نص خطبة: قراءة للمشهد السياسي في الحوزة العلمية بقم المقدسة
إرهاصات ما بعد النبوة:
في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص) أنه قال : «يا عمار، تقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق، والحق معك. يا عمار، إذا رأيت علياً سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي (ع) ودع الناس، إنه لن يُدليك في ردىً، ولن يخرجك من الهدى» ([2]).
بدت معالم المشهد السياسي واضحة بعد غياب الرسول الأعظم محمد (ص)، فتقدم فيه من تقدم، وتأخر من تأخر، وحُسمت المكاسب لأطراف دون أخرى، واستتبعها صراع طويل عريض ابتدأ من ذلك اليوم، ولن ينتهى حتى تحسم الملفات جميعُها بيد الخلف الباقي من آل محمد (ص).
الأمة وميدان السياسة:
عوداً على بدء للحديث عن حوزة قم المقدسة، الذي توقف لأسابيع مضت نقول: من أبرز معالم التمظهر في حوزة قم هو المشرب السياسي الذي صاحبها منذ أيامها الأولى، وشق طريقه ليختم المطاف بإشراقة شمس بزغت على الكون وما زالت تمنح الضياء في كل مكان.
لقد قطعت الأمة مراحل هامة في هذا الطريق، وطوى المشهد السياسي مراحل كثيرة كانت تشتد تارة وتضعف أخرى، فيبرز رموز ويختفي آخرون، وتُصفَّى منظماتٌ وأحزابٌ وتكتلاتٌ ومذاهب، وتنمو على رأسها أخرى، وتُقام دولٌ وأنظمةٌ وحكومات، ثم تُقال أو تستقيل، فينتهي المشهد، ويبقى الملك الدائم لله سبحانه وتعالى.
المشهد السياسي بعد النبي (ص):
إن المشهد السياسي في وسط الأمة بعد الرسول (ص) كان يعجُّ بالكثير من المواقف والمشاهد، ولم تُغربل تلك المشاهد إلى يومنا هذا، إنما طمر التاريخ قسماً منها فيما طمر، وقسم منها وصل مشوَّهاً، أما ما وصل نقيّاً مصفّىً فهو نَزْرٌ يسير، لا يحكي عن ضابطة كافيةٍ نقرأ من خلالها حيثيات المشهد. وحتى هذا النزر اليسير لم تُولِه الأمة اهتماماً كافياً بحيث يُسبرُ غَورُه ويُنتهى إلى نتائج من خلاله. فما بُني على أساس باطل لا يولّد إلا الباطل، والمقدمات الناقصة لا تُنتج كمالاً، لذا نجد أن الأمة، وبعد هذه القرون، تدفع ضريبة كبيرة، فالمسلم لا يشتهي إلا قتل أخيه المسلم.
أما المشهد السياسي في مدرسة أهل بيت العصمة والطهارة من آل محمد (ص)، فقد اتسم بمجموعة من الصفات، جراء المراحل التي تخطاها بما يقرب من قرنين ونصف، إلا أن الأئمة (ع) تعددت أدوارهم من خلال ما وصلنا من التاريخ في التعاطي مع الأحداث والدول التي قامت وعاشوها.
هنالك عالم افتراضي وآخر واقعي، والإنسان الحكيم الثَّبت الحصيف هو الذي يتعامل مع الواقع بما هو واقع، بعيداً عن دائرة المحتمل، لأن المحتمل يبقى في دائرة الخيال، ولا استقرار للخيال على أرض الواقع.
ابتدأت مسيرة الأئمة (ع) بالإمام علي (ع) الذي عاش أيضاً مجموعة من المواقع والمواقف، فهو في زمن الخلافة الأولى بعد الرسول (ص) تحرك على أساسٍ معين، ومع الخليفة الثاني اتَّبع منهجاً آخر، فمع شدة الحاكم آنئذٍ، إلا أن الإمام (ع) أبدى حالة من التقارب أكثر منها مما كان مع الخليفة الأول.
