نص خطبة: مدرسة الإمام الصادق (ع) وانفتاحها على جميع النحل

نص خطبة: مدرسة الإمام الصادق (ع) وانفتاحها على جميع النحل

عدد الزوار: 2161

2015-09-06

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسول الله وآله ومن والاه، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على من عاداه.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

قال الإمام الصادق (ع) في رسالة موجهة إلى أصحاب الرأي والقياس في وسط الأمة: «وقالوا: لا شيء إلا ما أدركته عقولنا، وعرفته ألبابنا، فولاهم الله ما تولوا وأهملهم وخذلهم حتى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون، ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادَّعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلاً لما بينهم ولا زاجراً عن وصفهم»([2]). 

مرت بنا ذكرى شهادة الإمام الصادق (ع) هذا الإمام الذي علم الأمة فنون التشريع والتعامل مع النصوص الصادرة من قبل الشرع في مساريه السماوي في الوحي القرآني، وفي مساره الأرضي في البيان والبلاغ المتمثل في السنة المطهرة.

ومدرسة الإمام الصادق (ع) تعتبر أثبت المدارس التي وضعت قدمها على صماخ التاريخ، وأخذت بيد الأمة إلى مدارج الكمال والرقي. وعناصر القوة في هذه المدرسة الجامعة الحاضرة كثيرة، أقف على شطر منها مراعاة للوقت:

1 ـ الانفتاح العلمي:

لقد انطلق الإمام الصادق (ع) من خلال عنصر مهم مكوِّن لأبعاد مدرسته، ألا وهو انفتاح المدرسة على جميع أبناء الطوائف والنحل من حوله. فكلنا يعرف أن دولة بني العباس جاءت على أنقاض دولة الأمويين، ولكل دولة في هذا الوجود سياساتها الخاصة بها التي توصلها إلى ما تأمل الوصول إليه، من المكاسب تارةً أو المصالح تارةً أخرى، ولا أقل من حفظ الذات والكينونة، وهي حقوق مشروعة إذا ما قيست بمقايسسها الواقعية.

من هنا نجد أن بني العباس ارتأوا أن اجتماع الأمة على أمر واحد يعني ضياع الدولة من أيديهم، ونكوص الرؤوس التي وصلت إلى سدة الخلافة فيها إلى الوراء، بل وربما انتهت بهم الحال إلى مزبلة التاريخ بشكل سريع. لكن الظروف كانت تتماشى أيضاً مع رغبات معينة، لذلك غرست في وسط الأمة مسارات النحل والطوائف والمجاميع، وبُثت ودُفع لها الكثير على أساس قاعدة (فرِّق تسُد) بين الناس، والواعون من أبناء الأمة هم النخبة الذين يقرأون الأحداث ويستنطقون ما وراء السطور، وهم الذين يتجردون عن العصبية ويضعون أيديهم على مناطق الضعف والقوة لكي يمايزوا ويفرزوا فيما بينها، ليرتبوا بعد ذلك ما يوصل إلى هدف سامٍ وغاية عظمى.

هذه النخبة لم تكن معدومة في مسار الأمة، بل كانت موجودة، غاية ما في الأمر أنها كالبحر في مدّه وجزره. فالظروف أحياناً تهيّئ الأسباب، فيصل من يصل إلى الضفة المنجية، وأحياناً تقف العوائق دون ذلك فتتعثر أو تنكفئ أو تستسلم أو تُستأصل، كما حصل للكثير من المسميات، وما على أحدنا إذا أراد أن يستنطق إلا أن يعود إلى الوراء قليلاً، ليقرأ ما كُتب في الطوائف والنحل، ليجد أعلاماً وأقلاماً وأناساً لهم قيمتهم ومقامهم في أوساطهم، كلٌّ انطلق من الدوافع والنوازع التي تتجاذبه ذات اليمين وذات الشمال.

أما الإمام الصادق (ع) فقدم أنموذجاً رائعاً في الانفتاح على جميع ألوان الطيف من حوله مهما كانت تلك الأسماء والمسميات تكتنز في داخلها من أمور، ومهما كانت تشي به من أمور أخرى. فكان (ع) سيد النخبة ورمزها الأول، لذا تعالى على الجراح، وطوى الكثير من الصفحات التاريخية المؤلمة ليصل بهذه الأمة إلى ما عاشته من واقع استقراري، يدلل عليه أن أكبر نتاج فكري وعلمي وأدبي وثقافي ظهر في تلك الفترة، إنما تربع على رأسه هذا الإمام العظيم.

إننا يمكن أن ندلل بالكثير من الشواهد على مسلك الانفتاح عند ذلك الإمام وسعة الأفق عنده، وهذه دعوة لمن يقول: أنا شيعي جعفري أسير وفق نهج ومعطيات هذا الإمام العظيم، أن يتمثل طريقه ويسير على هديه وينفتح على الآخرين من حوله، لتكون التبعية للإمام تبعية مقبولة صحيحة. أما أن ندّعيها ثم لا نتماشى ولا نتماهى مع ما كانت تحدثه في وسط الأمة، فهي دعوى ليس عليها من دليل.

