نص خطبة :قم أرض شرفتها المعصومة وبشر بها الرسول (ص)
الحديث عن حوزة قم المقدسة من ضمن المقدمات التي من خلالها نستطيع أن نقرأ عالم الظهور، لأن الروايات الصادرة عن أهل البيت (ع) ترشد إلى هذا المعنى بما لا يستوجب مزيد عناية من البحث والتأمل، فهناك روايات صدرت عن النبي الأعظم (ص) وأخرى تبعتها على ألسن الكوكبة المعصومة من آل محمد (ع).
ومن الجميل أن تلك الروايات، لم ينفرد بها أتباع مدرسة أهل البيت، ليقال: إن فيها ما يمكن أن يقال عند بعض ضعفاء النفوس، بل إن الروايات في هذا المعنى جاءت متكثرة ومن خلال مصادر متعددة ومتكثرة. فهناك روايات عنت أهل قم، وأخرى ذكرت أهل فارس.
ففي كتاب «الحياة» لآية الله المرحوم الشيخ محمد الكرمي، أحد مراجع خوزستان، عُقد في الجزء الثاني منه فصل تحت عنوان: التكامل الإنساني، سلط الضوء من خلاله على أعلام الفكر المذهبي منذ نشأته حتى أيام الشيخ الجليل، فوضع يده على المسميات، وأرجع هذه الأسماء إلى أصولها، فكانت الحصيلة أن أئمة المذاهب الشقيقة هي من فارس الكبرى آنذاك، وأما أتباع مدرسة أهل البيت (ع) فإن مذهبيتهم تنحصر في فرد معين، ألا وهو الإمام جعفر الصادق (ع)، ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي، فهو ابن علي وفاطمة، عربي بالأصالة.
ومما يستوجب الاستغراب كثيراً أن تضاف طائفة هذا أصلها إلى جماعة لا يراد من اللفظة المستعارة منهم إلا التقليل والتنقيص والحط من القدر! والحال أن من ينهج منهجاً من ذلك المسار يُفترض أن يكون أولى بها، فإن كانت الإضافة تحصل لأدنى ملابسة، فمن باب أولى أن تكون كذلك إذا كانت القرائن متكثرة.
لقد أكرم الله تعالى الحوزة في قم وشرفها بهذه السيدة الجليلة التي نأمل من الله تعالى أن يشفِّعها في الكبير والصغير من ذنوبنا. وقد وجد علماء الطائفة في كنفها ظلاً وارفاً، وعند ملاذ ضريحها أنواراً، إذا ما هيأ الإنسان سبباً لها أخذت موقعها من القلب، وإذا أشرق قلب الإنسان نطق بالحكمة، وهكذا العلماء الذين لاذوا بحصنها (ع) عبر مر القرون، فما من قرن إلا وفي هذه المدينة شمس مشرقة بنور الحكمة والحق والحقيقة.
نعم، في الفترة الأخيرة التي نعيشها ـ وهي مما شُرفنا به جميعاً ـ باتت هي الشمس التي لا تجارى، والعمود الذي لا تُبلغ قمته، جراء ظروف وعوامل اجتمعت فيما بينها، فوصلت بها إلى هذا المقام، والإ فإننا لسنا من عُبّاد الصدفة، ولا ممن يؤمن بها، ولا مَن ينتظر رزقه على قارعة الطريق. كيف لا، وأهل البيت (ع) دفعونا بهذا الاتجاه؟
في سنن الترمذي عن أبي هريرة: قال ناس من أصحاب رسول الله (ص): يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان بجنب رسول الله (ص)، قال: فضرب رسول الله (ص) فخذ سلمان وقال: هذا وأصحابه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس([4]).
فهذه رواية من طريق العامة، وإن رويت أيضاً في مصادرنا، ولها أكثر من طريق من طرقهم، تنوف على التسع طرق.
وعن الإمام الصادق (ع) قال: «قال رسول الله (ص): «سيأتي قوم من بعدكم([5]) الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم. قالوا: يا رسول الله، نحن كنا معك ببدر وأحد وحنين، ونزل فينا القرآن، فقال (ص): إنكم لو تُحمَّلون لما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم»([6]).
