نص خطبة: قم المقدسة عش آل محمد والحوزة الكبرى تاريخ وعطاء

نص خطبة: قم المقدسة عش آل محمد والحوزة الكبرى تاريخ وعطاء

عدد الزوار: 669

2011-10-08

بارك الله لنا ولكم ذكرى ميلاد السيدة المعصومة (ع) في هذا اليوم، ورزقنا الله وإياكم شرف المثول بين عتبات مرقدها الطاهر. وعظم الله أجورنا وأجوركم بذكرى رحيل سيد الأمة وإمامها، المجدد للقرن العشرين (رضوان الله على روحه المقدسة).

الحديث عن الهجرة له انعكاسه المباشر على النهضة العلمية في مدينة قم المقدسة التي نحن بصدد الحديث عنها. وقد كانت الهجرة على نحوين: الفردية والجماعية، كما أنها تنقسم بدورها من جهة أخرى إلى قسمين أيضاً، فهناك الهجرة الاختيارية، وهي مورد الكلام، والهجرة القسرية، وهي التي تُدرج تحت عنوان (التهجير). والمغايرة من حيث المصداق واضحة.

والهجرة الاختيارية لها أسبابها ومبرراتها، فالاستزادة من طلب العلم، تدفع الإنسان في كثير من الأحيان باتجاه الهجرة، وهو أمر واضح في سيرة الأعلام، من محدثين ورواة وعلماء ومؤرخين.

وربما تكون الهجرة سعياً لتحسين موارد العيش. وقد يترك المرء وطنه ومسقط رأسه أملاً في تحصيل موقعٍ فيه امتياز من الناحية المادية. وقد تكون الهجرة من أجل التقرب من جهة معينة، وهكذا. هذا في الهجرة الاختيارية.

وهناك هجرة قسرية قد يتعرض لها الأفراد أيضاً، فقد تعرض الكثير من أعلام الأمة وروادها لهذا النوع من الهجرة، حيث ضُيِّق عليهم حتى أنهم لم يجدوا مندوحة من مغادرة المكان الذي هم فيه، فيديرون ظهورهم لأقرب الناس إليهم، كرهاً لا اختياراً. ولهذا النحو من التقسيم مصاديقه المتكثرة إذا ما امتددنا مع التأريخ.

ومن الجدير بالذكر هنا أن القسم الثاني (وهو الهجرة القسرية) ليس بالضرورة أن يكون في الأفراد المميزين، إنما قد يشمل غيرهم تحت طائلة الظنة والتهمة، كما حصل في العهد الأموي الأول، والعهد العباسي، وكثير من العصور التي مرت وأخذت هذا المنحى.

والهجرة الجماعية تشارك القسم الأول (الاختياري) في بعض نواحيه، وتفترق عنه في نواحي أخرى، لتكون النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، كما يقول المناطقة.

فهذه الهجرة (الجماعية) تخضع لعدة عوامل، قسم منها اختياري، كما في الهجرة الفردية، ويكون وليد الرغبة من مجموعة من الناس أن يتموضعوا في موضع جديد. ففي الزمن الأول للعرب، كان البداة يتحركون ضمن هذه الطائلة، فيتنقلون من مكان إلى آخر رغبةً في المكان الخصب ووفرة المياه والمروج الخضراء، وما إلى ذلك. وقد يكون رغبة في تحسين وضع العائلة بما هي عائلة، فيغادرون الموضع في سبيل ذلك.

وقسم آخر من الهجرة الجماعية يكون قسرياً، وهو أشد أنواع الهجرة القسرية، ويسمى بالتهجير، الذي تتعرض له الجماعة في قبال الفرد، فربما يهاجر الفرد وهو في حالة من الخوف من جهة معينة، فيُطوى الملف، ولكن في بعض الأحيان تهجَّر قبيلة بكاملها، وأحياناً شعب بكامله، كما حصل للشعب الفلسطيني في فلسطين، حيث كانت المؤامرة على الشعب كله، ولم يبق في حدود دولة فلسطين إلا القليل.

وقد تكون الكوارث الطبيعية في كثير من الأحيان سبباً في تغيير تموضع المدن والقرى والمجمعات السكنية، وقد باتت هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة واضحة وبينة، وإن كان القرآن الكريم يسرد لنا مجموعة من الحوادث التي مرت بها البشرية، فغيرت محل التموضع لأقوام وقبائل وعشائر وشعوب من مكان لمكان آخر.