أيها الأحبة: نحن في منعطف خطير وفي أمس الحاجة أن نستنطق ذلك الدور، وأن نستحضر الإمام الصادق (ع) في ذاته، لنجعل منه الكعبة التي نُيمِّمها في أفكارنا وتوجهاتنا وانفتاحنا على الآخرين، فالانغلاق لا يولّد إلا ضياعاً ودماراً وشتاتاً وهدماً لكل البنى الحضارية والاجتماعية والمدنية.

2 ـ تعدد الأغراض والمعارف:

ومما يميز تلك المدرسة العظيمة تعدد الأغراض والمعارف وتنوعها في جميع الأبعاد، وهو سمة قوة وعنصر تكامل كان يعطي لتلك المدرسة الكثير من القابلية على البقاء والاستمرار، ولو أننا أقصينا هذا العنصر أو انتزعناه لما كتب لنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، من رشد وتكامل ووعي واضح، وأنتم تدركون العقبات التي اعترضت الطريق.

كما كانت أبعاد مدرسته تجمع بين مسارين: مسار العلوم الإنسانية الصرفة، واللاهوتية التي جاء بها النبي محمد (ص). ففي عهده كانت الفلسفة تهيئ الأمر لتسيير المشهد كيفما شاء، لذلك راج للقياس والرأي سوق، وتعددت أسواق أخرى لمن غرسوا مبدأ الاجتهاد بعيداً عن روح النص. ومع شديد الأسف، نجد اليوم في هذه الأزمنة، مع ما نحن عليه من انفتاح على الكون من حولنا نتاج تقنية عالية الجودة، أننا بتنا نتعاطى هذا المفهوم (الاجتهاد) لا على أساس ما وضع له، وما كان يُتوخى أن يصل من خلاله، إنما تنكبنا الطريق، ورحنا نخدش خدش الأعمى، فكان نتاج ذلك ما ترون اليوم من مشاهد دامية بسبب فتاوى يسوَّق لها هنا وهناك، لهدر دماء المسلمين أينما كانوا وتحت أي سقف كان، فما عاد المسجد يعصم أرواح المسلمين، وهل المسلم إلا من سلم الناس من يده ولسانه؟ فلا يكفي أن يقول القائل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يهرق دماء المسلمين، ويبتزّ أموالهم، ويستفز أعراضهم، ويساوم على كرامتهم. مع أن قاعدة: «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه»([3])، قاعدة أطلقها النبي الأعظم محمد (ص).

فالإمام الصادق (ع) لم يغلق الباب أمام المسار في العلوم الإنسانية، وعلى رأسها وفي مقدمتها المنطق والفلسفة، لكن العمدة والأساس والركن الركين الذي يلجأ إليه العالم الذي يحمل مسؤولية، إنما هي العلوم ذات الطابع الإسلامي الأصيل التي تعيش عمقاً قرآنياً وانفتاحاً حديثياً. فعلمٌ قوامه هذا، ويسانده ذاك، هل ترى أن الأمة فيه تعيش إلى الوراء، أو تستحسن هدر الدماء، أم أنها تقود العالم نحو السمو والارتقاء من حولها؟

قليل من الالتفات إلى الوراء يعطينا الكثير من قوى الدفع أن يكون الأبناء أبناء أولئك الآباء والأجداد، الذين سافروا بفكرنا الإسلامي إلى أبعد المسافات. فدولة بمستوى أندونيسيا، التي يبلغ سكانها أربعمئة مليون نسمة، لم تُسلم بضربة سيف، ولم يهدر فيها ملء محجمة دم، إنما أسلمت تلك الدولة العظمى في مكوننا الإسلامي بسبب معاملة تجارية بين شخص من جزيرة العرب وآخر من (جاوه) كان المسلم يلتزم له بما بين عليه من مال، فكان يسأله عن العاصم من الامتناع، فيجيبه أن العاصم هو الإسلام، والكفيل محمد (ص).

هكذا كان الحال أيها الأحبة عندما كان الناس يعيشون المفهوم واقعاً حركياً بين أوساطهم، لا بلقلقة اللسان والتغني في المجالس هنا أو هناك.

إذن كانت المزاوجة بين المنبعين هي التي أعطت الزاد والقوة لأولئك الذين عاشوا إسلامهم نقياً صافياً مصفىً من كل كدر، لم تعبث به الأهواء والأغراض الشخصية والحزبية والنوعية والفئوية من هنا وهناك.

3 ـ الابتعاد عن القرار الرسمي:

ومن مميزات مدرسة الإمام الصادق (ع) أنه نأى بها عن القرار الرسمي، وكان لا يحسب نفسه على سياسة تُسيِّس أموره هنا أو هناك، لذلك قطع الارتباط المادي بالحكومات وإن تمظهرت بمظهر الانتماء لمدرسة أهل البيت (ع) وإلى يومنا هذا، نجد علماءنا ومراجعنا وقادتنا وكبراءنا ينأون بهذا المكون المقدس (الحوزة العلمية) عن القرار الرسمي الحكومي. وهو مكوِّن مقدس بالمعطى اللغوي والعرفي الذي نتعاطاه ونتماهى معه، لا بمعطى التأصيل الشرعي.  