ثم جاء الدور الثالث، في خلافة الخليفة الثالث، وكان الإمام علي (ع) في هذه المرحلة ـ الطويلة بين من تقدَّم ـ يعيش حالة من الترقب والقراءة الجدية، وإعداد القاعدة من أجل التغيير. وهذه المفردات لم نتعاطَها كثيراً فيما مضى كما ينبغي، وهي جديرة بأن تُغربَل وتُدرس، لأن المترتب عليها كثير من الصلاح والفائدة، لكن الحديث يطول بذلك، ولا أظن أن الموقف يساعد على استقصاء جميع جوانبه وحيثياته.
المشهد السياسي في أروقة الحوزة:
أما المشهد في صورته الثالثة، فهو المشهد السياسي داخل أروقة الحوزة العلمية، فالحوزة باعتبارها الوريث الطبيعي لمدرسة أهل البيت (ع) كان لا بد لها أن تعيش الإسلام في جميع جوانبه، فالإسلام يعني العبادة والعلم والعمل والحكومة، والروايات التي وصلت عن أهل البيت (ع) في نَظْم الأمر، سواء بالعنوان العام أم الخاص، هي أكثر من أن تحصى وتحصر، ومع ذلك لم يفتح عليها إلا كوة واحدة ضيقة في جميع حدودها، ألا وهي نظرية الولاية للفقيه في زمن الغيبة التي جاءت متأخرة، ولولا ما حصل من تحقيقِ مصداقٍ لها على الأرض يؤمِّن لها الثبات والاستقرار، فلربما طويت كما طوي الكثير من الملفات.
في مرحلة وجود المعصوم (ع) كان هو المسؤول أولاً وبالذات عن القرار في جميع أبعاده وحيثياته، أما في زمن الغيبة فقد انقسمت المدرسة الإمامية على نفسها من حيث القراءة للنص في باب الولاية في زمن الغيبة، لمن تكون؟ وما هي حدودها؟ فكانت هناك آراء متكثّرة في هذا الجانب، لكنها تُختصر في مقولتين:
الأولى: أن الولاية للفقيه، وأن من شؤونه إقامة الدولة الإسلامية في زمن الغيبة.
الثانية: ترى أن الأمور تجري مجرى الحسبيات، والفقيه في منأىً عن دائرة التأسيس لقيام الدولة الإسلامية، مع مجموعة من التفريعات هنا أو هناك.
إن هذا المشهد لم يجد له ما يؤمّنه في الخارج، لأن الدولة فعلاً تبقى في عالم الخيال في ذهنية الشيعي لقرون كثيرة، مؤمِّلة ـ بالمطلق ـ الإذن من الله سبحانه وتعالى للخلف الباقي (ع) بالقيام.
لقد شُبِّعت الذهنية الشيعية من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) بهذه المقولة، مما تسبب في تأخر أتباع هذه المدرسة في قراءاتهم السياسية، حتى مع بعض النجاحات المتخللة بين فقرات القرون.
بداية الانطلاق:
كانت بدايات المشهد السياسي في الحوزة العلمية إبان العهد الصفوي، لكن ذلك العهد الذي أعطى دفعاً وزخماً كبيراً لمدرسة أهل البيت (ع) لم تكن المؤسسة الدينية هي المؤسس له، إنما استطاعت الدولة الصفوية أن تستفيد من المؤسسة الدينية في تثبيت قواعدها، لذلك بنت نظريتها على مدرسة أهل البيت (ع) وأوكلت الأمور في القضاء وما شابهه من الأمور التي تحتاج إلى رأي الفقيه إلى أعلام الطائفة. فتحرك المحقق الكركي (رضوان الله عليه) وتبعته مدرسة إصفهان في المجلسيَّين ومن كان في مدرستهما، في تثبيت قواعد تلك الدولة.
المشهد السياسي في النجف:
أما المرحلة الثانية فتتمثل في العهد النجفي، وقد بلغ هذا العهد أوج كماله وتطوره أيام ثورة العشرين، أي في بدايات القرن العشرين الميلادي، وذلك عندما تصدى أعلامها بالفتوى الصريحة بوجوب مقارعة الانجليز، ورفع المجتهدون من علماء النجف بنادقهم وراياتهم، وتقدموا صفوف العشائر في الشعيبة وغيرها، وسقط من سقط منهم شهيداً، ومنهم من تم نفيه، ومنهم من أُلزم السجن أو الإقامة الجبرية في حدود النجف.
