التي حاول الإنسان أن يختطها لنفسه ليصل من خلالها إلى السعادة المرجوة، سواء فيمن تقدم الرسالة، وهي أنظمة كثيرة سادت في الدولة الرومانية وغيرها، أو ما أعقب الإسلام من النظم الوضعية التي تسود العالم اليوم من الماركسية والرأسمالية، مما هو المعلوم من تقضّي من تقدَّم الماركسية، مع حالة من المرض العضال الذي يشتد يوماً بعد يوم في مفاصل الفكر الرأسمالي، فهؤلاء نظّروا، وهناك مجموعة من العقول الحكيمة المدربة التي نظّرت من أجل البعيد، ولكن حيث إن عقل الإنسان يبقى هو العقل الشخصي المحدود القدرات، فإنه لا يستطيع أن يقرأ أكثر مما يمكن أن يفترضه، سواء امتد به الزمن أو قصر، والنتيجة أن تلك التقنينات والتشريعات ماتت، ولم يبق منها اليوم إلا ما يملك كليات التشريع، وهي الرسالة الحقة التي جاء بها الحبيب المصطفى محمد (ص) وهذه الكليات أمنت للناس حالة من عدم الحاجة لتوليد ما يمكن أن يؤسس على نحو الأصل، وإنما تركت المساحة واسعة ومفتوحة أمام أصحاب العقول والأفكار أن يتحركوا في مساحة الفرعيات، سواء في الجانب الديني، بمعنى الأمر العبادي، وهذا واضح وملحوظ، أم فيما هو وراء ذلك.

3 ـ الشمولية في الرسالة الحقة، وهذه الشمولية على نحو التأصيل، أما إذا نظرنا إليها كشمولية على نحو التفريع، فربما يساعد تطور الذهنية البشرية على تحصيل ذلك، أما أن تكون الشمولية بمعنى أنها تلف جميع مناحي الحياة فهذا ما لم نعثر على نظير له في الحياة، إلا فيما هو موجود في هذه الشريعة المباركة، بحيث تتكفل القواعد الكلية العامة لمسيرة الفرد بما هو فرد، ومسيرة المجتمع بما هو نظم وتشكُّل، وأسس الدولة بما هي سلطة تشريعية وتنفيذية في كثير من الأحيان، إلى ربط ذلك بالعلاقات الدولية. وهذا ما تكفلت به الشريعة المقدسة وهذا ما نريد أن نجعله رابطاً بين ما نريد أن نصل إليه وما قدمته.

4 ـ نقد النفس: وهي جهة مهمة في هذه الفترة الزمنية من الحراك الفكري من جهة، والتنوُّر الذي يلف الكثير من مشاهد حياتنا من جهة أخرى، والانفتاح على الغير اختياراً أو على نحو الإكراه في الكثير من المواطن من جهة ثالثة، ولكننا بالنتيجة أمام هذه الحقيقة، ولا بد أن يتحرك الإنسان، ويعد الأجندة الكافية في سبيل أن يتماشى مع معطيات هذه المرحلة.

إن نقد النفس أمر مطلوب وحسن، والأمة التي لا تتيح مساحة للنقد بين الفينة والأخرى لمسيرتها، سوف تبقى واقفة من جهة، مع مساحة كبيرة للتراجع لا للتقدم، وبمثال بسيط، إن البيت المغلق على نفسه، الذي يريد أن يختط له مسيرة معينة في الحياة، ثم لا يقبل أن ينفتح وأن يضع هذه النفس والمسيرة على طاولة التشريح، أي يمارس دور النقد من الذات إلى الذات، وهو المطلوب أولاً وبالذات، تجد أن هذا البيت مع مرور الأيام يضمحل ويتلاشى ثم ينتهي.

وبتوسيع الدائرة للمجتمع بجميع تشقيقاته، نجد أن فيه جماعة تحمل النسق الأدبي، وأخرى الاقتصادي، وهكذا الاجتماعي والنفسي والسياسي وما إلى ذلك، وهذه المنظومة إذا قبلت على نفسها أن تكون في حدود ما وصلت إليه فسوف تنتهي بها المسيرة أن تلقى في مزبلة التاريخ، كما حصل مع الكثير من النظم والتشريعات التي ساست مسيرة البشر عبر هذه المسيرة الطويلة من آدم وإلى يومنا هذا، لأن التشريع كامل من حيث الأصول، لكن الموافقة والمجاراة بلا أدنى مجاملة، لم تكن بالشكل المطلوب منذ صدر الإسلام الأول وحتى يومنا هذا، والشواهد أكثر من أن تعد وتحصى.