أبى علماؤنا أن تُلقى الحوزة في أحضان سياسات الدول، وإن كانت من أبناء المذهب الذي تنتمي إليه الحوزة، لا لشيء إلا أنهم يريدون للفتوى أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى، فمتى ما سُيست الفتوى، أو طرحت في يد من لا يستحق، فما وراء ذلك إلا الضياع المبين.

4 ـ العمق الفكري:

ومما امتازت به مدرسة الإمام الصادق (ع) العمق الفكري من البحث الطولي والتوسع العرضي. أما الأمر الأول فواضح وبين، فالأحكام التي وصلتنا وفق نصوص معتبرة عنهم (ع) هي فتاوى وآراء ونصوص وأحاديث لا نستطيع أن نغمز فيها. نعم، هنالك كمٌّ لا يستهان به من الأحاديث المدسوسة أو الموضوعة والمصطنعة والمخترعة، لا لشيء في قسم منها إلا لتكون حبائل لاستنتزاف ما في جيوب الناس، وهذا أمر واضح وبيِّن وصريح لا مواربة أو مساومة فيه، فهو حالة من المرضية التي لا بد أن تُشخص ويوضع لها العلاج الذي يتناسب مع واقعها.

فالإمام الصادق (ع) في هذا الجانب كان دقيقاً، بل في منتهى الدقة والعناية، فعندما يعطي حكمه لرجل جاء من الكوفة يختلف في ظاهره ويتحد في جوهره مع آخر جاءه من الريّ، لكي يدلنا على ما للشخص من أثر في تشكيل الحكم، وما للزمان من أثر، وما للمكان والجهة من أثر، وما للقضية المحمولة من أثر، وما يكتنفها من آثار.

يدخل أحدهم عليه فيسبغ الوضوء، فيشجعه الإمام على ذلك الفعل. وينبه آخر على إحسان الوضوء وإتمام الصلاة، وهكذا.

لاحظوا أيها الأحبة أن الإمام الصادق (ع) كان يتحرك على أساس من العمق، وفي الوقت نفسه على أساس العرض والبسط كي يرفع غائلة الجهل ويضع النقاط على الحروف، ويأخذ بأيدي المكلفين إلى ساحل النجاة بعيداً عن روح الاستعراض.

إمام الوحدة الإسلامية:

إننا لا نريد منبراً استعراضياً، ولا منصة استعراضية، فقد ولى زمن الاستعراض وانتهى، ونحن اليوم أمام واقع جديد، وينبغي أن نعيشه وما يتماشى والواقع الذي نعيشه. فعلينا أن نكون صريحين واضحين بينين، لا تأخذنا في الله لومة لائم في أي ملف من الملفات.

لقد حمل الإمام الصادق (ع) في هذه الحوزة لواء الدعوة لوحدة المسلمين فيما بينهم. وأنا أسأل الكثيرين: لماذا لا تستعرضون الكثير من الأحاديث الواردة في هذا الصدد، ولا تجعلونها زاداً للأمة، وتتشبثون بروايات اللعن والتنفير؟ لماذا لا تطرحون روايات المحبة والأخوة والتعاون، والصلاة في مساجدهم، والعيادة لمرضاهم، والشهادة لهم وعليهم، كما في نصوص محمد وآل محمد (ص)؟.

لماذا نستعدي الناس من حولنا؟ ولصالح من نستعدي الآخرين؟ إننا نقدم بذلك مادة سهلة التعاطي لخصوم الجميع من الدواعش وغيرهم، ممن تلوثت أيديهم بالدماء الزكية من مدنيين وعسكريين. فأي مكان مقدس سلم من أيديهم الآثمة؟

نحن نقول لهؤلاء: والله مهما كلف الثمن، أنتم أقل وأذلّ وأرخص بضاعة من أتمنعوا المؤمنين من ارتياد مساجدهم والقيام بمسؤولياتهم مع من يجب القيام بها معهم.

أما بلادنا فهي في أيادٍ أمينة حريصة على حفظها، بل أكثر مما نعيشه نحن من الحرص، فهنالك عيون ساهرة، ننام ويسهرون، ونهدأ ولا يسكنون، يدفعون الكثير من أوقاتهم وجهدهم وراحتهم في سبيل أن نرتاح نحن، ومن أجل أن يسلم هذا الوطن العزيز. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلادنا، وأن نعيش كما كنا آمنين، وأن يقطع دابر السوء وسراطين الجراثيم المتوزعة في أكثر من مكان، وأن يحفظ الإسلام والمسلمين في أي نقطة من نقاطه.

اللهم اجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين آمنة مستقرة، واجعل المسلمين آمنين مطمئنين لا يخافون شيئاً.

نسأل الله سبحانه أن يكتب لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.