نص خطبة:قراءة في حياة الإمام الباقر عليه السلام

نص خطبة:قراءة في حياة الإمام الباقر عليه السلام

عدد الزوار: 2604

2016-09-15

الجمعة 7 / 12 / 1437 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

عظم الله أجورنا وأجوركم في إمامنا الباقر من آل محمد (ص).

في الحديث الشريف: «لا تَستصْغِروا مَوَدَّتَنا فإنّها من الباقيات الصالحات»([2]). اللهم ثبتنا على ولايتهم ومحبتهم ومودتهم.

الإمام الباقر (ع) رائد السلم الأهلي:

ونحن نعيش ذكرى شهادة الإمام الباقر (ع) نجد أننا إذا بحثنا عمن وضع حجر الأساس للسلم الأهلي في مسيرة المسلمين عامة فسوف تقف هذه الشخصية شاخصة للعيان. فالإمام الباقر (ع) أصّل لمرحلة السلم الأهلي من خلال مواقفه وأدائه وما تقرب به إلى الطرف الآخر، بغض النظر عن التوجه والانتماء الذي كان يشغله الآخر، سواء اتفق في الدين أو المذهب أم اختلف وافترق.

فالإمام (ع) صبّ جهوداً مضنية في هذا الجانب، وحريٌّ بنا أن نرجع إليها ونقرأ فصولها ونسعى لتجسيدها في حياتنا اليوم، لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لأن يسود السلم الأهلي جميع البلدان والمناطق، لا سيما ما كانت من الإسلام وإليه.

إن الإمام الباقر (ع) شغل مساحة الرضا عند جميع الأطراف، لما لمسوا في شخصه وأدائه من الممارسة العملية لما أصّل له الكتاب المنزل والسيرة النبوية الشريفة، حيث المحبة والسلام والرغبة في العيش الآمن والمصير المشترك تمثل سيدة الموقف.

البعد العلمي في شخصيته:

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي صاحب شرح نهج البلاغة، وهو الأشهر بين شروح هذا النهج: وهو سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر باقر العلم([3]).

والفقه أيها الأحبة هو العمود الفقري الذي تبنى من حوله الكتلة في مسار التكليف، والفقيه متى انفتح على الوضع من حوله تقدم خطىً واسعة وشاملة وثابتة في نفس الوقت فيما يؤمّن للمكلفين رفع غائلة التكليف  عن عواتقهم.

هذا الأبرش الكلبي، وهو محسوب على الأمويين بامتياز، يسأل الإمام الباقر (ع) مجموعة من المسائل فيجيبه إجابات شافية، فيخاطبه قائلاً: أنت ابن بنت رسول الله حقاً. ثم صار إلى هشام فقال: دعونا منكم يا بني أمية فإن هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء والأرض، فهذا ولد رسول الله([4]).  

وقد رأى جابر بن عبد الله الأنصاري الإمام الباقر وهو في حداثة سنه، في أغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك، فنظر جابر إليه مقبلاً، فقال: هذه مشية رسول‏ الله‏ (ص) وسجيته، فمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا محمد بن علي بن الحسين، فبكى جابر بن عبد الله (رضي الله عنه). ثم قال: أنت والله الباقر عن العلم حقاً([5]).

فالإمام الباقر (ع) أسس لمبدأ التعايش السلمي بحيث اضطر الطرف الآخر أن يضع النقاط على الحروف وإن كلفه ذلك ثمناً كبيراً، فالحقيقة تفرض نفسها. ومن الواضح أن السلوك الخارجي أكثر تقريباً للطرف الآخر من القول، لأن القول يبقى في دائرة الإقرار والإنكار، أما الفعل فهو تجسيد واقعي، تم تشخيصه وبنيت عليه الآثار.