ولم نقرأ هذا المشهد في الكثير من مراحله إلا في الوثائق البريطانية، وهي وثائق لا تقدم لنا ما في صالحنا، إنما تقدم ما لها من مصالح، وخير شاهد على ذلك ما يجري في الساحة اليوم.
وبعد ثورة العشرين دخل العهد النجفي مرحلة الانكماش والانطواء على النفس في الحراك السياسي، واكتفى بتثبيت قواعد مدرسة الفقه والأصول، مع حركة ضعيفة جداً في باب التفسير والكلام.
المشهد السياسي في قم:
ثم أعقب ذلك، العهد القمّي، وهو المفخرة الكبرى لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) لأن الحوزة العلمية بلغت نضجها ورشدها وتكاملها، ويبقى الكمال لله تعالى. فلم يكن التكامل المذكور معروفاً ولا مسبوقاً في جميع الحوزات التي تقدمت، بل إنها أشبه بالمعِدّ والمهيئ لهذه الحوزة، وربما كان ذلك ضمن الآليات التي تهيئ للمهدي سلطانه. ففي الحديث الشريف: «يخرج ناسٌ من المشرق فيوطئون للمهدي» ([3]). أي سلطانه.
لقد بدأت هذه المدرسة مع الشيخ المؤسس آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، الذي يمثل خلاصة ثلاث من الحوزات الشيعية الكبرى: النجف، وكربلاء، وسامراء. وكلنا يعلم أن أركان هذه المدارس الثلاث هم من قادوا المشهد السياسي والحراك في العراق في ثورة العشرين.
جاء الشيخ الحائري من خلال هذا الواقع والمجتمع المتنور المتقدم، صاحب الحراك والرسالية، فكان لا بد أن يطبع بصمةً، ويضع حجر أساس ثابت ومستقر لبناء شامخ، ما تقضت الليالي والأيام إلا على ما تقضت عليه من الخير الكثير.
وارتحل الشيخ الحائري سنة 1358 هـ لتؤول الأمور إلى السيد محمد حسين البروجردي (قدس سره)، وهو وإن كان معاصراً للإمام السيد محسن الحكيم (قدس سره) إلا أن الخصائص الشخصية التي كان يمتاز بها أحدثت حالة من التوازن، كما استوجبت حالة من الجذب بين مدرسة قم ومدرسة النجف (الحاضنة الكبرى). وقد التف حول هذا السيد الجليل أرباب فكر وأصحاب قلم وبيان، وهذه المجموعة والمنظومة التي اجتمعت حول هذا السيد كانت ترى فيه حلمها الأكبر، لكن السيد تحرك أيضاً في حدود الحذر والحيطة والقراءة المتأنية، مع إصرارٍ كبير من أعلام تربَّوا على يديه أن يحرك المشهد قليلاً، إلا أن قراءته كانت تختلف عن قراءاتهم.
وهنا أرغب أن أشير إلى قضية بسيطة جداً، وهي أننا علينا أن لا نستعجل الأمور في استنتاجاتنا بعد القراءة، فالعقل إنما يصقل عندما يحتك بعقول الآخرين، والرأي إنما ينضج عندما يعرض على أصحاب الفكر والنظر في وسط الأمة، والعجلة لا تورث إلا الندامة.