وقد تحتم الهجرةَ التبعيةُ للجيش المنتصر، كما حصل في الفتوحات الإسلامية، حيث نزحت قبائل بأكملها لتأخذ وضعاً في جهة معينة، بعد أن يكون الوالي الذي فتح قد تم الإجهاز عليه، ليدفع الناس الناس تبعاً لذلك ضريبةً في الهجرة. وفي ذلك دروس وعبر كثيرة أجد نفسي في غنىً عن الإسهاب فيها.

وهناك سبب آخر للهجرة القسرية، ربما يكون هو الأكثر وضوحاً وبياناً وفرضاً للواقع، ألا وهو جور الحكام، فمنذ أن عرفت البشرية نظام الحكم في جميع صوره، قبل أن يتطور ويصل إلى ما وصل إليه من التقسيمات، والبشرية تحت طائلة السوط والسيف الذي لم يجف يوماً ما من دماء الأبرار والأحرار، وهذا ما يستوجب الخروج من الأوطان والهجرة إلى الموطن الجديد، وهو ما نقرأه في تاريخ الإسلام، وهو تاريخ قريب وليس بعيداً عنا.

أما في قصة الحضارات الأخرى فإننا نجد شعوباً بكاملها استؤصلت لخطيئة صدرت من شخص واحد، فعندما نقرأ في الكتب التي تُعنى في سبر حال الحضارات المتقدمة علينا، نجد أن الخطيئة المرتكبة لا ينبغي أن يراق من أجلها ملء محجمة دم، ولكن تجد أن شعباً يُستأصل من أقصاه إلى أقصاه من أجل خطأ لا يستحق كل ذلك.

ومبادئ الإسلام الذي جاء به نبينا محمد (ص)، ترشد إلى الرحمة والرأفة بالآخر، فقد ورد فيها: لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا هارباً أو مولياً أو مدبراً. كما ورد فيها مبدأ المفاداة وتقديمه على إقامة الحدود في الإسلام، ولكن عندما انحرفت المدرسة، وأصبحت بيد حكام ظلمة، يسوقون الدين حيثما أرادوا أن يتموضعوا، انقلبت الموازين، فصار يُعفى عمّن حكمه أن يجلد، ويجلد من حكمه أن يعفى عنه، فالحكم ما شرعه الحاكم، لا ما شرعه الله تعالى وجاء به الرسول الأعظم محمد (ص). وشواهد هذا كثيرة، يمكن أن نستعرضها من صدر الإسلام، مروراً بالدولة الأموية والعباسية والديالمة وبني عثمان، وإلى يومنا هذا، فلا تكاد تجد موضعاً من عالمنا الإسلامي إلا وهو يشخب دماً، لأن موازين الإسلام ودساتيره وقوانينه وآيات القرآن وأحاديث النبي (ص) تُقرأ مقلوبةً أو تُعطَّل، حتى وصل الحال بأحد حكام العرب، أن يحاول إعادة نسخ القرآن الكريم من جديد، باعتبار أنه صار قديماً، وفيه مواضع أكل عليها الدهر وشرب، ووضع يده على الآيات التي تندد بالظالم، فحاول تعطيلها. إلا أن الملاحظ أن أول من يدفع الضريبة هو من ينحو هذا المنحى.  

إن الهجرة القسرية تعد كارثة إنسانية، إلا أن بعض الأقوام المهاجرين، كانوا من الدرجة العالية في العلم والمعرفة والصبر والتحمل وقراءة المستقبل، بحيث جعلوا من تلك الهجرة وسيلة للوصول إلى أرقى الأهداف وهو السمو بالحضارة الإنسانية، وهذا درس مهم، فكم من البلايا التي تصب علينا في حياتنا الدنيا، يجب علينا أن لا نستسلم لإرهاصاتها، وننبطح تحت طائلتها، إنما يجب أن نقرأها قراءة صحيحة، لنأخذ منها وقوداً في استكمال المسيرة.

لقد جعل هؤلاء من الهجرة وسيلة لصناعة التاريخ الإنساني، فمعظم الحضارات البشرية جاءت بسبب هجرة قام بها جماعة بأحد الموردين اللذين ذكرتهما، وهما الاختيار أو القسر.

وبالمناسبة فإن الهجرة القسرية أكثر إبداعاً من الهجرة الاختيارية، سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات، والسبب في ذلك أن المظلوم يشعر أنه ممتهن ومصادر الحقوق، فيبحث دائماً عن الأفضل، وحيث إنه يبحث عنه، ولا يملك من آلية إمكان الوصول إلى ما هو الأفضل، إلا هذه الحالة من الضعف، فعليه أن يصيّر من الضعف قوةً مادية وعلميةً وحضوراً، فتتبلور وتُنسج حضارة، وشواهد ذلك كثيرة.

