نص خطبة: لماذا نعيد دراسة التاريخ؟ (3)
مولى المؤمنين:
أخرج العصامي في زين الفتى، في تفسير سورة هل أتى، في المجلد الأول، أن عمر قال وهو يشير إلى علي (ع): هذا أعلم بنبينا وبكتاب نبينا.
وعن هارون الحضرمي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله (ص) من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب([3]).
مع الإمام علي (ع) في ذكرى عيد تتويجه بالولاية، فهو من النبي (ص) كنفسه وكفى، فلا تبحث عن مزيد فضلٍ هنا أو هناك، فما تكفلته السماء، وما تضمنه القرآن الكريم ما بين الدفتين فيه غنى.
يقول تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ~ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾([4])، فهذه الآيات من سورة الشرح، نزلت على قلب الحبيب المصطفى (ص) ومباركة، وهي سورة فيها من الدلالات على ما نحن في صدده الشيء الكثير.
فقد روى الحسكاني عن الإمام الصادق (ع) في شواهد التنزيل، في المجلد الثاني، في تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾، أي انصب علياً للولاية([5]).
فالإمام علي (ع) عظمة في جميع حوانبه، ويكفي المسلم، والمؤمن على وجه خاص، أن يضاف إلى علي (ع) فيقال عنه: (علوي). أو يُدرج تحت الصفة التي تشير إلى الانتماء لعلي، فيقال: شيعي، أو رافضي. وقد أشرت في يوم ما، إلى المعطى من لفظ (الشيعي) ولفظ (الرافضي).
قراءة التاريخ:
وأعود هنا إلى ما كان الحديث عنه سابقاً من إعادة قراءة التاريخ، وهو الموضوع الذي قَطَعنا عن إكماله مرور بعض المناسبات، وبما أننا في رحاب علي (ع) لا يَسعُنا إلا أن نؤكد أن علياً (ع) أبرز ضحية للتاريخ، فلو فتشت عن ضحية تاريخية فلن تجد من هو أكثر منه تعرضاً للظلم، وهو الإمام المفترض الطاعة، والرمز العظيم، الذي لولاه ما قام الدين، ولا استقام له ركن. فتارة بسيفه، وأخرى بعلمه، وثالثة بصبره، وهو السلاح الماضي الذي أفشل الكثير من المشاريع التي لو لم يواجهها بصبره، لذهب الدين أدراج الرياح، ولذهبت جهود النبي محمد (ص) والدماء الزكية التي رويت بها شجرة الإسلام سدىً. فنحن أمام مثلّث مقدس: سيف، وعلم، وصبر.
كنا تعرضنا فيما سبق إلى أربعة روافد تتعلق بنقد التاريخ، وها نحن اليوم نكمل الحديث عنها:
5 ـ إيجاد الموازنة في القيّم من التراث:
فمن الخطأ والخلط أن يتصور البعض وهو يسمع بالرغبة بنقد التاريخ، أننا نريد أن نضع خطين متقاطعين على جميع ما كُتب ودُوِّن، والحال أننا لا نريد ذلك، إنما نريد أن نوجد حالة من الفرز، وإعطاء حالة من الموازنة بين ما هو مقبول وما هو مردود، فما أمكن جمعه وقبوله أخذنا به، وما استعصى على الباحث التقريب بين حيثياته، والجمع بينها، وآلت الحالة إلى الطرح، فنحن وما ينتهي إليه الأمر، ولا يعني ذلك الخصوصية لنصٍّ دون آخر، أو فيما يتعلق بشخصية دون أخرى، أو فيما يرجع لموقف دون آخر في بُعديه الزماني والمكاني.
فنحن نطمح أن نوجِد حالة من الموازنة بين مفردات القيّم من التراث المدفون.