بعض ما ورد عنه (ع) في العقيدة:

ونحن أيها الأحبة إذا أردنا أن نتزود بنور العلم فإن باباً من أبواب المعرفة هو الإمام الباقر (ع) لأنه باقر علوم الأولين والآخرين كما في الروايات، كما أنه باقر علوم آل محمد (ص).

فمن أهم المطالب وأكثرها حساسية عند البحث مسألة التوحيد، والإيمان بالله سبحانه وتعالى ونبذ الشريك، وفي هذا المطلب تتعدد الآراء وتتكثر المدارس والمذاهب والنحل والطرق، والسبب في ذلك إما عدم الرؤية الواضحة، أو عدم وصول البلاغ والبيان والحجة كما ينبغي، وربما يكون بسبب العناد، وأحياناً يكون بسبب الغرور المتربع في نفس الإنسان الذي يجر للهاوية من حيث لا يشعر، ولو شعر به لما خطا الخطوة الثانية بعد الأولى.

وللإمام الباقر (ع) مدرسته في العقيدة والفقه، بل هو الذي وضع حجر الأساس لمدرسة الإمام الصادق (ع) المتعددة في جوانب عطائها وإثرائها، فوضْعُ حجر الأساس والتخطيط كان على يدي هذا الإمام العظيم، ثم جاء الإمام الصادق (ع) ففعّل هذه الآليات واستطاع أن يؤمّن ما نستضيء به اليوم ونلتزم بثوابته.

ففي مسألة التوحيد يضع الإمام الباقر (ع) بين أيدينا الدليل على أساس من السهل الممتنع، فأنت على مقربة من معطياته حال أنه يتعذر على الباحث والمنظّر في الوقت نفسه أن ينهج هذا الأسلوب، ويحذو حذوه. فكلام أهل البيت (ع) نور، كما نقرأ في الزيارة، والنور يتجلى وضوحاً عندما تشتد الظلمة، لذا أن نورهم يخترق الحجب حتى يصل إلى معدن العظمة، لا يحده حدٌّ، غاية ما في الأمر أننا عندما نحاول الاقتراب والاستفادة منه قد لا نكون على درجة من الاستعداد لأن يكون لذلك الإشراق مساحة يشغلها في داخلنا، بسبب الرّين المتراكم، أو التجاوزات التي لا نحسب لها حساباً، أو التسويف، فمن لا يستغفر اليوم يغتر بالأمل الطويل، فليس هناك ضمان للحياة التي أمامنا من قبل الله سبحانه وتعالى، بل على العكس من ذلك، فما هو إلا أمر سماوي يصدر لملك الموت بأن اقبض روح فلان من الناس، فلا يستغرق الأمر أكثر من كن، فيكون، وتنتهي حياة الإنسان. فالحياة بيد من منحها وهو الله سبحانه وتعالى.

أيها الشباب: لنكن صادقين واقعيين مع أنفسنا مع من نصفهم بأنهم ملحدون، ولنسأل هذا الذي يشرّق أو يغرب: هل قرأت القرآن كما أنزل على قلب النبي (ص)؟ وهل عشت أبعاده؟ وهل سبرت غوره؟ وما هو زادك الذي حققت على أساسه تلك الأمور خارجاً؟ فإن كان في جوابه صادقاً صدوقاً مع نفسه فبها، وإن كان في دائرة من يخادع نفسه فلا تجهد نفسك وراءه، فأنت كمن يجري وراء سراب، يحسبه الظمآن ماءً.

فالإمام الباقر (ع) يأخذ بأيدينا من خلال مسألة مختصرة قريبة، فيقول (ع): «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئةٍ وإرادةٍ وقَدَرٍ وقضاء وإذْنٍ وكتابٍ وأَجَلٍ، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر»([6]). فإذا تمت هذه الأمور وصلنا إلى ما هو في عالم الشهود الخارجي. وقد قطع الإمام (ع) الأمر بهذا النص، فلا نحتاج أن نذهب يميناً أو شمالاً أو نتلاعب بالنص، فأهل البيت (ع) يأخذون بأيدينا من خلال أقصر الطرق للوصول إلى الحقيقة والنتيجة التي بنى عليها الصلاح في الدارين.