ومن عوامل نمو الحضارة، تطور الحياة اليومية بين بناة الحضارة على أساس من مورد التهجير، فالبعض مثلاً يرى أن الفراعنة هم أقوى من استطاع أن يضع له بصمة واضحة في الجانب المادي، على المسرح الإنساني فوق هذا الكوكب، وحالهم في الترف معروفة، إذ لم تتقلب أمة من الأمم، ولا جماعة من الجماعات، ولا كوكبة من الحكام والسلاطين، منذ آدم حتى يومنا هذا، كما تقلب الفراعنة في الترف، فكل ما نراه اليوم من ترف وهدر للطاقات لا يصل إلى ما كان عليه الوضع في ذلك الحين.

وفي الجانب العلمي، لم يُعرف عن الفراعنة إلا القليل، ولم تُقرأ صفحتهم في هذا الجانب قراءة تامة، إنما أُخذ منهم الأحجار والنقوش فقط، وهي تدلل على جزء من المشهد، أما مدونات ذلك العهد فهي أمر آخر. وبنظرة بسيطة لمتحف الفراعنة يجد الإنسان نفسه مبهوراً ومشدوداً، أنه لا يمكن أن يصل إلى هذا الوضع، على العكس مما لو دخل مكاناً آخر اليوم من قصور الأباطرة والحكام والرؤساء والأمراء، حيث يرى أن بمقدور الفرد العادي، إذا ما مُدّت له الحياة، وفتح عليه باب الرزق، أن يتحصل على مثل ذلك. ومن باب المثال نرى أن أغنى عشرة رجال على وجه الأرض، ممن يتصدرون قائمة الأغنياء، والحياة المادية مبسوطة بين أيديهم، هم ليسوا من دائرة الحكام والسلاطين. وكان لجانب الهجرة في هؤلاء إسهام كبير في حياتهم وواقعهم.

ولكن السؤال والمفارقة هنا: هل قدّم هؤلاء المتقدمون من حيث الأرقام الفلكية، للبشرية ما قدمه أولئك السابقون للبشرية؟ الجواب: كلا.

فمن باب المثال نجد أن أحد أباطرة المال في العالم يكتب وصيته قبل موته أن تصرف التركة في رعاية كلبٍ كان له في حياته! بينما نجد أن بشرية ذلك اليوم، وهي في عداد الجاهلية، قدمت ما قدمت للبشرية من حضارة، أما حضارتنا اليوم فكل ما فيها أنها تسرع الخطى وتتسابق لإيجاد آلية أسرع فتكاً ببني البشر، إما بصمت أو بصوت عالٍ، والضحية دائماً هي الشعوب المستضعفة على وجه الأرض.

فتطور الحياة اليومية للفراعنة كان للهجرة فيه أثر كبير.

وكذلك كان لتبادل الخبرات أثر كبير، مما أكسب المشهد في بعديه المتقدمين رشداً وارتقاءً، حيث وصلت الإنسانية إلى ما وصلت إليه من أمور.

مدينة قم تاريخياً:

لم تكن مدينة قم قبل الهجرة إليها من الكوفة سوى قرية صغيرة، يطل عليها جبل من إحدى جهاتها الأربع، وهناك ممر للمياه، ومجموعة من المروج الخضراء، وكان يفد إليها بعض المهاجرين في فصل الربيع ثم يتركونها بنهايته، خصوصاً أنها لا تحظى بمنابع ماء عذب، وفي الأعم الأغلب كانت آبارها مالحة المياه، ومن ثم لم تكن مرغوبة أو ملائمة للسكنى بشكل كبير.

لقد اشتد العباسيون على العلويين، وراحوا يطاردونهم وأتباعهم من شيعة آل محمد (ص) تحت كل حجر ومدر، استكمالاً لسيناريو كان قد وضع من قبل الدولة الأموية، فالدولة العباسية اختلفت مع الأمويين في كل شيء، إلا في استئصال أتباع أهل البيت (ع).

وقصة مدينة قم تبدأ مع النبي الأكرم (ص) في ليلة معراجه إلى السماء، حيث انكشفت للنبي (ص) الكثير من المشاهد وهو في عالم العروج، وكانت مفردة قم حاضرة هناك، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على خصوصية المكان وعظمته، ولم يكن آنذاك قد تشرف بأنوار السيدة المعصومة (ع) التي تنتهي بنسبها إلى النبي الأعظم (ص).