هذه الحالة من النقد، من الذات إلى الذات، التي فَتحت مساحتها، وأصّلت لها الشريعة المقدسة، أعطت مادة أولية لأصحاب هذه المدرسة أن يذهبوا معها طرداً، أي مجاراةً للأمام، للوصول إلى ما هو الهدف، بناءً على قوة الدفع للأمام، لا للخلف، كما هو واضح وبين عند من لا يقبل بهذا التشريع المقدس الذي جاء به الرسول (ص).

لقد كان حراك الإمام زين العابدين (ع) ضمن حدود هذه المنظومة التشريعية التي جاء بها جده المصطفى (ص) يضاف إلى ذلك الالتفاتة الواضحة والبينة للمقومات أو الروافد التي على أساس منها ثُبِّتَتْ هذه التشريعات في الوسط.

إن الإمام زين العابدين (ع) عاش حالة من الإقصاء والتغييب، من الأعداء تارة، وأسبابها واضحة لا تحتاج إلى مزيد توضيح، ومن الموالي والمحب تارة أخرى، وعندما يكون التقصير من الموالي، ومن يعتقد بالإمامة، وينتظر الشفاعة على يديه في يوم الورود، تكون علامة الاستفهام كبيرة، وربما تكبر ويضاف إليها المزيد من علامات الاستفهام.

من هنا فإن الحري بنا أيها الأحبة أن نقف أمام هذه العلامة من الاستفهام وهي في أصغر حالاتها، لا عندما تصل إلى التضخم، فلا تستوعب في كتاب ولا في موسوعة ولا فيما هو أكبر من ذلك. ولتحقيق ذلك لا بد لنا أن نضع في حسباتنا جملة من الأمور:

الأول ـ أن نجدد القراءة للنص الديني، وربما لا يصرح بهذا الأمر جماعة، إلا أن هذه حقيقة لا بد منها، بأن تكون حالة من تجديد القراءة للنص الديني، لأن الغير تقدم كثيراً، وربما أحدث شيئاً من التقدم علينا في بعض المواطن، ولنكن صريحين مع أنفسنا.

إن حالة الرضا عن النفس تعتبر من المرديات، والقناعة بإبقاء الحال على ما هو عليه واحدة من العقبات التي لا بد أن نتجاوزها، فالعلم والمعرفة والتنظير ليست حصراً على من يحمل المذهبية المعينة، إنما هو شرع بين جميع بني البشر.

فلا بد إذن أن تُجدد القراءة في الخطاب الديني، فيما وصل إلينا بالطرق المعتبرة، بمعنى أن هذا المعتبر هو الذي يفترض أن نُعمل فيه القراءة الجديدة، أي أن النص الصحيح السند الذي لا غبار عليه، ولا معارض له، ولا يصطدم مع القواعد العامة، يفترض أن نتعاطاه بذهنية اليوم، لا بذهنية الأمس، فمن قرأ النص بقراءة الأمس، أو حاول أن يبقى أسيراً لتلك القراءة، فمعنى ذلك أنه مقلد وليس مجدِّداً. ونحن في مرحلة زمنية تستدعينا أن نعيش المربع الذي يحمل عنوان التجديد، لا عنوان التقليد. فمما لا شك فيه أن ذهنية الإنسان اليوم تختلف تماماً عما كانت عليه قبل مئة سنة، وما كانت عليه قبل مئة سنة تختلف عما كانت عليه قبل ذلك، وهكذا الأمر دواليك، ومن الشواهد البسيطة على ذلك من دائرة الحوزة العلمية، تطور علم الأصول، فالذهنية الأصولية تطورت ـ كما يقول الباحثون ـ ابتداءً بالشيخ المفيد، ثم ترقّت مع الشيخ الطوسي، ثم أخذت بُعداً آخر مع المحقق، ثم ما لبثت أن تقدمت شيئاً فشيئاً حتى خلّفت بقية المذاهب في مدارسها الأصولية في مساحات متأخرة جداً، حتى تطور الذهن البشري في إثبات الحراك الفلسفي الذي أحدثه صدر المتألهين، ثم جرجره، وجعل له إسقاطاً على المشهد الأصولي كوكبة من علماء الإمامية كالشيخ الآخوند الخراساني، ثم تطورت الذهنية أكثر حتى وصل إلى ما وصل إليه، فعلم الأصول اليوم في خلاصته، إذا ما قيس في جوهره، مع ما كان عليه قبل ألف سنة، فإن النسبة بينهما كنسبة العصا إلى السيف.