فما جرى بعد النبي (ص) من فصول الأحداث إلى يومنا هذا، هو الأشد والأصعب والأخطر، لكن الأمة الراشدة الواعية هي التي تتخطى تلك العقبات، وتسقط هذه المجموعة من الأشراك، الواحد تلو الآخر.
إن العلم هو السلاح الأمضى قبل الغيبة، وعند التوطئة، وبعد الظهور، بدليل أن الرواية الصادرة عنهم (ع) تؤكد أنه إذا ما خرج المهدي (ع) فإن النتيجة ستؤول إلى أمر تكويني، وهو أنه سوف يمسح بيده الشريفة على أيتام آل محمد فترشد عقولهم.
أما في زمن الغيبة والانتظار، فنحن مدعوون جميعاً أن نتعرف ونتعلم ونقف على الحقائق، وأن لا نقبل لأنفسنا أن نكون (مُذقةَ الشارب، وقبسة العجلان).
يقول الإمام علي (ع): «تعلَّموا العلم فإن تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة... وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة... وسلاح على الأعداء، وزين الأخلاء([7])، يرفع الله به أقواماً([8])، يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم، وتقتبس آثارهم»([9]).
كما قلت في شهر رمضان ـ أعاده الله علينا وعليكم وعلى المؤمنين والمؤمنات بالخير واليمن والبركة ـ أن العلم في روايات أهل البيت (ع) عامٌّ شامل، والألف واللام فيه للاستغراق، إلا ما نصب فيه قرينة على إرادة معنىً خاص.
فالعلم أنيس في الوحشة، إذا ما خلا الإنسان بنفسه وحيداً. ومن المناسب هنا أن أذكر أحد مراجع الطائفة وهو السيد محمد سعيد الحكيم (حفظه الله تعالى) الذي كتب كتابه «المحكم في علم الأصول»، وهو في سجن طاغية العصر صدام، الذي لا يجاريه طاغية مطلقاً، فيما قدم بين يديه وما خلف من ورائه. فكان العلم أنيساً لهذا العالم، وقد صنع له مناخاً خاصاً بحيث كتب ذلك الكتاب.
وقبل ذلك كان الشهيد الأول رضوان الله تعالى عليه، صاحب اللمعة، الذي استأصلته دولة بني عثمان، فعندما كان في سجن القلعة بدمشق استطاع أن يملي كتاب اللمعة، الذي ما زال إلى يومنا هذا رغم تقضي القرون، ومرور العصور، محط نظر علماء الطائفة.
وأقول هنا للشباب الأحبة: إذا كان علماؤنا يقدمون لنا هذا الأنموذج الراقي، أليس من المسؤولية علينا أن نستفيد من أوقاتنا وأن نجد علقةً طيبة بيننا وبين الكتاب؟ فنحن ننفق الكثير على غير الكتاب، ولكن لا ننفق ما يلفت النظر للكتاب، في حال أنه هو الصديق عند الضيق.
والكلام في هذا المجال طويل عريض له مقدمات كثيرة، وكم كنت أتمنى أن تعينني صحتي على ما أريد أن أفضي به، وأنا على علم ويقين أن ما من كلام يقال إلا وعليه الكثير من علامات الاستفهام، وأنا أسلّم وأذعن عند هذه الحقيقة، ولكنني أنتدب كل من لديه شيء من الملاحظة أو التوجيه أو ما يثري المعلومة، أن يكون واقعياً فيما يكتب، وأن يراسل بعيداً عن التجريح أو التشويه في الملأ العام، لأننا لسنا في مرحلة تساعد على إنفاق الكثير من أوقاتنا فيما لا يسمن ولا يغني من جوع، إنما نحن في مرحلةٍ، الحري بنا أن نستفيد منها قدر الإمكان، فإن استطعنا أن لا نفرّط في الساعة أو حتى الدقيقة الواحدة، فعلينا أن لا نفرط، لأننا سوف نوقَف في يوم من الأيام، ونسأل عما قلنا وما فعلنا، كبر أو صغر، تبنيناه أو تخلينا عنه.