الإمام الخميني: شخصية فذّة، ودورٌ مُميَّز:
ثم جاء دور السيد الإمام (رضوان الله على روحه الطاهرة الزكية المباركة) وكان من طبعه أن يعيش حالة من التغيير، فهو المرجع الجامع للشرائط، صاحب المدرسة الفقهية (المظلومة) لأن آراءه لا تُستعرض كما تُستعرض آراء الآخرين، ولا أدري ما الذي يقف وراء الأكمة؟ وفي صالح من تجري هذه الأمور؟
لقد ترك السيد الإمام (رضوان الله عليه) في حركته تغييراً كبيراً، وقد لفّ الأبعاد الثلاثة على وجه الأرض، ومن يعيش اليوم في الوسط الشيعي في عمر الخمسين، يدرك ما الذي حدث قبل ثلاثة عقود من الزمن، ومن عاش أكثر فهو أكثر قدرة على التمييز والمفارقة بين ما كانت عليه الأمة قبل ثلاثين سنة وما هي عليه اليوم من وعي ورُشدٍ واعتزاز، ولا اعتزاز إلا بشيء على الأرض. فأنت لا تفتخر بولدك حتى يكون فعله وموقعه مستوجباً لرفع الهامة، أما من لا يمتلك ولداً بهذه الحيثية، فهو ممن يطأطئ رأسه.
إن شيعة أهل البيت (ع) رفعوا رؤوسهم جراء انتصار كبير أذهل الساسة في شرق الأرض وغربها. فالوسط الإسلامي ـ وهي دائرة أوسع من التشيع، وفيها المذاهب الإسلامية المختلفة ـ تأثر بتلك النقلة أيضاً، وحصلت حالة من الحراك في أوساطهم، إما على نحو السنة في طابعهم العام، بعيداً عن التحزب والتعصب، أو على نحو التسنّن المسيس، كما هو الحال في الإخوة السلفيين، أو على نحو السنة العلمانيين أو القوميين والبعثيين والشيوعيين، فهم وإن كانوا سُنّة، إلا أنهم ينهلون من مشارب فكرية معينة، فهؤلاء تأثروا أيضاً بما حصل في إيران قبل عقود ثلاثة.
ولم يقف المشهد عند هذا الحد، إنما ذهب إلى ما هو أبعد منه، وهو المشهد الأممي، فقد تغيرت الكثير من معالم هذا المشهد جراء التغيير الذي حصل، ولا زالت الدوائر الاستكبارية في الغرب، إلى يومنا هذا، تقرأ الارتدادات الحاصلة جراء ذلك الحراك، لذا فإنها لا تنفكّ عن وضع الخطط والمؤامرات لإفشال المشهد الإسلامي ببعديه الشيعي والسني. ويخطئ الشيعي إذا تصور أن المؤامرة تُصَبُّ على رأسه فقط، وكذلك الأخ السني يخطئ عندما يعتقد أن المؤامرة عليه فقط، فالمؤامرة على الإسلام، لأن انحلال الركن الشرقي في روسيا الكبرى يوماً من الأيام، استوجب ملء الفراغ، والغرب لم يقرأ بديلاً في ملء مساحة الفراغ إلا الإسلام، فهو بعظمته قادر على أن يجاري ويتقدم إن شاء الله.
مقومات العمل السياسي عند الإمام الخميني:
من أهم مقومات العمل لدى هذا السيد الجليل، التي جعلته يحدث هذا التغيير الكبير:
1 ـ شرف الانتماء للبيت العلوي الطاهر، فهو سيدٌ من سادة.
2 ـ خصوصية الأسرة: فقد انحدر عن أبٍ شهيد تم قتله غيلة وغدراً من قبل أجهزة الأمن الشاهنشاهيه آنذاك، وهو ما بصم بصمة خاصة في ذهنيته في طفولته وشبابه وحتى نهاية مراحل عمره.
3 ـ المرحلة التي عاشها: فقد انفتح السيد الإمام على جميع ألوان الطيف من حوله، واستطاع أن يقرأها ويجمعها ويستخلصها ويمضي ما يمكن إمضاؤه، ويضع حداً لما يفترض أن يضع له حداً، لذا قال مقولته المشهورة: أنا والشاه لا نجتمع تحت سقف واحد. وقد تحقق له ما تحقق.
يقول البعض: إن تلك المقولة كانت نبوءةً، وأنا لا أدرجها في هذا المقام، إنما هي القراءة الدقيقة المبنية على القواعد.