وما علم الأصول إلا آلة من الآلات التي يبحث على أساس منها الوصول إلى الحكم الشرعي، ومن ثم أقول: أليس الحري بنا أن ننفتح على النص ونجدد القراءة فيه؟ وقد غادرنا عاشوراء للتوّ، وسمعنا الكثير من ألوان القراءات، ولكن هل كانت الحاكمية للقراءة التجديدية أو للقراءة التقليدية؟

ولنقل على نحو الخلاصة والنتيجة: ما الذي أنجزناه من المشهد العاشورائي بناءً على القراءات،على فرض تعددها ؟

الثاني ـ رفض الدخيل: ففي الزمن السابق كنا نتحاشى القول أن النصوص الدينية فيها دخيل، من الموضوع أو المكذوب، أما اليوم فما عاد مقبولاً أن يتحاشى المرء ذلك، فهنالك مدسوس ومكذوب وموضوع ومنحول، وكلها يجمعها عنوان واحد هو (الدخيل)، في مقابل (الأصيل) الواصل عبر الطرق المعتبرة، كالصحيح والموثَّق وأمثالهما. فعلينا أن نكون صريحين في هذه الجهة.

لقد وصل إلينا من ميراث الإمام السجاد (ع) الشيء الكثير، ومن ذلك البيان السياسي الذي صدح به أمام طاغية الكوفة وطاغية الشام، وهذا البيان لم يُقرأ بعدُ كما ينبغي، ولم تُستخلص منه الدروس كذلك.

كما وصلت إلينا الصحيفة السجادية، وهي زبور آل محمد (ص) ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيْر([2])، فكم من الجميل أن نرى في بيوتنا هذا المثلث المقدس: القرآن الكريم، ونهج البلاغة، والصحيفة السجادية.

أما عن القرآن الكريم فإني أعتقد ـ وأرجو أن أكون مخطئاً ـ أن المدرسة لو لم تكن ملزِمة لنا بوجود القرآن الكريم في بيوتنا، فربما تعذَّر على بعضنا أن يكون بين جنباتها كتاب اسمه القرآن الكريم.

وأما نهج البلاغة فهو مسيرة حياة، وهو لا يعني الوقوف عند حدود معطيات مدرسة علي بن أبي طالب (ع) في الكوفة، إنما هو نهج حياة له سراية مع حياة البشر، وهو توأم للكتاب المنزل، فكلنا نقول: إن علياً إمامنا، ولكن الطريق الموصل إلى علي هو نهج البلاغة، أو لنقل إنه أوضح الطرق إليه، فلو قمنا باستبيان بسيط هنا في هذا المسجد (مسجد القائم) وسألنا عن وجود نهج البلاغة في البيوت، فكم ستكون النتيجة؟ لا شك أنها لن تكون مرضية، مع أن من في المسجد هم النخبة الطيبة المؤمنة المتنورة الصالحة، فما بالك بما وراء ذلك، كما في رسالة الحقوق وهي من تراث الإمام السجاد (ع) الذي خلفه وراءه.

إن الخطاب السياسي للإمام السجاد (ع) الذي أشرنا إليه سابقاً، يمثل الدمعة الحركية، وليس الدمعة الجامدة، فقد كانت دمعته تمرداً وثورةً وصرخة في وجه الظالم، ومن هنا نقول: إن من يبكي على الحسين (ع) يجب أن يلحظ في بكائه هذا الجانب، وأن يبكي على نفسه أولاً، ليغسلها من أدران الماضي ويهيئها للمستقبل، لا أن يعيش أهل البيت (ع) في ذكرياتهم فحسب.

لقد تكفلت رسالة الحقوق بجميع مناحي الحياة، وهي واحد وخمسون حقلاً، يبين الإمام السجاد (ع) معالمها ويفك بعض الشفرات المتعلقة ببعض تلك الحقوق.