ويعجبني هنا كلام للشاعر العراقي أحمد مطر، الذي يصور لنا حال الإنسان الذي يريد أن يفضي، إلا أنه لا يستطيع أن يفضي بما هو مختزن في داخله خشية أمور كثيرة، فأحياناً يخشى الحاكم، وأخرى يخشى العدو أو الصديق، وأحياناً يخشى نفسه، وهي أسوأ الحالات. يقول مطر:
أيها الناس اتقوا نار جهنم
لا تُسيئوا الظن بالوالي فسوء الظن في الشرع محرم
أيها الناس أنا في كل أحوالي سعيد ومنعم([10])
ليس في الدرب سفاح ولا في البيت مأتم
ودمي غير مباحٍ وفمي غير مكمم
فإذا لم أتكلم
لا تشيعوا أن للوالي يداً في حبس صوتي بل أنا يا ناسُ أبكم
قلت ما أعلمه من حالتي والله أعلم
هذا هو حالنا حتى مع أقرب القرابة لنا ـ أيها الأحبة ـ لا مع الآخرين فحسب.
كان بودي أن أدخل بشكل موسع في موضوع مدينة قم المقدسة، إلا أنني أشير بهذه الإشارة المبسطة:
إن الأحكام الشرعية في حوزة قم أخذت لوناً من الحراك لم يكن مألوفاً في المدارس التي تقدمتها. وبهذا العنوان أهيِّئ أسباب الدخول إلى مدينة قم في حوزتها، ليتعرف النشء الطيب ـ وهو أنتم، ومن يصله هذا الصوت عبر الخطبة مسموعاً أو مقروءاً ـ عظمة هذه المدينة بأهلها، إذ سُلّط عليها الضوء من قبل المعصومين (ع) في حال أنها محاربة حتى من أبناء النسيج الواحد والطائفة الواحدة مع شديد الأسف، وهو ما يحز في الضمير. وما عسى أن يكون أكثر من أن يقال لك في يوم ما: أنت من حوزة قم، وكأن القائل ينتقص من القدر، ويقلل من الشأن، أما إذا قلت: أنا من حوزة النجف، فهذا يعد امتيازاً لك، وإن لم تأخذ منها ما يؤهلك للدرجات الدنيا من التحصيل العلمي.
إن العلم ومن يرغب في تحصيله لا يناط بالمكان، إنما يناط بالمكين. فهناك رجال عظماء عاشوا في النجف، وكتبوا تاريخ الأمة والطائفة بمداد من نور، وهناك في قم من لا يقل شأناً عنهم. والإنسان إذا اتجه باتجاه البوصلة فسوف يصل إلى الهدف، أما إذا انحرفت به لأدنى سبب، فهي غير محصورة بمكانٍ، ولا مقيدة بزمن.
في الختام أذكّر أن يوم الأحد هو يوم دحو الأرض، ويستحب فيه الصيام، وليلة الجمعة القادمة ذكرى شهادة الإمام المظلموم محمد بن علي الجواد (ع) .
واليوم أيضاً ذكرى رحيل شيخ المتألهين، أحمد بن زين الدين الأحسائي رضوان الله عليه، هذا الكوكب الذي أشرق في مرحلة من الزمن، ولا زال يرسل إشراقه إلى أكثر من محل، فلا يقال: الأحسائي، إلا ويفرض زين الدين نفسه على الكلمة، كما أن كلمة أحمد بن زين الدين تستدرج كلمة الأحساء من ورائها، وهنالك مزجٌ بين هذه وتلك، وهذا المزج المعنوي لا يتحقق ما لم تكن هناك شدة جاذبة في طرف لطرف آخر.
فالشيخ الأوحد رجل عظيم بما تحمل الكلمة من معنى.
لروحه المقدسة في عالم الفردوس الأعلى ولأرواح علمائنا ومن مات من المؤمينن والمؤمنات الفاتحة مع الصلوات.
والحمد لله رب العالمين.