نص خطبة: لماذا نعيد دراسة التاريخ؟ (2)
عالم الأمة ورائدها:
عظم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى شهادة باقر علوم آل محمد (ع) ورزقنا الله وإياكم الشفاعة على يديه يوم القيامة.
الإمام الباقر (ع) كوكب من كوكبة الإمامة، أشرق بأنواره على الكون، واستفاد من إشراقاته النورانية من استفاد، ونأى بأنفسهم آخرون. فهو في عظمته وجلال قدره لم يختلف عليه اثنان، من المؤالفين والمخالفين، بل أطبقت كلمتهم جميعاً على أن له من التميز ما يفرض وجوده على الجميع.
ومن هؤلاء ابن أبي الحديد المعتزلي مثلاً، صاحب شرح نهج البلاغة، الذي يعتبر من أفضل الشروح التي استعرضت وبينت النصوص المروية عن علي (ع) فيما بين دفتي نهج البلاغة، وهو عالم في الكلام واللغة والآداب، مع علم لا يستهان به في التاريخ، مما أكسب شرحه خصوصية بين المئات من الشروح.
ولأن الرجل ليس في مسير أهل البيت (ع) ولا يتحرك بناءً على أنه من دائرتهم، مع ما كتب ورصد وثبت من خلال شرحه، وهو ما يعطي للشرح قيمة خاصة.
لذا فإن الذين يعيشون علياً (ع) في علمه وفكره وجهاده وعبادته، من المستغرب أن لا يأخذ هذا الشرح مكانه الطبيعي من مكتباتهم، فالحكمة ضالة المؤمن، كما ورد عنه (ع).
فعدم التوافق الديني أو المذهبي أو الحزبي لا يشكل عائقاً، لأن الإنسان إذا ما أراد أن يتقدم في مساراته العلمية والفكرية والثقافية والأدبية وغيرها، يحتاج أن ينفتح على جميع العوالم من حوله، فإذا اختار لنفسه الانغلاق على نفسه، كفكر وتوجه فإن النتيجة ستكون وخيمة مردية مهلكة، كما ترون اليوم من حال الدواعش الذين أغلقوا على أنفسهم جميع الأبواب، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من السقوط في القراءات، والتجاوز للحدود، وإدارة الظهر لثوابت الدين وقيمه.
وليس هذا الأمر محصوراً على هذه الفئة، فربما تتولد جماعة مماثلة من ذات النسيج الذي نلتقي معه في عنوان واحد. فالزيدية كانوا من النسيج نفسه، وكذلك الناووسية والفطحية والواقفة والإسماعيلية وغيرهم، ثم شذَّ بهم المسار، لأنهم لم يرضوا لأنفسهم أن ينفتحوا على الحراك الفكري من حولهم، فعاشوا التقوقع، وتمحَّلوا الطرق لأنفسهم، ليوجدوا المبرر في استدارة ظهورهم لما لا ينبغي أن يستدار له الظهر.
يقول ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر (ع): هو سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر، باقر العلم([3]).
هذه شهادةٌ من ذي خبرة طويلة، لم يقيده الانتماء المذهبي، إنما ترك المساحة أمامه كبيرة، ليعطي حكماً، ويثبِّت حجةً، لمن يخضع للحجة، ويجري وراء الدليل.
أما عبد الله بن عطاء المالكي فيقول: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة ـ مع جلالته في القوم ـ بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه ([4]).
وهذه شهادة أيضاً من رجل كبير القدر بين قومه، ينقل عن زعيم جماعة، وكبير قوم، وفقيه آخر، أنه كان بين يدي الباقر (ع) كالصبي بين يدي المعلم. وينبغي أن لا نغفل مثل هذه الشهادات، ولا أن نغلق الأبواب أمام مقولاتهم، لأنها تمثل الحجة النافذة على الآخر.
