نص خطبة: مدرسة الإمام الرضا عليه السلام في مواجهة الانحراف

نص خطبة: مدرسة الإمام الرضا عليه السلام في مواجهة الانحراف

عدد الزوار: 2584

2015-09-06

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

بارك الله لنا ولكم ذكرى ميلاد الإمام الثامن من الكوكبة النيرة من آل محمد (ص) وأعاد الله علينا وعليكم المناسبة العظيمة ونحن عند قبته النوراء.

 

بالرضا من آل بيت المصطفى   ثامن الأشباح في نص الرسول

أشرق الكون بما خُصَّ به       سيد المشرق من نور البتول

في خراسان وما حاط بها    من بلاد النهر أصحاب العقول

قبة نوراء تحوي قمراً           فيه للنفس عروج ووصول

ما دنا منه محب صادقٌ       إلا عاش الفوز من قبل النزول

طيب الأعراق طابت نفسه    مصدر اللطف وعنوان القبول

سيدي فاقبل بها يا سيدي     من عُبيدٍ سامه عذل العذول

فأنا منكم وفيكم وبكم        أقرأ الأوراد في حال الذهول

وأصلي الفرض في جنح الدجى    كي أنال الأجر فيما قد أقول

فلهذا قلتها من بعد ما        طربت نفسي وأغراها المثول

كبروا صلوا أعيدوا شرفاً        لفظة الإيمان من أجل الرسول

أبرز المحطات في حياة الرضا (ع):

للإمام الرضا (ع) أدوار عدة عاشتها الأمة في شخصه قبل ولاية العهد وبعدها. فقد واجه الإمام (ع) خطاً فكرياً منحرفاً في وسط الأمة، فأراد أن يقومه وأن يعيد المسيرة إلى الطريق الصحيح. فهنالك توجهات عدة تتراوح بين الشدة والضعف، والعلانية والسرية، لكنه كان يشخّص ثم يضع علاجاً مناسباً.

لقد استغرقنا الكثير من أوقاتنا في جماعاتنا الباحثين والمتحدثين والدارسين والمحققين حول ولاية العهد، وهي لا تمثل جوانب شخصية الإمام (ع) كلها، إنما تمثل مرحلة معينة مر بها، حال أنه كان جامعة كبرى، بل هو الحبل المتين الواصل بين الأرض والسماء، فمن أراد أن يهتدي بهديه، ويسير على نهجه، ما عليه إلا أن يقترب من حياته من خلال ما دُوِّن وسُطِّر من جميع أتباع المذاهب. إذ انحنت الرؤوس أمام عظمته وعلو مقامه، فقد تحرك بالعلم في أوساط الأمة وأبحر بها في الكثير من الآفاق من حوله. وهو كغيره من آبائه كانت المهمة الأولى التي يضطلع بها هي إصلاح شأن الأمة، لذلك تحرك جاهداً في أن يضع الحلول الناجعة المتماشية مع حاجيات أبناء الأمة، فخطا بها خطوات، ولكن تولدت بعض الاتجاهات المعيَّنة التي حاولت أن توجِد لها نفوذاً وتغلغلاً، بل الأكثر من ذلك أن توسِّع من دائرتها ضمن الدائرة الكبرى، لكن الإمام (ع) كان لها بالمرصاد، رغم أن بعض تلك التوجهات كانت تعتمر عمَّة مدرسة أهل البيت (ع) وترتدي بردائها الظاهري من أجل الوصول إلى أهدافها ومآربها لحرف الاتجاهات عن الهدف.

نماذج من الانحراف في عصره (ع):

ففي حديث للإمام الرضا (ع) كما في عيون أخباره يقول: «إنَّ مخالفينا([2]) وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع الناس الغلوَّ فينا كفَّروا شيعتنا وسَبُّوهم ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا([3]). وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا. وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا. وقد قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ فَيَسُبُّوْا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾([4])»([5]).

هذه بعض الدروس التي لا بد أن نأخذها ونحن نعيش ذكرى المولد أو الشهادة في حياتهم، ونحن في منعطف خطير جداً، لا ندري إلى مدى سوف يصل، أو في أي محطة سوف يتوقف.