ولنسأل أنفسنا مرةً أخرى: هل أن لدينا معرفة كافية بالله تعالى؟ وهل استعنّا بالإمام زين العابدين (ع) في معرفته، وهو الذي قدم لنا مادة غنية في هذا الجانب؟. إن الله تعالى تعالى أنعم علينا بنعم لا تحصى، وقد قال عز وجل: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوْا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوْهَا([3]) ولكن هل تلمَّسنا جوهرها؟ وما هو المترتب عليها؟

في تلك الرسالة الفذة (رسالة الحقوق) أعطانا الإمام السجاد (ع) وبين لنا الحق الأول، وهو حق معرفة الله تعالى، لأن ذهنية البشر مهما بلغت فإنها تبقى محدودة، ومن هنا فقد اكتفى (ع) بحق واحد، تتفرع عنه ملايين الحقوق على نحو الربط والارتباط. وهكذا جعل لأعضاء الإنسان حقوقاً، كالسمع والبصر وغيرهما، وهي ثمانية. ثم بين حق الأفعال كالصلاة والصوم وغيرهما من التشريعات، وهي خمسة من الحقوق، يجدر بنا أن نعود إليها فنقرأها قراءة متأنية متأملة. 

إن قراءة النص الديني ينبغي أن تمر بمراحل، أولها قراءة النص الظاهر، ثم التأمل فيه، ثم استنطاقه، ثم استخلاص النتائج منه، فإذا ما ارتقينا هذا السلّم درجة بعد أخرى، وصلنا إلى ما هو المراد، أما إذا حاولنا الخلط أو الدمج بين تلك المراتب والمراحل، فلا شك أننا سوف نقع ولن نصل إلى البغية.

إن للأئمة (ع) من آل محمد حقوقاً علينا، وقد يرى البعض أن حقهم علينا هو البكاء عليهم وإظهار العواطف وكفى، لكن هذا لا يكفي أن يكون رابطاً مع أهل البيت (ع).

وهناك ثلاثة من الحقوق التي يأخذ الإمام السجاد (ع) من خلالها بأيدينا ليبين لنا حدود ما يمكن أن يصاغ من وسائل الربط والارتباط معهم، ومن تلك الحقوق (حق الرعية)، فهذا مبتلىً بجاره، وذاك بزميله في العمل أو المدرسة، وهكذا، فإما أن نحفظ النظم والانتظام منهم، أو أن نأخذه من غيرهم، فإن كنا نريد أخذه منهم فهذا هو طريقهم ومنهاجهم.

ومن الحقوق أيضاً حق الرحم، وهو أمر مهم هذه الأيام، فقد استغرق الإنسان في الجانب المادي حتى وصل إلى مرحلة يوقف فيها الابن أباه أمام دائرة الشرطة، وتوقف البنت أمها أمام دكة القضاء، وهو ما لم يكن مألوفاً في مجتمع محافظ، فضلاً عن أن يكون متديناً، والسر في ذلك هو الابتعاد عن المنبع الأصيل، وأصبح الوعاء الثقافي يُملأ بالثقافة السمعية في التلفاز أو الانترنت، فلو أجرينا استبياناً في أي مجتمع من المجتمعات لاستكشاف نسبة الشباب الذين يتلقون ثقافتهم عن طريق القراءة، لوجدنا أن ذلك في منتهى القلة والندرة، وبالتالي فنحن مجتمع لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم لا يحاول أن يطبق، ومن ثم نرى المسيرة في تراجع.

أما حقوق الناس فجعلها الإمام السجاد (ع) ستة وعشرين حقاً، من أصل واحد وخمسين حقاً في رسالة الحقوق، وهو مجموع ما فيها من الحقوق، وبالتالي فإن الإمام السجاد (ع) يجعل القسم الأكبر منها في دائرة الإنسان، لكي يقول لنا: إن الحياة ليست رهبانية إنما هي عمل وتفاعل.