ولنأخذ مثالاً بسيطاً، وهو أسباب النزول لآيات القرآن الكريم وسوره، فإنك عندما تفتش في كتب التفسير تجد أن المنطلقات والمشخصات لأسباب التنزيل لا تتجاوز رؤوس أصابع اليدين، من صحابة معينين، وعندئذٍ من حقك أن تسأل: ما هي الحيثيثة التي امتاز بها هؤلاء دون غيرهم؟ هل كانوا الأقرب إلى النبي (ص) ؟ أو كانوا أصحاب أذن واعية لما يقول الرسول (ص) أكثر من غيرهم ؟ وهل كان هذا القسم الضئيل من بين أصحاب رسول الله (ص) هم الأكثر حيطة وحرصاً على القرآن وأسباب نزوله؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟.
إن هذا مدعاة أن يُفتح السؤال، وتُكبَّر علامة الاستفهام على هذه الظاهرة التي سادت الموقف، وهي حصر النقل في هذا الباب بأفراد معينين، من أمثال عبد الله بن عباس، أو عبد الله بن عمر، وغيرهما، فلا تجد لغير هؤلاء دوراً يذكر في نقل أسباب النزول، حتى من الصحابة المرموقين، من أصحاب الحظوة والتقدم في واقع عامة المسلمين، إذ لا تجد لهم عيناً ولا أثراً، فهل أنهم لم يسمعوا النبي (ص)؟ أم أنهم كانوا يدركون حقائق الأمور فسعوا إلى إخفائها؟.
أسئلة عديدة تتردد من هذا القبيل، لا تترك لديك القناعة الكافية في الكثير من أسباب النزول المدونة.
ولا أريد هنا إلا أن أقول: إن هنالك شيئاً من التراث القيّم لا زال مدفوناً لم يصل إلينا. أما أسباب الدفن والإخفاء فكثيرة، ليس محلها الآن.
فهنالك خلط بين ما هو قيّم، ضاع من بين أيدينا إلا من بعض الشذرات والمواطن، وما هو الشائع المنشور الممزوج بروح الغث الثقيل.
فمن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾([6])، وهي النازلة في أمير المؤمنين (ع) في ليلة المبيت، نجد أن هناك من يقول إنها نزلت في عبد الرحمن بن ملجم، في حين أن استشهاد أمير المؤمنين (ع) كان بعد وفاة النبي (ص) بأكثر من ثلاثين عاماً.
من هنا تأتي أهمية البحث في سبيل إحياء الترث الإسلامي الأصيل، ولا يضرنا أن نضع حتى على بعض المشهور في أوساطنا ـ مما لا أساس له ـ خطوطاً متقاطعة، ولا محذور في ذلك. كما في حال بعض الكرامات التي لم تثبت مثلاً، أو بعض الأحكام التي يتعاطاها الناس من حيث التكليف والتطبيق مما لا أساس له.
فالبحث في هذا المجال إنما هو من أجل الإحياء، لا من أجل الإماتة. ومن يلج باب التصحيح لا بد أن تكون لديه إلمامة كافية، وعناصر متكاملة يستطيع على أساسها أن يرفع ويضع، ويقبل ويرفض.
6 ـ ملاحظة انتقاء النصوص:
هنالك مدرسة قست في مجال التاريخ، وألبسته الثوب الأسود، وهي مدرسة توظيف النصوص بعد انتقائها من بين الخليط الذي تفلّت من طائلة منع التدوين.
والأمر بمنع التدوين لم يكن منعاً مطلقاً، إنما كان منعاً موجَّهاً، فقد صدرت الأوامر بمعاقبة من روى في علي منقبة، وقد كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد ما سُمي بعام الجماعة، أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبى تراب وأهل بيته([7]). وهذا قانون أصدرته دولة، وعندما يصدر القانون لا يكون عبثياً، سواء كان وضعياً أم إلهياً، بل لا بد أن يكون وراءه غاية وهدف. وأقوى العوامل التي كانت تقف وراء منع التدوين هو إخفاء معطيات مدرسة محمد وآل محمد (ص) من الساحة الإسلامية.