إذن، كانت هناك خصوصية لذلك المكان منذ اليوم الأول الذي أوجد الله تعالى فيه هذا الكوكب، لذا برز بين ناظري النبي (ص) واسترعى انتباهه.

ففي حديث عن النبي (ص) ليلة أسري به إلى السماء قال فيه: «لما أسري بي إلى السماء الرابعة([3]) نظرت إلى قبة من لؤلؤ لها أربعة أركان وأربعة أبواب، كلها من استبرق أخضر، قلت: يا جبرئيل، ما هذه القبة التي لم أر في السماء الرابعة أحسن منها ؟ فقال: حبيبي محمد، هذه صورة مدينة يقال لها قم، يجتمع فيها عباد الله المؤمنون ينتظرون محمداً وشفاعته للقيامة والحساب...»([4]).    

وبناءً على تلك الخاصية في السماء هناك خاصية في الأرض، فالروايات عن أهل البيت (ع) كثيرة، منها ما هو متواتر، خصوصاً في مدينة قم المقدسة، وكذلك في سكانها وزائريها، وهذا إن لم يصل إلى حد التواتر، فهو في حد التظافر، وليس هذا بالأمر الهين.

فقد روي عن عدة من أهل الري([5]) أنهم دخلوا على أبي عبد الله الصادق (ع) وقالوا: نحن من أهل الري، فقال (ع): «مرحباً بإخواننا من أهل قم. فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد (ع) الكلام، قالوا ذلك مراراً، وأجابهم بمثل ما أجاب به أولاً, فقال (ع): إن لله حرماً هو مكة، وإن للرسول حرماً وهو مكة، وإن للرسول (ص) حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين (ع) حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم. وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة»([6]).

والملاحظ هنا أن هذا الحديث جاء عن الإمام الصادق (ع) قبل مولد الإمام الكاظم (ع)، ناهيك عن مولد السيدة المعصومة (ع)، فهو من أحاديث الأسرار الإلهية التي لا تصدر إلا عن محمد وآل محمد (ع).  

أما قم (المدينة) فهي مدينة مستحدثة تحمل صفة إسلامية ولا أثر للأعاجم فيها كما نص على ذلك كثير من المؤرخين، وأول من مصرها هو طلحة بن الأحوص الأشعري، وقيل غيره، إلا أن هذا هو الأقرب والأكثر تماسكاً من حيث الدليل.

وأصل تسميتها بالفارسية (قمندان) ثم عُربت فأصبحت (قُما) ثم خففت على اللسان فصارت قم.

وقد استوطنها الأشعريون، وهم من بني سعد، وأول من قدم إليها عبد الله بن سعد الأشعري، وهو رجل ولد وتربى في الكوفة أول الأمر، ثم انتقل إلى قم ونقل التشيع معه، وقد نص صاحب معجم البلدان، على ذلك بقوله: وكان له ولد قد ربي بالكوفة، فانتقل منها إلى قم، وكان إمامياً، فهو الذي نقل التشيع إلى أهلها فلا يوجد بها سنّي قط([7]).

ولما أخرج المأمون الإمام الرضا (ع) من المدينة المنورة سنة 200 هـ بحجة ولاية العهد، بقيت السيدة المعصومة في المدينة، وبعد أن استقر بالإمام الرضا (ع) المقام في مرو أرسل إليها أن تلحق به، وهي الشقيقة الوحيدة له، مع أشقاء ثلاثة أيضاً. وقيل في بعض الأخبار أن السيدة المعصومة اشتد بها الشوق لأخيها الإمام الرضا (ع) فأرادت أن تلحق به. وفي قول ثالث أنها بدا عليها الضعف والمرض جراء ابتعاد الإمام الرضا (ع) عن المدينة، فخشيت أن يدركها الموت وهي بعيدة عنه، فخرجت في أثره لتدركه.

وعلى كل حال، خرجت (ع) سنة 201 باتجاه مدينة مرو رغبة في الالتحاق بالإمام الرضا (ع) وعندما وصلت إلى مقربة من قم، وبالتحديد على بعد عشرة فراسخ مرضت، واشتدت بها العلة، فوصل الخبر إلى سعد الأشعري أن سيدة من بنات الرسول (ص) على مقربة من قم، فخرج للتبرك بمحضرها، فصحبها إلى بيته سبعة عشر يوماً، ثم توفيت (ع).