وربما يتساءل البعض منا عن أسباب غياب الطليعة الشبابية المؤمنة عن المحافل العامة بشكل واضح، والدينية بشكل أوضح، فلو نظرنا إلى هذه الحالة قبل خمسة عشر عاماً، لوجدنا أنها تختلف عما هي عليه اليوم، فقد كثرت اليوم المجالس والمنتديات، لكن الكثير منها لملء الفراغ، وليست كما كانت عليه في السابق من الحراك والنشاط والتواصل، فكأن منظومة المجتمع الأحسائي أصبحت مبضعة، فشباب كل منطقة يعيشون همهم، من الطرف إلى الجفر إلى المبرز إلى العمران إلى غيرها من المناطق، وهو ما لم يكن مألوفاً قبل عشرين عاماً، حيث كان الهم واحداً، والقضية واحدة، وهناك اشتراك وتعاون فيما بين الشباب الطليعي المؤمن أن ينهض في أكثر من موطن وموطن.

ونحن اليوم بمسيس الحاجة للرجوع إلى الماضي قليلاً، ولو قبل عقدين من الزمن، يوم كنا نرى أن من يقيم الحفل في الجفر هم عبارة عن مجموعة من الشباب من عدة مناطق، وليس من الجفر فقط، وكذلك الأمر في الطرف والمبرز والعمران وغيرها من المناطق، التي لا أريد أن أذكرها على نحو الحصر. فما هو السر في ذلك؟

إن هناك مجموعة من العوامل والأسباب، أبرزها:

الأول ـ الدعوات المشبوهة التي باتت تثار بين الفينة والأخرى من خلال أعداء الأمة الإسلامية والطائفة الحقة بالخصوص، مما أدى إلى تشويه الحقائق، وخلط الأوراق، مع عدم القدرة على ترتيبها من جديد مع شديد الأسف، وهذه الحالة من خلط الأوراق أوجدت حالة من الشك بين الوسط الديني والطليعة المؤمنة من جهة، وبين المحيط من حولها، فبات البعض يكيل للآخر ما يمكن أن يكيل، ودونك المواقع التي لم يسلم فيها حتى المقدس العرفي الذي تبانينا عليه يوماً من الأيام.

الثاني ـ غياب روح الانضباط في بعض المحافل الدينية من خلال ما يقدم، من قبيل عرض الأصول غير الصحيحة، ثم التفريع عليها والاستنتاج منها، والنتيجة تتبع أخس المقدمات، كما هو معروف في علم المنطق.

فمن أمثلة ذلك أن تأتي إلى مجلس العزاء، وأنت تتوقع أن الخطيب من خلال ما يرتّب ويفرّع، ويجزّئ ثم يركب ثم ينتزع، أنه يتصرف بعقلية الأكاديمي المتقدم في دراسته، ولكن عندما تضع يدك على المقدمة الأولى لبنائه تجد أن في البناء خللاً، وأن النتيجة غير مستقيمة. وأعتقد أن شبابنا اليوم يمتلكون من القدرة على التمييز الشيء الكثير. وهذا العامل يتولد عنه بالنتيجة عدم تحقيق ما هو مرغوب فيه من قبل أصحاب الطليعة المؤمنة.

وإليك هذا المثال البسيط جداً، وهو أننا نرغب أن نقترب من ساحة الإمام زين العابدين (ع) وهناك العديد من القنوات التي نسلكها للوصول إلى ذلك، منها التلفاز والانترنت والمجلس الحسيني الذي يستطيع أن يجمع أكبر كمٍّ عددي، خصوصاً في يوم المناسبة، لأن المناسبة هي العامل الأساسي في جمع الناس، وليس بالضرورة أن يكون الجامع هو الخطيب، نعم، قد يكون عاملاً مساعداً على ذلك، لذا نجد أننا لو جئنا بأكبر الخطباء خارج حدود محرم، فإننا لا نستطيع أن نجمع له من الناس ما يجتمع لأبسط الخطباء في محرم. ولكن لو امتزجت المناسبة بالخطيب القادر على إيصال الرسالة فهو نور على نور. 

ولو نظرنا إلى حالنا في عاشوراء المتصرم، مع هذا الحراك الكبير إقليمياً ودولياً، والمجهر المسلط على فكر الطائفة الذي لم تفك شفرته إلى اليوم، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمن، إلا أننا لا زلنا نصر على تقديم الصورة القاتمة من هذا الموروث مع شديد الأسف.

فأنت تجد في حسينية فيها ثلاثة آلاف من الحضور، وهؤلاء على أقل التقادير فيهم ثلاثمئة من المثقفين المتنورين، وهؤلاء يأملون من الخطيب، ويتوقعون منه ما يتناسب ووضعهم الثقافي، وإذا بالخطيب يصعد المنبر، ويبحث في فلسفة انحناء القاسم يوم عاشوراء لشد شسع نعله، ويستغرق في ذلك مجلساً كاملاً.