ورب سائل يسأل عن سبب انتقاء تلك النصوص الموجهة ذات النتائج المسبقة، فنقول في مقام الجواب: إن العمدة في ذلك أمور كثيرة، في طليعتها رغبة الحاكم في ذلك، فقد كان الخليفة آنذاك، ينشد أمراً واحداً، هو ما تمت الإشارة إليه. فمن الطبيعي أن يرفع يده عن نصوص ويضعها على نصوص أخرى ينتقيها.
ومن الأمثلة على ذلك، وسائل الإعلام المطروحة اليوم، فهي بمثابة الحديث في زمن النص.
ويستجد عامل آخر أيضاً مضافاً إلى رغبة الحاكم، هو الرغبة الجامحة عند كاتب النص في التقرب للحاكم نفسه، فتراه يرفد النص بالنص، لينال حالة الرضا والقبول من الخليفة أو الحاكم أو السلطان أو الزعيم.
فالتقرب إلى دائرة السلطان كان عاملاً مهماً في حرف مسيرة التاريخ الإسلامي، مع شديد الأسف، فقد وضعت بعض الأحاديث المخجلة في هذا الصدد، والتي تصيب قارئها بحالة من الصدمة.
7 ـ اعتماد أصحاب الاختصاص:
فلكي نصحح جميع ما تقدم من الهفوات، لا بد من منح أصحاب الاختصاص المساحة الكافية في جدولة الموروث على أساس علمي محكم، وحرص لا يُبتغى منه إلا رضا الله سبحانه وتعالى، والخوف على حياض الشريعة ومنها الخوف على الإمامة.
وقد بدأت البحوث في الحوزات العلمية اليوم تقترب من مساحات التنوير أكثر مما كانت عليه قبل عقود، فقد كان الاقتراب من النص التاريخي قبل عقود من الآن مكلفاً، وبعد فترة من الزمن حدثت الصدمة الأولى، فقلّ حجم المدفوع من الضرائب بسبب الاقتراب من النص.
فالإمام المجدد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رحمه الله) كان قلعة من قلاع العلم، ومرجعاً مميَّزاً مجدِّداً، وقد لامس بعض المفردات، فأحدث بعض ردود الفعل.
وكذلك السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله)، صاحب أعيان الشيعة، فقيه الشام، كان مؤرخاً وأديباً وعالماً في منتهى الدراية بخصائص الرجال، وقد أضاف إضافة، وأحدث صدمة استفزت مشاعر الكثيرين، والسر في ذلك أنه لم يقف عند قضية واحدة، إنما فتح مسارات كثيرة، وبعثر أوراقاً.
ولا ننسى أن نذكر أن عدم الرغبة في قبول المنتَج الجديد، لا لأنه لا يحمل صفة الصحة، وإنما لأنه يضع حالة من القطع بين المتلقي وما أسسه وبناه، وبين مصالح يُرتقب أن تكون بين يديه.
ورب قائل يقول: إن في ذلك اتهاماً لرجال العلم والبحث والتحقيق، لكن هؤلاء في الحقيقة خارج تلك الدائرة، لأنهم لا ينشدون سوى الرغبة في الحفاظ على حياض الشريعة وثوابت الإمامة. لكن حوزةً تضم عشرات الآلاف من الطلبة ورجال العلم والمجتهدين، لا يمكن أن يكون منتسبوها هؤلاء جميعاً في مستوى واحد، إنما بينهم مفارقات، فمنهم من دخل إلى الحوزات العلمية رغبة في التقرب إلى الله تعالى، فهو لا ينفكّ عن تلك الحالة.