وهناك قول آخر أنها عندما خرجت من المدينة خرج معها مجموعة من أبناء عمومتها وإخوتها وأخواتها، وعندما وصلوا إلى ساوة([8])، وكان أهلها من النواصب، على العكس من أهل الري وقم، فلما علم أهل ساوة بهم خرجوا إليهم وفتكوا بهم، وقتل أحد عشر كوكباً ممن كان معها، وقبورهم اليوم في ساوة.

فلما علم الأشعريون في قم بما حصل للموكب الآتي من المدينة من آل الرسول، خرجوا لإدراكهم، فلم يدركوهم إلا وقد صرع الرجال وبعض أخوات السيدة المعصومة، أما السيدة وبعض من كان معها من الرجال فقد لاذوا ببعض الأماكن حتى أدركهم الأشعريون واستنقذوهم، وجاؤوا بهم إلى قم المقدسة، وأسكنها الأشعري في بيت يسمى اليوم (بيت النور) تشرفاً بها أولاً، ولأن الأشعري كان عندما يدخل على البيت ليسلم عليها يرى أن الأنوار تملأ جنباته.

وكان موسى بن الخزرج بن سعد الأشعري، وجه الأشعريين من بني سعد في قم، وشيخهم، فلما توفيت في بيته، دفنها في موضعها اليوم، وأقام لها ضريحاً من البواري والحصر، حتى جاء دور السيدة زينب بنت الإمام الجواد (ع) فأقامت على قبرها بناءً وهيأت أسباب القبة الأولى.

أما مشهدها اليوم فيعدُّ من أعظم الأماكن وأكثرها تماسكاً، وهنالك خطة كبيرة من الدولة الإسلامية لتوسيع هذا المقام والأخذ به إلى مدارج العظمة.

في فضل قم والسيدة المعصومة:

لقد جاء في حق السيدة المعصومة وفضل مدينة قم الكثير من الروايات، لذا فإننا لا نستغرب عندما تلقي الحوزة العلمية بكل ثقلها في هذا الموقع، وتصبح مدينة قم مصدر إشعاع لجميع البقاع، ويقصدها الأقطاب وإن بلغوا درجات القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مظانها.

ففي الحديث عن الإمام الصادق: «إنما سمي قم لأن أهلها يجتمعون مع قائم آل محمد (ص) ويقومون معه، ويستقيمون عليه، وينصرونه»([9]).

وعن الإمام الرضا (ع) قال: «إن للجنة ثمانية أبواب، ولأهل قم واحدٌ منها، فطوبى لهم ثم طوبى لهم، ثم طوبى لهم»([10]).

أما في فضل زيارة السيدة المعصومة فهناك أحاديث كثيرة، منها ما عن الإمام الرضا (ع): «من زارها فله الجنة»([11]).

وعن الإمام الجواد (ع): «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»([12]).

وهذه الروايات واضحة في مداليلها ولا غبار عليها.

لقد جاء المهاجرون من الأشعريين إلى قم، وضربوا أطنابهم هناك، وأصبحوا أسياد الموقف, وحملة الحديث عن الإمام الصادق (ع) ووضعوا حجر الأساس لنواة حوزة منذ ذلك اليوم.

ورفضُ الإمام الصادق (ع) حصرَ اللفظ (قم) في دائرة الموقع المعلوم، ليجعل كل من يرتبط بقم معتقداً، فهو من أهل قم في تلك النواحي.

لذا رشدت الحوزة هناك، وسوف نبين ما لهذه الحوزة من مزايا، فهي عالم خاص له خصوصياته، ومع شديد الأسف لم تُتح لنا المساحة الكافية للقراءة والتعرف على هذه الحوزة، بل مع شديد الأسف أكثر إن هناك من يحاول أن يضع سداً بين من يريد أن يتعرف على خصوصيات قم، وهو من أتباع المذهب، وعندئذٍ لا نلوم من لا يوافقنا في المعتقد، والخشية من ذلك لها أسبابها العديدة، وعلى رأسها تقاطع المصالح، والحال أننا لا ندري كم نعيش في هذه الدنيا.

فنسأل الله تعالى أن يعرفنا قدر هذه المدينة لنتواصل معها قدر الإمكان، لا أن نذهب إلى مشهد وندير ظهورنا لمدينة قم، كما يحصل اليوم لدى الكثيرين، وهذه الروايات الشريفة بين أيدينا عن النبي الأعظم (ص) وأهل البيت (ع) في فضل هذه المدينة والسيدة المعصومة.