إنني أقول هذا الكلام وأنا أشعر بالمرارة، فالواقع مُرّ، والمتكلم لا يستطيع أن يعترض ويقول: لا، لأن مصيره سيكون مصير من مضى ومن بقي، ممن عارض وانتقد.

وفي ليلة ثانية تجد خطيباً آخر يتأمل منه الشباب الكثير، والنفوس مهيئة لذلك، وعلى استعداد تام، لكنه يتناول قضية الأكبر وأمه ليلى بشكل موسع. والحال أن وجود ليلى في الطف وعدم وجودها محل نقاش طويل، وكثير من المحققين ينفي وجودها يومئذٍ، وهو ما عليه العمدة في التحقيق.

وعلى فرض وجودها في ذلك اليوم ـ ونحن نتبرك بالتراب الذي يتساقط من أقدامها ـ فهل من المعقول أن تكون أقرب إلى الله من الإمام الحسين (ع)؟ ولو تنزلنا وقبلنا بذلك، باعتبار أن فيه درساً للأمهات أن يدعونَ لأبنائهن، لكن أليس من المعقول جداً أن نحفظ حرمة ليلى؟

يقول هذا الخطيب: دخلت ليلى خيمتها، واستقبلت القبلة، ونشرت شعرها، وشقت جيبها، ورفعت ثدييها إلى السماء. فهل يصح هذا منها؟ وهل لدينا في الدين مثل هذا الطقس؟

وإن كان التعرض لمثل هذه المشاهد من أجل استدرار الدمع، وإثارة البكاء، ففي قصة الإمام الحسين (ع) من المشاهد المؤثرة المروعة ما يغني عن ذلك، فلا نحتاج أن نمتطي مطية التمثيل لاستدرار الدمع، بل إن ذكر الحسين (ع) بمفرده يستدر الدمع ويقرح الفؤاد.

وختاماً أقول: أيها الشاب المؤمن الطيب، لا تعتقد أن المسؤولية ألقيت عن عاتقك، فهي لا زالت معلقة في رقبتك، وإذا كانت الحسينية فيما سبق تُسيَّر بصوت الرجل الواحد الولي، فما عادت هذه القضية تحظى بقبول في وسط مجتمع اليوم، نعم، ليبقَ الولي في موقعه كما هو، إلا أنه موقع تشريفي، أما الإدارة الفعلية فينبغي إلا تكون بيد الولي الذي أخذها وراثة أباً عن جد، أو وصلت إليه من خلال تنصيب من حاكم شرعي، فهذه الأمور تضمن لنا جانب الوثاقة والعدالة في الولي ليس إلا. فعندما يكون لدينا كمٌّ هائل من الشباب المؤمن الطليعي، فإننا لا يمكن أن نوجد حالة من الانسجام التام مع أهل الثمانين سنة من العمر، وبالتالي لا نستطيع أن نطالب الشباب المؤمن الطليعي أن ينهض بدوره، لأن المساحة مغلقة أمامه.

وكذا الحال في المساجد، وقد سمعت عن هذا المسجد شيئاً نسبياً من التعريف يوماً من الأيام، وأسأل الله تعالى أن يكون ذلك بذرة على مسار التصحيح في مجتمعاتنا، ونحن اليوم في مسيس الحاجة للمساجد المفتوحة التي تقبل جميع ألوان الطيف من حولها، فعندما ندخل مسجداً في الطرف أو الجفر أو المبرز أو من أي منطقة أخرى، نشعر أن هذا المسجد يخصنا نحنُ جميعاً. وعندما يدخل المسجد من لا يتفق معنا في التقليد، يجد أن المسجد هو مساحته التي يتحرك فيها، وبذلك يتحقق النجاح، وهذا منوط برجال الدين واللجنة القائمة على المشاريع الدنيا في المساجد والحسينيات، وثقتنا في هؤلاء كبيرة جداً، بل هي أكبر من ذلك، ونسأله تعالى أن يأخذ بأيديهم ليأخذوا بالمجتمع من حولهم.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، ورزقنا جميعاً شفاعة زين العابدين (ع) والحمد لله رب العالمين.