ومنهم من ولج إلى حياض الحوزات العلمية من أجل إنقاذ المجتمعات التي انطلقوا منها، حيث رأوا أن في مجتمعاتهم الكثير من التسيُّب والإخفاق، في جانبها العبادي والمعاملي وغيرهما، فنذروا أنفسهم، ونفروا من أجل تحصيل المعارف، ليعودوا إلى مجتمعاتهم ليصلحوا العطب والخلل فيها.
وجماعة أخرى رأوا أن رجل الدين في المجتمعات الإسلامية عموماً، والشيعية على وجه الخصوص، يحظى بالكثير من الاهتمام والاحترام والتقديس، فاندفعوا باتجاه تحقيق تلك الأرضية، خصوصاً في المجتمعات التي لا تعيش حالة من الثقافة والوعي المتقدم، مما يستوجب وضع الشيء في موضعه. فترى طالب العلم بمجرد أن يعود من إحدى الحوزات العلمية الكبرى، وقد قضى فيها سنة أو سنتين، ثم يعتمر العمامة، ويرتدي عباءة رجل الدين، تجد أن الجميع يعطيه ما ينبغي أن يُعطى لمن هو أكبر منه. فلا فرق لدى المجتمع بين من يكون القادم من الحواضر العلمية ممن أجهد نفسه، وبين من سجّل حضوراً فيها فقط.
لذا أدعو الإخوة الأعزاء ـ لا سيما الكبار من الآباء وغيرهم ـ أن يضعوا الأمور في مواضعها، فهنالك فرق بين تقبيل الطفل الصغير يد رجل الدين، وبين تقبيل الكبير لها، لأنه سوف يكون قدوة لمن دونه في السن.
إن قراءة التاريخ تدعونا للكثير من التأمل والتدبر، فهنالك مرويات لا بد أن تكون موضع اهتمام واستفهام، وهنالك أشخاص ينبغي أن نقف طويلاً عند مروياتهم.
خذ مثلاً أحد الصحابة من الرواة، فقد صحب النبي (ص) فترة وجيزة من الزمن، إلا أنه روى آلاف الأحاديث، بخلاف الصحابة الآخرين الذين صحبوه لسنوات، ولازموه ملازمة شديدة في شؤون حياته كلها، وهم يُعدُّون من الصحابة المتقدمين لدى المدارس الإسلامية الأخرى، إلا أن بعضهم لم يرو سوى بضعة أحاديث، أو أكثر بقليل!
فما هو السر في هذا الكم الهائل من المرويات الواردة عن شخص بهذه المواصفات؟ وما الذي ميزه من بين سائر الصحابة كي يختص بالنبي (ص) إلى هذا الحد من الاختصاص؟.
وممن ولج باب النقد التاريخي وأحدث صدمة من العيار الثقيل أيضاً، الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) عندما اقترب من حادثة فدك، ولا يعني هذا أنني أتفق معه أو مع من ذكرتهم سابقاً فيما ذهبوا إليه، إلا أنها محطات في طريق البحث لا بد من الوقوف عندها واستعراضها.
فالشهيد الصدر (رحمه الله) أحدث دوياً وردة فعل عنيفة في النجف الأشرف، ولكن عندما نقف قليلاً مع أصحاب ردة الفعل نجد أن ردودهم لم تكن متزنة في معظم الحالات.
فعلى سبيل المثال أنه يخلص في مسألة معينة، بعد البحث والتدقيق والتحقيق، أنها من المشهورات التي لا أصل لها، فتأتي ردة الفعل باتهامه أنه يحمل فكراً منحرفاً، أو أنه متأثر بالإخوان المسلمين، وهكذا حتى يُخرَج من دائرة أهل البيت (ع) ويُدخَل في الضلال والإضلال.
من هنا نجد أن الضرورة ملحّة للنقد التاريخي، فكم في موروثنا من الغث! من الموضوعات والمكذوبات وأمثالها. ولا معنى للقول: إننا يمكن أن نترك الأمر كما تركه الأولون من قبلنا. فحال الأولين وعصرهم ليس كحالنا وعصرنا.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.