عصر الإمام الباقر (ع):
لقد عاش الإمام الباقر (ع) دوراً عصيباً، هو دور الاحتضار القريب للدولة الأموية، ووصول بني العباس لسدة الخلافة. ونحن نعرف أن دولة الإسلام آنذاك كانت دولة عظمى، ذلَّ لها سلطان الفرس والروم، وخضعت جبابرة الأرض لهم، لا كما نرى اليوم في أمة الإسلام.
التفت الإمام الباقر (ع) ذات يوم في مجلسه إلى أحد أصحابه فقال: يوشَك أن يؤول الأمر للعباس (السفاح) وأبي جعفر (الدوانيقي) والدوانيقي هو الأخ الأصغر، وقد قُدِّم السفاح لخصوصيات معينة، فربما كان الأشد فتكاً، والأقدر على إدارة الملف العسكري. وما هي إلا أيام حتى طويت صفحة الدولة المروانية الأموية، ووقف بنو العباس على رأس الأمة، فكان السفاح هو الأول، ثم تلاه الدوانيقي.
فعندما ذلل السفاح الأمور، جاء من بعده الدوانيقي ليتسلم دولة مهيَّأة تحتاج إلى البعد المدني، وهو الدور الذي مارسه في أيام حكمه، ومن ذلك بناء بغداد، التي أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية، بل عاصمة العالم قاطبةً.
في تلك الفترة واجه الإمام الباقر (ع) الكثير من المصاعب، فلم يكن ذهاب الدولة ومجيء دولة أخرى مدعاة لتنفُّس الناس الصعداء، إنما كانت الأمور تسير نحو الأسوأ، لأن الصراع كان ولا يزال بين الحق والباطل، وبين النور والظلمة، والجهل والعلم، وهذا خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيا مهما طالت بهما الأمور، فإما أن يستوعب النور الظلمة، أو العكس، فتتسلط القيادة الراشدة المؤمنة هنا، والظالمة المتجبرة هناك.
فالإمام الباقر (ع) كان يعيش تلك الأجواء، لكنه مع ذلك استطاع أن يضع حجر الأساس لأول حوزة، بما تحمله الكلمة من معنى، وذلك في المدينة المنورة، وفي مسجد الرسول الأعظم (ص) بالتحديد.
فرغم الاضطهاد الديني الذي كان يتأرجح بين الفعل وردة الفعل للدول القائمة آنذاك، إلا أنه (ع) استطاع أن يحدث منطقة فراغ بينهما، وتحرك على أساسها، فكيف لو كانت المساحة مفتوحة على مصراعيها؟ لا شك أن الأمر لو كان كذلك لطبق الدنيا علماً ونوراً.
آفات في تراث المسلمين:
إن العلوم التي وصلتنا لها مصادرها المعرفية، ولكن يميزها الكثير من الأمور، منها (ظاهرة العشوائية)، بأن تكون غير منظمة ولا مرتبة ولا مبوبة أو مفصلة، لذا فإنك عندما تريد أن تقترب من خزائنهم، تجد الكثير من العقبات، بسبب الخلط والإرباك والعشوائية في الجمع. ورحم الله أولئك العلماء الأفذاذ الذين بذلوا الجهود الكبيرة لإصلاح الأمور، لكن المسار لا يزال طويلاً، ولا زالت خزانة معارف آل محمد (ع) مثقلة بالكثير من الأسرار التي لم تفكّ شفراتها إلى يومنا هذا.
ومنها (أصابع الجريمة المنظَّمة) من قبل الدولة الحاكمة في زمن المعصوم، فمثلاً قبل الإمام الباقر (ع) كانت الدولة الأموية تمسك بالمفاصل، وكان قرار منع تدوين السنة قد اتخذ منذ زمن الخليفة الثاني، فكان لذلك القرار قدرة السَّير، وعدم قدرة من جاء بعد ذلك العصر على رفع غائلة ذلك الحكم القاسي، حتى بلغت الأمور إلى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي أصدر أمراً برفع الحظر عن تدوين السنة، فألغى بذلك القرار السابق الذي أصدره الخليفة الثاني، وبدأ العلماء يكتبون ويدوِّنون ما كان في ذاكرة الحفاظ. إلا أن الفاصل الزمني يلعب دوراً كبيراً في حاكمية النص ودقته.