كما أن الإمام الباقر (ع) لم يدع أتباع هذه المدرسة وأتباع مدرسة الإسلام بصفة عامة، أن تذهب بعيداً عن دائرة الحقيقة إن هم أرادوا بلوغها، فعلمهم (ع) نور يشع على الجميع من حولهم، ولكن كلٌّ بحسبه، فالشمس المشرقة قد يستفاد منها في جانب من الأرض ولا يستفاد منها في جانب آخر، فالدول المتقدمة لا تتعامل مع الشمس من حيث التقينة كما تتعامل الدول النامية، ونورهم بهذه الكيفية، إذ إنه موجود آناء الليل وأطراف النهار لا يحجبه ليلٌ داجٍ، لكن الحجب فينا نحن والظلمة تمنعنا.

يقول (ع) وهو يرسم لنا معالم الطريق نحو الوصول للهدف في باب التوحيد: «تكلموا فيما دون‏ العرش ولا تكلموا فيما فوق العرش، فإن قوماً تكلموا في الله فتاهوا، حتى كان الرجل يُنادَى من بين يديه فيجيب من خلفه، وينادَى من خلفه فيجيب من بين يديه»([7]).

أما في الإيمان فيضع لنا قواعد محددة كي لا نزايد على أحد في إيمانه وتدينه والتزامه. فاليوم ـ مع شديد الأسف ـ بات الإنسان المتدين كالراهب في الكنيسة زمن القرون السالفة، فهو يوزع صكوك الغفران لمن يشاء، ويذهب بمن لا يشاء إلى الجحيم، وهي ميزة لم يعطها الله لأحد، ولم يعطها النبي ولا الأنبياء لأحد، بل بالعكس، طلبوا منا المساعدة على الخلاص، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد»([8]).  

يقول (ع) عن الإيمان: «الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل»([9])، فلا يكفي في الإيمان مجرد الإقرار بالربوبية والرسالة والإمامة، ولا يحقق لك ما تطمح بالوصول إليه، ما لم يصاحبه عمل واجتهاد. فالاجتهاد إنما يكون في تصحيح العمل لا في كثرة العمل، فمن حجّ عشرين مرة أو زار خمسين مرة قد لا يساوي عمله عمل من جلس في بيته وتوجه نحو قبر الحسين (ع) وسلم عليه بنفس صافية ونية صادقة.  فالإمام الحسين (ع) يسمع كلامه ويردّ سلامه، وهذا أفضل ممن يذهب خمسين مرة لزيارته بأموال مشتبهة، إما أنها من أموال غيره، أو فيها حق الله، أو غير ذلك.

ويقول (ع): «الإيمانُ ما كان في القلب، والإسلام ما عليه التناكح‏ والتوارث وحُقنت به الدماء، والإيمان يشرك الإسلام، والإسلام لا يشرك الإيمان»([10]). فمن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل في دائرة الإسلام وعصمته، فلا مبرر لأحد أن يهدر دمه أو ينتهك عرضه أو يسلب ماله أو يكدر حياته، فلا يعيش أمناً ولا استقراراً، حتى تتسع دائرة الظلم والجور لتشمل الأوطان وتدمر البلدان. كل ذلك سببه أن الإيمان غير مستقر ولم يبنَ على وعي ودراية إنما بني على أساس من الوثنية.

وهذا الأمر يتسع ليشمل مساحات كثيرة، منها أنه يدمر نفسية الإنسان الفقيه، فإذا ضعف إيمانه انعكس عليه فدمر إيمانه، فراح يفتي بالفتوى المهلهلة غير القائمة على أساس. لذا نلاحظ في العقد الأخير أن إراقة الدم باتت تُشرعن.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.