إن الله تعالى شرع المستحبات للحفاظ على الواجبات، وشرع المكروهات لكي لا يقع الناس في المحرمات، فهي سياج وحياطة. فإذا تمردنا على هذه النعمة التي امتن الله بنا علينا فليس إلا الحرمان من نفحاتهم، واليوم ليس بوسع أحد أن يعتذر بعدم القدرة على زيارة السيدة المعصومة وهو يزور الإمام الرضا (ع) وينفق الأموال الطائلة في (كلر دشت) من أجل نسمة هواء طيبة يشمها، أما أن يحظى بنسمة عرفان وعشق محمدي أصيل ونسك وانصهار في عالم المطلق فلا.

إن صاحب المناسبة اليوم، وهو الإمام الخميني، الذي لم يحدثنا تاريخ البشرية، بعد المعصومين، ومن جاء في حقهم نصوص خاصة كالعباس والسيدة زينب والسيدة المعصومة ومنظومة معينة، عن أحد مثله بَصمَ بصمته البينة، وأحدث التغيير والانقلاب في جميع المجالات، حيث قلب عرش أعتى طاغية عرفته فارس، وهو الشاه المقبور، نجد أنه عند عودته وهو يحمل راية النصر بيده، يقوم بأول عمل له وهو زيارة السيدة المعصومة، وتقبيل عتباتها،  قبل الذهاب إلى بيته.

فلم هذا التنكر منا للذوات المقدسة؟ ولماذا الغرور الشخصي؟

إننا لسنا بحاجة للقدح بالآخرين بقدر ما نحن بمسيس الحاجة للتعرف على سيرة قادتنا وموروثهم وعطائهم وشفاعتهم، فوالله لا ننجو إلا بهم، طال الزمان أو قصر.

إنني أخشى أن يتحول الأمر شيئاً فشيئاً حتى يصبح ضريح الإمام الرضا (ع) ممراً سريعاً باتجاه (كلر دشت) حيث يدخله الزائر فيسلم عليه بسرعة يوماً أو يومين، ثم يذهب إلى مقصده هناك في ( كلر دشت).

وخير دليل على ذلك أن الكثير منا اليوم يذهب إلى المدينة المنورة للسلام على النبي (ص) فقط، والحال أن بجواره خمسة من المعصومين (ع) ويفترض أن نزورهم أيضاً ونسلم عليهم.

ووالله إن عدم ذهاب البعض إلى المدينة أكثر ثواباً من ذهابهم، لأنهم يسيئون لأهل البيت (ع) ففي شهر رمضان يذهب البعض إلى المدينة لقضاء الشهر صائماً بجوار رسول الله (ص) وهذا أمر جيد، شريطة أن لا يقضي الشهر هنا وهناك في رفقة أصحاب السوء.

ولا يقولنّ أحدٌ: إن هؤلاء شباب، ولا بد أن يقضوا دورة حياتهم، فهذا من قلة حياء آبائهم، فلو كان الآباء يحملون حياءً من الرسول الأعظم (ص) لما سمحوا بالإساءة له، فقد أصبحنا نُعيَّر بهذه النماذج السيئة، وما عادت لنا وجوه نقابل بها الآخرين.

إذن لا بد أن نلتفت لأنفسنا، ونراعي شؤوننا، ونحصن مواقعنا، فنبتعد عن اللبس المبتذل والكلمات البذيئة وآلات الشطرنج والورق وغير ذلك مما لا يضيق المقام بذكره.

إننا قد نقيم الدنيا ولا نقعدها إذا قبض على أحد منا وهو يحمل كتيباً في البقيع، أو يدخل في مشادة كلامية مع غيره، ولا أريد أن أبرر لغيرنا هذا التعامل معنا، فهو في منتهى القسوة، وهو مرفوض وغير مقبول، فمن حق الإنسان أن يمارس معتقده في أي زمان ومكان، وهو حق تحفظه القوانين الوضعية والتشريعات السماوية، ولكن بالمقابل علينا أن نصلح أنفسنا وواقعنا، وأن نتابع أولادنا وبناتنا في تحركهم.

أخيراً أذكّر بصدقة الشهر، لكي لا ننسى الفقراء، وهم كثر، ونسأل الله أن يعينهم على ماهم فيه، ويجعل ذلك في ميزان أعمالكم، وبالقليل يتحقق الكثير.

والحمد لله رب العالمين.