كانت هذه جريمة منظمة من قبل الدولة الأموية، وقد سارت عليها الدولة العباسية في تقنين الفكر بما يصب في صالح البلاط، وفيما يغيِّب الحقائق من جهة أخرى، لكن النور مهما كان ضعيفاً فإنه يبدد الظلمة، فالشمعة على صغرها يمكنها أن تبدد ظلام الليل، وتزيل الوحشة من النفوس، لذا قيل: اشعل شمعة بدل أن تلعن الظلام. وقد كان أئمتنا (ع) يشعلون شموعاً وليس شمعة واحدةً، فكل واحد من أصحابهم كان يمثل شمعة تبدد ظلاماً استمر لقرون، ولا زالت تلك الشموع صامدة ترسل ضوءها في كل مكان.
متطلبات الإصلاح الديني:
مما يلاحظ أن مسيرة التغيير في الحياة عند الأئمة (ع) تقلبت من مرحلة إلى مرحلة، وفق مقتضيات الزمان والمكان، وهم في كل دور يُعلِّمون ولا يعلَّمون، لأن علمهم من الله تعالى، فإن تكلموا فمن الله، وإن تحركوا فبأمر الله، وإن سكتوا فوفق معطيات أمر الله، أما نحن، أو أولئك الذين عاشوا الأئمة (ع) في عصرهم، فإن علومنا تختلف، لأنها علوم دنيوية يأخذها فلان عن فلان، والمفارقة كبيرة بين من يأخذ العلم عن فلان وفلان، ومن يأخذها عن أبيه عن جده عن رسول الله (ص).
إن ذلك التغيير في واقع الأمة يحتاج إلى إصلاح جوانب عدة، في مقدمتها الإصلاح الديني. فالمجتمع الإسلامي قوامه في الدين، فإن فقد هويته الدينية فقد عنوانه، وإذا فقد العنوان فمما لا شك فيه أنه ينعكس سلباً على الذات التي من المفترض أن ينطبق عليها ذلك العنوان، وعندئذٍ تضيع المبادئ والقيم.
لذا ترى في بعض كلمات العلماء من الفريقين، أن من يذنب ينسلخ عنه عنوان الإيمان حال تلبسه بالذنب. ففي الوقت الذي يكذب لا يمكن أن يكون مؤمناً، لأن الدين ينهاه عن الكذب، فلحظة الكذب والنميمة والسكر والقتل وغيرها لا يمكن أن يوصف فيها بصفة الإيمان، وإلا فإنه لو كان متصفاً بها بعنوان المطابقة لما أقدم علي الذنب.
إن الإصلاح الديني يستوجب علينا الرجوع إلى موروثنا، فهل هو موروث سليم بالمطلق؟ أو سقيم بالمطلق؟ أو فيه من هذا وذاك، ويمكن عندئذ أن نصحح أو نجمع أو نرفع اليد عن شيء؟.
لا شك أن الطريق الثالث هو الصحيح، ومن هنا نجد أن سيرة العلماء من الفريقين تحركت في تلك المساحة، ونهجت منهجاً مشهوراً، هو أن الجمع أولى من الطرح.
إن لهذا المنهج إيجابياته بلا شك، إلا أنه لا يخلو من سلبيات، لأن الجمع إذا ما قُدِّمَ على إطلاقه، تسلل الغث من خلاله، وهذا ما نواجهه في الكثير من الموروث.
كما أن الإصلاح الديني يستوجب إعادة جدولة المؤسسات الدينية، فلا يمكن أن نتصور أن مؤسسة كالحوزة العلمية، عمرها ألف سنة، ولا يتسلل إليها مرض ولا يعتريها ضعف، فهذا غير معقول، لأنها منتج بشري، تمثل في مجموعة من العلماء الذين أسسوها ورعوها وقدموا لها ما قدموا، لكن جهودهم تبقى في حدود الاجتهاد، وهو قابل للصحة وعدمها.