4 ـ تكامل الشخصية: وهو ما جعل منه رمزاً متفرداً في منظومة علماء الطائفة منذ زمن الكليني إلى يومنا هذا، فهو المتميز في مساحة العلم والسلوك والفكر والجهاد والإخلاص لله تعالى والذوبان في الخلف الباقي من آل محمد (ص).
5 ـ اتضاح الرؤية، ووضوح الهدف أمامه: وهو ما أتاح له أفقاً واسعاً يحلّق من خلاله في الفضاءات، ليستخلص من خلال ذلك ما يؤمّن جذوةً لهذه الأمة تستنير من خلالها الطريق.
متطلبات العصر:
ما نحتاجه اليوم ـ أيها الأحبة ـ هو الثقافة بمصدريها: الديني، الذي يثبت لنا القواعد والارتباط بأهل البيت (ع) كما ينبغي، ثم الثقافة العامة من حولنا، فما عاد رجل الدين كما كان، وما عاد ما يُنتظر منه كما كان أيضاً، إنما يراد منه أن يكون قارئاً ومفكراً ومنظِّراً ومتقدماً في موقعه.
ولا يكفي في الثقافة أن يجمع المرء مجموعة من المصطلحات، أو يستظهر مجموعة من النظريات، إنما لا بد من الانتقال إلى مرحلة أكر تكاملاً ورشداً، وهي الوعي، بأن يعي الإنسان ما يقرأ، ومن أي مشربٍ ينهل، فهذا أمر مهم، ثم تأتي التجربة التي تصقل المواهب، وهذه نحتاجها كثيراً.
لقد جمع السيد الإمام (رضوان الله عليه) بين هذه الأضلاع الثلاثة، مع اجتهاد من نوعٍ خاص، حيث مزج بين المعقول والمعقول، واستنتج الدرر واللآلئ. وأسأل الله تعالى أن تتنبه بعض أروقة الحوزة العلمية من رقدتها، لتنفتح على فكره وفقهه وتفسيره وأصوله وفلسفته وعرفانه وقراءته في المشهد السياسي.
إن الذي دفع السيد الإمام إلى ذلك هو تصحيح ما وقعت فيه الأمة، ففي الحديث الشريف عن علي (ع): «إنما بَدءُ وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبعُ، وأحكامٌ تُبتدع، يخالَفُ فيها كتابُ الله، ويَتولى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله» ([4])، فهناك أحكام باتت تشغل الساحة ولا منشأ لها ولا مؤمِّن، حتى بات البعض من رجالات العلم عندما يُسأل يجيب من خلال استنتاجه الشخصي، لا من خلال مصدرية القول واستناده للمرجع الذي يرجع إليه، وهي واحدة من الكوارث والطامات، فالتقوى في نقل الفتوى أمر واجب، لأن المكلف عندما يعمل لا على وفق المطابقة، يعني فيما يعنيه هذا العمل، استحداث مساحة بين يدي رب العزة والجلال في يوم يشهده القاصي والداني للمساءلة : من أين؟ ولماذا؟
إن حالة (الإمَّعِيَّةِ) في وسط الأمة فسدت بانتهاء تاريخها، وما عاد الإنسان اليوم يمشي (إمَّعياً) إن أخذته الريح يميناً اتجه، أو أخذته لليسار اتجه.
أيها الأحبة: كلنا يعلم ما أنتم عليه اليوم، وما عليه الأمة، من رشد ونضج ووعي، ما عاد يسمح للإنسان، أو يترك له مساحة من العذر أن يكون إمعياً، فعليك أن تسأل وتسأل، ثم تحكّم عقلك، فإن أرشدك وإلا عليك أن تغادرْ مساحة العمى المتولدة من الإمعية.
ثم يقول (ع): «فلو أن الباطل خلَصَ من مِزاج الحق، لم يخفَ على المرتادين، ولو أن الحقَّ خَلَص من لَبْسِ الباطل انقطعت عنه ألسنُ المعاندين ([5]) ولكن يؤخذُ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيُمزَجان، فهنالك يستولي الشيطانُ على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى» ([6]).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المحسنين، وأن يوفقنا وإياكم لطريق الخير والصلاح، إنه ولي ذلك.
والحمد لله رب العالمين.