إن مقاماتهم (ع) في منتهى الحساسية والدقة، فعلى كلٍّ منا أن يلتفت إلى ذلك ويستعين بروايات محمد وآل محمد (ع).

ضرورة احترام الآخر:  

لو ألقينا نظرة على هذه الخطوط الثلاثة لرأينا أن خط الغلو اليوم بات ينحسر، ومسار التقصير بات مقتصراً على نفسه، لكن المسار الثالث هو المسار الفاعل الظاهر. وهو مسار خطير جداً، يتمثل في ذكر مثالب الغير، مما يتسبب في تطاول الغير على أئمتنا (ع).

قبل سنوات من الآن ما كنا نسمع من تحدثه نفسه أن ينطلق من لسانه ما ينال أحداً من رموزنا بسوء، ولكن عندما أصبح التعرض للرموز الأخرى في العراء والهواء الطلق بات الأمر سهلاً على الآخر أن يتناول أولئك الرموز.

لقد زُرع أولئك النفر في أوساطنا، وهم ليسوا منا ولا نحن منهم، إنما ابتلينا بهم وامتُحِنَّا بوجودهم، وعلينا أن نعلن الرفض لكل ما يصدر من هؤلاء، لأنه يصطدم مع ما صدر عن أهل البيت (ع) وتربيتهم لشيعتهم. وعلى من أراد أن يكون داعيةً صادقاً في دعوته أن يُمسك بجوانب الجمال والكمال في من ينتمي له، وأن يوضح أبعاده للآخر، أما أن ينال من الآخرين فهذا ما تحضره الشريعة.

بل الأكثر من ذلك أن هذا المسلك كان فاعلاً في حياة المسلمين مع غيرهم، وذلك عندما كان المسلمون مجتمعين أمةً واحدة لم تنقسم على نفسها، وكان العدو واحداً يتمثل في جانب واحد هو الشرك، فقد أراد الإسلام لأتباعه أن ينأوا بأنفسهم أن ينالوا آلهة القوم بسوء، كي لا تصل النوبة أن ينال أولئك من رب العزة جلت قدرته.

لذلك علينا ـ أيها الأحبة المؤمنون ـ أن نكون حذرين يقظين لكل ما يراد له أن يحدث شرخاً عميقاً أو انشقاقاً وسط الأمة، فكلٌّ يأتي ويمضي ولا تبقى سوى الحقيقة، ومنطلق الحقيقة تكفلت به يد العزة: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيْهِمْ﴾([6]).

حقيقة الانحراف وأقسامه:

من واقع هذا الحديث الشريف يتضح لنا أن للانحراف عناوين متعددة في زحمة الصراعات الداخلية والخارجية وما هو واقع بينهما.

فالانحراف لغةً: هو الميل والعدول والمجانبة. وأما في الاصطلاح: فهو الميل أو الجنوح الفكري والمخالفة لدين المجتمع، وما يؤمن به من قيم وأخلاق وثقافة سائدة. فإذا تجاوز الإنسان تلك الحدود وقع في دائرة الانحراف، واختطّ لنفسه إطاراً خاصاً به، وعليه أن يتوقف ويراجع الحسابات، وأن يلتفت إلى الوراء، وأن يرمي ببصره أقصى القوم.

وللانحراف مصاديق عديدة، أبرزها الانحراف الفكري، وهو الذي عمل الإمام الرضا (ع) أن يغلق الأبواب أمامه ويوصدها، لكن النفوس المريضة تأبى إلا أن تحدث شرخاً بين الفينة والأخرى.

وهنالك انحراف عقدي، ويخطئ من يعتقد أن بين الفكر والاعتقاد ترادفاً، فهذ الكلام غير صحيح، وبعيد عن الدقة والتركيز على معطى اللفظ، فالفكر أوسع دائرة من الاعتقاد.