فمع مرور ألف سنة منذ زمن الشيخ المفيد، أو قبله، وحتى يومنا هذا، لا يمكن أن نتصور عدم وقوع الخطأ، إلا أن ندَّعي العصمة لجميع علمائنا، ودون ذلك خرط القتاد، صحيح أن ظاهرهم العدالة والصلاح، وذهبوا إلى ربهم وهم كذلك، ولكن لا نستطيع أن ندَّعي أن كل ما صدر منهم على حدِّ كلام المعصوم، بل إنه لا عين له ولا أثر في مؤلفاتهم ورسائلهم قديماً وحديثاً. فلم نجد مرجعاً يجزم بصحة جميع ما صدر عنه، بل إنه يفرغ الجهد والوسع، ثم يقول: والله أعلم. فكل ما نتج عنهم إنما هو أحكام ظاهرية، أما علم الواقع فهو مخصوص بالأربعة عشر، محمد وآل محمد (ص).
لذا يفترض أن تعاد جدولة المؤسسات العلمية، وعلى رأسها، وفي مقدمتها الحوزات العلمية، إذا أردنا أن نجاري الأمم والطوائف من حولنا، أو نتقدم عليهم، أما إذا رضينا بما بين أيدينا فإنه سهل يسير، وبإمكان أيٍّ كان أن يؤسس حوزة علمية.
فلا بد إذن من الغربلة، حتى في مساجدنا وحسينياتنا ومكتباتنا العامة. ودونك المكتبات العامة في أوربا، ثم انظر إلى مكتباتنا العامة، وكيف أن أصحاب المكتبات الأوربية يتودَّدون للقارئ الباحث، وكيف ننفّر الباحثين في مكتباتنا، وكأنهم يستجدون من المكتبة.
إننا بحاجة إلى انشطار كبير إذا ما أردنا أن نحدث نقلة في واقعنا، صحيح أننا نتعرض لما نتعرض إليه من الصدمات، ونخسر الكثير على المستوى الشخصي، وربما أكثر من ذلك، إلا أن النتائج ستكون إيجابية، فلو لم تعش أوربا الانشطار في داخلها في قرون الظلمات، لما وصلت إلى ما وصلت إليه، علماً أنني لا أدعو إلى التمرد على الدين أو المذهب، كما تمردت أوربا على الكنيسة، إنما أدعو إلى الانشطار داخل منظومتنا بصفة عامة. ولو أن هذا الانشطار حصل قبل عقود لما آلت الأمور بإخوتنا من أبناء العامة إلى ما آلت إليه اليوم. فمن يقتل منهم بسيف السني أكثر ممن يقتل من الشيعة بنفس السيوف. وهذه ليبيا وسوريا والعراق شاهد على ذلك. والكلام الكلام في مذهبنا بلا فرق.
ومن مسلزمات الإصلاح أيضاً التعددية الدينية والمعرفية، فلا يعني أن يكون الآخر من دين أو مذهب مغاير أن يُستباح دينه وعرضه وماله وحرمته ووجوده.
إن هناك العديد من القضايا شبه المسلَّم بها، لكننا لسنا ملزمين بها، ولسنا مسؤولين عنها، وليس لأحد إلزامنا أن نتعامل معها على نحو الإطلاق، فلنا عقولنا، وليس من حق أحدٍ أن يسلم عقله للآخر ليقوده حيث شاء، فالله كرمنا بالعقل، وجعله حجة علينا، وأول ما خاطب العقل بقوله: «أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحبُّ، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»([5]).
هذا هو موقفنا مما يُعتقد أنه مسلَّمات، وهي أمور كثيرة، فربَّ مشهور لا أصل له. فبعضها أصبحت قواعد يبنى عليها ويُنتزع منها ولا أساس لها. ولدينا قوائم طويلة في هذا الباب.
إن روافد القرآن الكريم مشرعة في هذا الإطار وغيره، يقول تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدين﴾([6]). ويقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ﴾([7]). ويقول تعالى: ﴿الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾([8]).
هذا هو الملاك والأساس الذي يجب أن يسود في تعاملنا مع إخواننا في المذاهب الشقيقة.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.