وثمة انحراف سياسي، وهو الذي يُدخل الشعوب في الجحيم، ثم يعود ليجهز على أرباب مساره، وبقراءة سريعة لدول دالت ثم انحلت، من دول الملوك والسلاطين والأكاسرة والقياصرة والخلفاء نجد الانحراف السياسي حاضراً في حياتها ومسيرتها. وهكذا دالت الممالك وانقرضت، ولله الملك وحده: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾([7]).

وهنالك أيضاً انحراف سلوكي، وقد يتصور البعض أن الانحراف السلوكي في الجانب الجنسي فقط، وهذا تصور خاطئ واضح، وإن كان هذا من أجلى مصاديق الانحراف السلوكي، إلا أنه ليس محصوراً فيه، إنما يشمل الكثير.

وثمة انحراف اجتماعي، وهو في منتهى الخطورة، لأنه يتقوَّم بأفراد. وقد يتصور البعض أيضاً أن القضية تكمن في جانب، وهو إذا ما حصل انحراف في وسط الأمة، غير أن الواقع خلاف ذلك، فالأسباب والعناصر تتشكل فيما بينها، ومع مرور الأيام تلتحم وتتزاوج وتفرّخ، ودونك النتاج.

إن أفضل موقع يمكن أن يناور عليه في حفظ المجتمعات من الانحراف هي الأُسَر، فإذا صلح الأب والأم كان النتاج صالحاً، وهل المجتمع إلا مفردات انتزعت من خلال هذا؟

أيها الأحبة: إذا كنا في الماضي نعطي من جهدنا ووقتنا وقدراتنا لأبنائنا نسبة مئوية معينة فعلينا أن نرفع من تلك النسبة.

لقد وقفتُ اليوم على استنتاج مخيف مرعب، لقراءة ومتابعة من قبل أحد المتخصصين الدكاترة يقول فيه: قبل خمس وعشرين سنة كانت نسبة التأثير للأسرة في بناء الأبناء تصل إلى 75٪ والباقي تتقاسمه المدرسة والعمل والشارع وغيرها. أما اليوم فإن آخر الدراسات تقول: إن بناء الإنسان في فكره وتوجهاته وثقافته وآدابه ومعطياته يأخذ فيه الإعلام نسبة 80٪ وهو الإعلام الذي يتمظهر بمظهر الاستقامة، أما الإعلام المنحرف فلا يتجاوز أكثر من 10٪! فماذا بقي للآباء والأمهات؟ أليست هذه معادلة مخيفة وصرخة مدوية؟

الاقتداء بالإمام الرضا (ع): 

لقد تحرك الإمام الرضا (ع) في سبيل الإصلاح كآبائه وأجداده، فهل أننا اليوم نحاكيه في تلك الحقيقة أو أننا نتجنب طريقه؟ ماذا لو كنا في عهد الإمام؟ هل سنكون أفضل ممن عاش قريباً منه وتردد عليه؟

وبمقاربة بسيطة جداً، أن بعضنا يذهب لزيارة المعصومين (ع) في النجف الأشرف أو كربلاء أو غيرهما، ومن ضمن البرنامج المعمول به اليوم ـ وهو من الأمور المستحسنة ـ أن يقوم بزيارة المرجع الذي يرجع إليه، أو بعض المراجع الذين يذهب للتبرك بهم. والسؤال: هل يكفي للزائر أن يعود إلى بيته فيقول: قمت بزيارة المرجع الفلاني؟ أليس عليه أن يسأل نفسه عن الإضافة التي أضافها لنفسه وروحه وسلوكه وتوجهه وقراءته؟ فلا يكفي أن ندخل على مراجعنا ـ أيدهم الله ـ من أجل أداء الرسوم المتعارف عليها، إنما علينا أن نأخذ منهم ولو كلمة واحدة نستضيء بها في هذه الحياة المظلمة.

فالمرجع الأعلى للطائفة ـ أيده الله ـ يصيح آناء الليل وأطراف النهار من أجل الوحدة، وأن نعيش جميعاً من أجل السلم والمحبة، وأن نحمل أرواحاً شفافة في التعاطي مع الآخر، فهل أن ما يجري اليوم يتماشى مع هذه الدعوة المباركة من سماحته؟ أم لا زال هناك من يخدش تخديش الأعمى، ويتجاوز الحدود؟

الموقف من الانحراف:

هؤلاء الجماعة ينقسمون إلى ثلاث فرق:

1 ـ أصحاب التنظير المثالي: فهؤلاء يطرحون في مجالسهم واستراحاتهم الأحداث والأخبار، ثم يحللونها حيث شاؤوا، ويحلّقون حيث شاؤوا، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ليس سوى دائرة التحليق التي يعيشها حتى فاقد الوعي في منامه. فالتنظيريون وأصحاب (لو كان كذا لكان كذا) ليس لهم نصيب سوى ذلك. فأشكالهم جميلة، ونبراتهم عالية، ومفرداتهم منمقة، وربما تبنى أفكارهم على بعض المقدمات الجيدة، ولكن ليس وراء ذلك شيء.

2 ـ المرجفون: وهؤلاء لا يختلفون عن القسم الأول من حيث التنظير، إلا أنهم حاولوا ملامسة الواقع، ولكن بحذر شديد، فليس لديهم الاستعداد أن يضحوا ويدافعوا حتى عن عوائلهم وشرفهم وجماعتهم ودينهم ووطنهم، إنما يعيشون الشحَّ في داخلهم، لذلك يقومون بالتنظير، حتى إذا ما اقتربوا من الواقع تراجعوا. فهم أصحاب الإرباك والإرجاف في وسط الأمة.

3 ـ الصادقون: وهم الجماعة التي اختارت لنفسها النزول إلى وسط الأمة مهما كلفها ذلك النزول من ثمن، لأنها شخصت الهدف.

تواضع الإمام الرضا (ع):

أيها الأحبة: الحديث في هذا الجانب طويل، وكان بودي أن أتناول جميع جوانبه، إلا أنني قبل أن يدركني الوقت أود أن أذكر شيئاً عن الإمام الرضا (ع) قبل أن ينقضي الوقت، وهو أن الإمام الرضا (ع) كان في منتهى التواضع، فلا يرى في نفسه ما يستوجب رفعةً على الآخرين.

دخل ذات يوم إلى الحمام، فالتفت إليه أحدهم قائلاً: دلّكني! فقام الإمام الرضا (ع) بتدليكه. فدخل في الأثناء رجل آخر، فألقى التحية على الإمام (ع) بما هو أهله، فانتبه ذلك الرجل الأول لما بدر منه، وأنه تجاوز الحدود في طلبه من الإمام، لكن الإمام (ع) أصرّ إلا أن يتمّ عمله.

هؤلاء هم أئمتنا، وهذا هو سلوكهم، فما هو حالنا نحن؟ هل أننا نعيش حالة من التواضع؟ أو نعيش حالة من الاستعلاء والتكبر والتجبر على الواقع من حولنا؟

إن أحدنا إذا أخطأ لا يرضى لنفسه أن يكون في دائرة الخطأ، مع أن جميع بني آدم خطّاؤون، فمن منا لا يرتكب الخطأ؟

وقبل أن أختم الحديث أتقدم بهذه الأبيات لسيدي ومولاي الإمام الرضا (ع):

نور قدسٍ لاح في أفق السماء    أشرق الثامنُ من أهل الكساء

فيه رسمٌ لم يشخَّص بُعدَه    في مقام اللطف إلا الأنبياء

فيه من أحمد سرٌّ شُفِّرت      منه أسرارٌ بها يحلو اللقاء

وعلي الأصل في نهج التقى   قاسم الأضداد في يوم النداء

وجمال الكون بنت المصطفى    كعبة الأحزان أم الأوصياء

فاطمٌ بنت الهدى من هديها    يدرك الإنسان معنى الاصطفاء

والإمام السبط نبراس التقى      حسن الأوصاف عنوان الوفاء

والحسين السبط مصباح الهدى   مضرب الأمثال مصداق الفداء

جنةٌ عظمى وكأسٌ مترعٌ         فيها للإنسان شوق وانتماء

ما طرقت الباب يوماً سيدي   أشتكي الأوضاع في لحن الدعاء

بل أصلي مثلما صلى هنا      سيد الأكوان في هذا الفضاء

أسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.